الجمعة , 17 يناير 2025 - 17 رجب 1446 هـ 11:19 مساءً
دييف إليز، باحث دكتوراة ومحاضر في الفلسفة والأديان بجامعة بانغور.
يتبادر سؤال بذهن الناس وهو: كيف ينبغي علينا أن نعيش؟ حين تحل عليهم مصيبة تعكر صفو الحياة، لكنه ليس سؤال يراد به الجواب المباشر كما لو أننا ننتظر وحي أو إلهام ليجيب علينا.
إن هذا السؤال يحتاج إلى معالجة ليلتئم، ولعله واضح أن الأكاديميات الفلسفية لا تتطرق بدقة إلى هذا السؤال، قال الفيلسوف الأسترالي رايموند غايتا أن هذا السؤال نابع من أعماق أرواحنا وإنسانيتنا، فجميعنا نهدف للوصول لجواب شافٍ له، في الغالب تفتقد الأكاديميات المعنى المنشود لفهم معنى جوهر الحياة والتعامل مع المشاكل التي تتعلق بهذا الأمر كأحجيات منطقية تنجلي مع الوقت أو يمكن تجاهلها على أنها مشاكل غير جدية أو يكون لها حل واحد في كل الأزمنة. من الجدير بالذكر أنه في مناسبات عديدة طالب الفيلسوفان غلبرت رايل و ميكيل بورلي بإعادة مراجعة نهج الأكاديميات لهذه الأسئلة حتى نفهم جوهرها بإدراك متوسع الآفاق، ولكن في الوقت الذي يرتقي فيه الوعي ويستوعب تعقيد وتنوع هذه الأسئلة، لم تنجح هذه المناهج في التعامل مع جوهر فطرتهم الإنسانية.
تواجد الانسانية وقرارة الفهم لهذه الأسئلة لا يتأثر بالسياق الذي طرحت فيه بل تنشأ من جذورها ومن خلفية من طرح هذه الأسئلة، فهي أسئلة واقعية لأشخاص حقيقين وينبغي بألا يصرف النظر عنها بالتبجح بالمنطقية او نعاملها على أنها عناوين مثيرة في لبعض الندوات، سأضحك ساخراً لو سمعت جهازًا يسأل: كيف نعيش؟ بعد أن هزمته في لعبة الشطرنج، لكن حتماَ سأبكي لو سمعت امرأة تسأل زوجها نفس السؤال بعد موت ابنهم. على تشابه كلمات السؤال المطروح إلا أن المعنى يختلف باختلاف السياق، فسؤال المرأة لزوجها فيه الجانب الإنساني والعمق الجوهري، بينما لم يكن في سؤال الجهاز هذا الجانب، يجب علينا استيعاب هذا الأمر حتى نستطيع إيجاد جواب للمرأة التي سألته بقلب مرير.
لا يمكن للجهاز أن يسأل هذا السؤال بمعنى صادق، ولعلها إهانة أن نشير للإنسان بصفة "الجماد" ففي هذا السياق الإنسان وحده يستطيع أن يسأل هذا السؤال. فعندما نسمع كلمات الأم يكون في طيات كلماتها شيء عميق يكشف لنا ما قد كان خفيًا في الماضي. في حين أن في سؤال الجهاز ما لا يستحق حتى القول بأنه سطحي لأنه لا يكشف لنا أي شيء، فهو كالببغاء يكرر الكلمات التي يتلقاها دون فهم المعنى الذي يكون عادة في الإطار الانساني الذي يعطي الكلمات معناها الشائع، وهذا لا يعني بأن الجهاز لن يتحلى في يوم من الأيام بالذكاء أو الوعي أو الإحساس لفهم تلك المعاني، ولا حتى أن لغة الإنسان تعتبر "سرية أو خاصة"؛ فالأمر كما تطرق له فيتغنشتاين "لو نطق الأسد، لما استطعنا فهمه" .
مما يعني أن الشكل الذي تتلون به اللغة يتأثر بالإطار الاجتماعي المركب للمتحدث وبحسب درجة تشابه أشكال الحياة مع المتحدث نستطيع فهم فحوى ما ينطقه. "حياة" الجهاز إما أن يكون لها بعد واحد كما نعتقد وذلك لافتقارها العمق، وحتى لو كانت تحتوي عليه فهي لا تستطيع التواصل بلغة الأنسان وسبب ذلك الاختلافات الكبيرة التي توجد بين الإنسان والأجهزة، فشرائح السيلكون والأسلاك النحاسية لا تستوعب إنسانية لغتنا العميقة ومعانيها.
هذا العمق للحالات البشرية هو جزء مما نقصد عندما نتحدث عن إنسانيتنا او أرواحنا وأنفسنا، يجب على جميع من يتمنى أن يسأل أو يستكشف هذا الجانب من الطابع البشري أن يفعل ذلك في إطار لغوي يستطيع فيه التواصل ومطابقة معاني هذه اللغات، نسمّي هذه الانواع من اللغات بالروحانيات، غير أن هذا لا يجب أن يفهم بمعناه الحرفي كي نؤمنه بوجوده الحقيقي حتى نتمكن من استخدام هذه اللغة.
إن كثيرًا من أسئلة معاني الحياة تحرف من يحرفها أولئك المتسرعين الذين يفهمون مواضيعها أنها طلب مباشر لإجابة موضوعية وواقعية.
مثلا، عندما ترى ما يعنيه الملحدون بكلمة "روح" في الوقت الذي أنكروا فيه الجزء المعنوي للكلمة الذي يؤكد وجود الأرواح حقًا، إن ما أعنيه عند وصفي للعبودية بأنها مدمرة للروح. إذا ادّعى الملحدون أن العبودية لا تدمّر الروح لعدم وجود الأرواح أساسا، فهنا نقول بأنهم تاهوا عن المعنى المنشود لتعاملهم الحرفي المبالغ فيه مع معناها. ولكنك إذا أخذت معنى عبارة "العبودية مدمرة للروح" بتجرّد من كل شيء لن تحرف حينها ما أقصده بل ستمنعني من قولها دائمًا. إن ما أريد التعبير عنه يصف بعمق التجربة التي أمر بها؛ فوجود الأرواح من عدمها لا يؤثر على العبارة لأنه ليس مقصودها ومعناها. فمعناها يوحد في اللغة الروحية ببعد مختلف عما يعتقد الإدراكيون بغض النظر عن إلحادهم. ولا يتحقق فهم ذلك إلا بقدرتنا على غرس معنى اللغة ضمن عملية إدراكية نعبّر بها ونحسّها مع بعضنا بعضا.
حين نفكر بإجابة على "كيف ينبغي علينا نعيش حياتنا؟" يجب علينا أولا تحديد سياق السؤال، هل كان معرفيًا بحتًا يبحث عن جواب مباشر؟ أم أنه روحي غير معرفي نسعى للإجابة به على إنسان ما في موقف معين؟ فهذا السؤال لطالما سُئل في الأزمات واليأس أو في لحظات الحب والفرح التي تعبّر وتشرح مشاعرنا.