الجمعة , 20 سبتمبر 2024 - 16 ربيع الأول 1446 هـ 4:33 مساءً
د. كارل هندريك، أستاذ التربية والتعليم المساعد في جامعة ويلينقتون.
ليس من الهيّن مزاولة مهنة المراقبة الجوية; لأنها تتمركز على قدرة إدراكية تُعرف بـ "الإلمام بالوضع المحيط"، وهي القدرة على مواصلة استخلاص المعلومات من البيئة المحيطة، ومن ثمّ ضمّها إلى المعارف السابقة حتى تتكون منها صورة ذهنية متماسكة. ولمزاولة تلك المهنة، لا بد للدماغ أن يحتفظ بكمٍّ هائل من المعلومات. كما يجب على المراقبين الجويين -تحت الضغط الهائل- اتخاذ قرارات حاسمة على مدار الـ ٢٤ ساعة التي يعملونها بالتناوب. ونظرًا لشدة الضغط النفسي الذي يتعرض له مزاولو تلك المهنة، فإنه يُتاح لهم طلب التقاعد المبكر، بل إنهم في الولايات المتحدة يجب عليهم -دون استثناء- التقاعد قبل سن الـ ٥٦.
أجرى الباحثون في الستينيات سلسلة من التجارب التي تناولت القدرات الذهنية للمراقبين الجويين، وكانت غايتهم فيها معرفة ما إذا كان مزاولو تلك المهنة أقدر على الإلمام بأمور متعددة في الوقت ذاته، وما إذا كان يمكن الاستفادة من تلك القدرة خلال مواقف أخرى. راقب الباحثون العينة المستهدفة أثناء عملهم، ومن ثمّ قدموا لهم مجموعة من الاختبارات الخاصة بالقدرة على تذكر الأشكال والألوان، والتي تخرج عن نطاق خبرتهم السابقة. وما يثير الاستغراب هو أن أداءهم في تلك الاختبارات كان عاديًا جدًا، لذا ما يمكننا استنتاجه هنا هو أن قدرة هؤلاء المراقبين الجويين الإدراكية لم تتجاوز نطاق عملهم.
وفي أوائل الثمانينيات، أصبحت المدارس مولعة بفكرة تبنّي تعليم الطلاب مهارات التفكير العامة، وذلك سعيًا للّحاق بركب العالم المعاصر -وخاصةً سوق العمل-.
تهدف مهارات التعلم في القرن الحالي -وهي ما توصف أحيانًا بالتفكير النقدي- إلى تزويد الطلاب بأساليب عدة لحل المشكلات في شتّى المجالات؛ والذي يرى رجال الأعمال أنها من أهم المقوّمات لمواجهة عصر كالعصر الحالي. دائمًا نطمح أن يمتلك الأطفال والخرّيجين أدوات إدراكية عامة لترشد سبيلهم، لذا فليس باللائق أن نخفق في تدريس مهارة التفكير النقدي.
في ضوء ما سلف من دراسات على المراقبين الجويين، فإن الخبرة في مجالٍ ما تشترط الإلمام بالكثير منه، لذا فمن الصعب تطبيق تلك الخبرة على المجالات الأخرى. وما يعقّد الأمر أكثر هو أن الخبرة المهنية العالية تتطلب امتلاك معارف متخصصة ومتعمقة. خلصت الدراسات الحديثة إلى أنه مع ازدياد التعقيد والصعوبة في مجال ما، تزداد أهمية المعرفة المتخصصة فيه.
عدم القدرة على تطبيق المهارات الإدراكية في شتّى المجالات هو أمر تم تداوله مرارًا، ولطالما كان محلّ نقاش في ميدان الأبحاث النفسية. فعلى سبيل المثال، توجد دراسات أخرى تثبت أن القدرة على تذكر سلسلة طويلة من الأعداد لا تعني بالضرورة القدرة على تذكر سلسلة طويلة من الحروف. لا غرو في ذلك، فإننا نشهد بعض العينات في حياتنا من هم بارعون في مهنتهم، ولا يعني ذلك خلوّ حياتهم الشخصية من القرارات السيئة.
كلما ارتفع مستوى الفرد في مجالٍ ما، كانت خبرته فيه متخصصة أكثر؛ وينطبق ذلك تقريبًا على شتّى مجالات الحياة. في فريق كرة القدم، على سبيل المثال، توجد أدوار أو مراكز مختلفة: حارس المرمى، والمدافع، والمهاجم. ويندرج تحت تلك المراكز فروعٌ أخرى: قلب الدفاع، والظهير الدفاعي، ولاعب الوسط الهجومي، والمحور الدفاعي، ولاعب الهجوم. يمكن لمجموعة من اللاعبين الهاوين أن يبدّلوا بين مراكزهم، ولكن عندما نتحدث عن السياق المهني، فإننا لو بدّلنا بين الظهير الأيسر والهداف أو الظهير الأيسر ولاعب خط الوسط، فسيتشتتون. حتى يتخذ اللاعبون قرارات سريعة وسليمة، ويصنعون استراتيجيات متماسكة وفعالة، فإن ذلك يتطلب آلاف النماذج الذهنية، والآلاف من ساعات التدريب لعمل تلك النماذج المحددة والخاصة بالمركز.
أصبح جليًّا أن التفكير النقدي يعد جزءًا جوهريًا من المقوّمات الذهنية للطالب، ومع ذلك فإنه لا يمكن تجريد التفكير النقدي ليصبح قائمًا بذاته. إن تعليم الطلاب مهارات التفكير العامة -بعيدًا عن مناهجهم الدراسية- لا يسمن ولا يغني من جوع. وكما يقول العالم التربوي الأمريكي دانييل ويلينغهام Daniel Willingham:
إذا نبّهت الطالب مرارًا بأن يتناول المشكلة من وجهات نظر متعددة، فإنه سيعي وجوب ذلك عليه، ولكن لن يتمكن من القيام بذلك إذا لم يفهم تلك المشكلة بشكل كافٍ... لا يعد التفكير النقدي مهارة (ولا حتى التفكير العلمي، أو المتركز في مجالٍ ما)، كما لا توجد أي مهارة من مهارات التفكير النقدي يمكن اكتسابها وتطبيقها على أي مجال.
إن مسألة فصل المثاليات الإدراكية عن المعرفة في مجالٍ ما لا تقتصر فقط على تعلّم التفكير النقدي، فبعض المدارس تولي مهارات التعلم في العصر الحالي اهتمامًا كبيرًا، بل أن البعض أصبح يرى أن تلك المهارات المُبهمة مهمة بقدر أهمية القراءة والكتابة، وأنه يجب على المدارس أن توليها العناية ذاتها. ومثالٌ على ذلك فإن الادعاءات بأن الألعاب العقلية ترفع من مستوى الذكاء والنباهة وسرعة التعلم لدى الطالب – قد أبطلتها الأبحاث مؤخرًا. كما أبطلتها دراسة أخرى استعرضت أكثر من ١٣٠ ورقة علمية، والتي خلصت إلى:
لا يوجد أي برهان على أن ممارسة المهارات الإدراكية القائمة بذاتها قد تزيد من الإدراك، أو تحسّن الأداء الأكاديمي، أو المهني، أو الاجتماعي.
وينطبق ذلك أيضًا على غرس "الطّبائع"، كالذكاء والتعلّم (التي تركز على الإرادة والجهد بدلًا من الموهبة الفطرية) أو المثابرة (الثبات في وجه العقبات). من الصعب غرس هذه الطّبائع ، ولا يوجد برهان على أن تدريسها خارج نطاق مجال متخصص قد يولّد أي أثر.
لا بد من التركيز على التفكير النقدي الذي يسلط الضوء على موضوع ما، والذي يسعى لتوسيع نطاق معرفة الطلاب وكشف الستار عمّا هو مُبهم - بدلًا من تدريسهم مهارات التفكير النقدي المجردة. إن الطالب المتخصص في الأدب، على سبيل المثال، والذي يكنّ بالغ الاحترام لهوس فيكتور فرانكنشتين Victor Frankenstein وأسلوبه في الوصف أن يجعل من الموت حياة، سيحظى بتصور أفضل عند قراءة روايته، والتي توفيت فيها والدة ماري شيلي Mary Shelly بعد ولادة ابنتها شيلي، كما فقدت شيلي ذاتها أطفالًا.
إن طالب الفيزياء -الذي يتحرى عن سبب اختلاف سلوك طائرتين في الجو- قد يعرف كيف يمارس التفكير النقدي باستخدام منهجية علمية، ولكن دون معرفة راسخة بالحالات الطارئة (مثل درجة الحرارة)، كما لا يعرف الكمٌّ الهائل من دراسات الحالة التي يمكن الاستناد إليها، وعليه فإن الطالب سيجد صعوبة بالغة في تحديد الفرضيات التي يجب الارتكاز عليها، والمتغيرات التي يجب استبعادها.
وأخيرًا، فإن المعلمين لو أرادوا خلق تأثير في أسلوب تفكير طلابهم، فلا بد من تزويدهم بأمور واقعية من عالمنا ليفكروا بها.
وكما قال ويلينغهام: "يرتبط سير عملية التفكير ارتباطًا وثيقًا بما يفكر به الفرد.".