الجمعة , 20 سبتمبر 2024 - 16 ربيع الأول 1446 هـ 6:07 مساءً
الكاتبة ميريام سكونفيلد أستاذة الفلسفة في جامعة تكساس.
تتشكل كثير من معتقداتنا التي ترسّخ نظرتنا لعالمنا من مجتمعنا الذي نشأنا فيه، فمن ينشأ في كنف والدين متدينين، سيصبح متدينا، ومن يتعلم في مؤسسات تعليمية متحررة، سيصبح متحررًا، ومن ينشأ في مجتمع يدعم الحزب الديموقراطي للحزب الديموقراطي، سيصوّت له، ومن ينشأ في مجتمع يدعم الحزب الجمهوري، سيصوّت له، إلا أن هناك من يقاوم المؤثرات الاجتماعية وأفكارها المظللة وتحيزاتها بوعيهم وذكائهم، فإدراك أن هذه المعتقدات تتأثر بالمؤثرات الاجتماعية يرفع نباهتنا عنها.
لنضرب مثالا أنني ولدت وسط مجتمع ملحد لا يؤمن بالإله، سأكون مثلهم، ويقابلها إذا ولدت في مجتمع مؤمن سأكون مؤمنا به، وسأواجه كل أسئلة عن وجوده أيضًا من العلوم والتاريخ، ومن الاستماع للجدالات المتكررة عن وجود الإله، والسبب في اختلافات الناس عن معتقداتهم أنهم يختلفون في تفسير اعتباراتهم وحججهم، فلا يمكن الوصول إلى دليل قاطع ومقنع من جلسة نقاش واحدة، ولو كان كذلك لما مكثنا قرونًا في الصراع الديني، فكل طرف سيصر على صحّة معتقده ويدعم موقفه، وإصراره يتشكل من محيطه الاجتماعي الذي ترعرع فيه.
إن الإيمان بالمعتقدات بلا سبب يدعوا للتشكيك في فيها، ويدعونا للتقليل من ثقتنا فيها أو يقودنا لنتخلى عنها. وإن حقيقة أن معتقداتنا هي نتاج نشأتنا في مجتمع معين قد تكون حقيقة نفسية فقط، وليست دليلًا داعمًا لها أو معارضًا، وقد تقود هذه الحقيقة للتساؤل ما إذا كانت هذه الحقائق النفسية التي تعبر عنا ليست أدلة تدعم أو تعارض أي شيء في نظرتنا للعالم من حولنا؛ لماذا معرفة هذه الحقائق يقلل من ثقتنا في معتقداتنا؟
إن إيمان المجتمع بمعتقد معين لا يدل بالضرورة على صحة هذا المعتقد والوثوق به، عندما عرفت عن المؤثرات الاجتماعية أدركت أنني كونت معتقداتي بطريقة مشكوك فيها، وقد دفعني ذلك للتشكيك بها.
هل معتقداتي تشكلت بطريقة غير مشكوك فيها؟ قد تكون معتقداتي الإلحادية تشكلت لنشأتي في هذا المجتمع وليس في الآخر، إن حقيقة أن هناك بعض المجتمعات التي تطبع في أذهان أفرادها معتقدات خاطئة لا يعني أن هذا يحدث في مجتمعي أيضًا. قد تتشكل معتقداتي لحسن الحظ بطريقة موثوقة وصحيحة لنشأتي في مجتمع واعي ومثقف ولديه نظرة عقلانية عن العالم.
لو شبهنا الأمر بمقياس الحرارة فمثلًا إذا اشتريت مقياس حرارة من متجر مشهور بأن لديه العديد من أجهزة مقياس الحرارة التي تظهر قراءات غير دقيقة فهذا لا يعني أنه يجب علي أن لا أثق بقراءات مقياس الحرارة الذي اشتريته، فقد أكون قد حالفني الحظ واشتريت من أجهزة قياس الحرارة ذات القراءات الدقيقة والتي كانت قليلة في ذلك المتجر.
لكن لا يمكن الوثوق بالحظ دائمًا؛ لأنني إذا نشأت في مجتمع يعتقد ويؤمن بمعتقدات خاطئة وتبنيت هذه المعتقدات لأنني من أفراده، ويخضع للمؤثرات الاجتماعية فقد أظن أنني محظوظ؛ لأنني نشأت في هذا المجتمع وتبنيت هذه المعتقدات. فعندما أكون ملحدًا قد أظن أنني لحسن الحظ نشأت بين أناس متعلمين ويقدرون العلم وليسوا في قبضة العقيدة الدينية القديمة، و إذا كنت مؤمنا سـأظن أنني نشأت بين أناس مغرورين يؤمنون بأنهم أعظم ما في الوجود ولن أستشعر نعم الإله وينتهي الأمر برؤية مشوهة عن الواقع تمامًا، ذلك، إن إجابة كـ "أنا محظوظ لأنني" هي إجابة تقلل من شرعية المعتقد الذي أسلكه.
على عدم صلاحية هذا الاعتبار في المعتقدات الدينية؛ يعد هذا الاعتبار عقلاني جدا في أحوال أخرى. لنعود للتشبيه بمقياس الحرارة ولنفترض أنني عندما كنت أبحث عن مقياس للحرارة وليست لدي الخبرة الكافية في أجهزة قياس الحرارة المختلفة، واشتريت واحدًا بشكل عشوائي بعد ذلك علمت أن هذا المتجر يبيع العديد من الأجهزة لقياس الحرارة ذات القراءات الخاطئة، ودفعني هذا الأمر للبحث والتقصي بشأن مقياس الحرارة الذي اشتريه واكتشفت أنه منتج من شركة لها سمعة جيدة في صناعة أجهزة قياس الحرارة ذات القراءات الدقيقة جدًا، وهذا يدعوني للتفكير كيف أكون محظوظا وأحصل على مقياس حرارة ممتاز!
ما هو الاختلاف إذا؟ لماذا يبدوا منطقيًا جدًا أن أعتقد أنه قد حالفني الحظ في شرائي لمقياس الحرارة ولم يحالفني الحظ في نشأتي في هذا المجتمع؟ والجواب هو إيماني أن معتقداتي التي تبنيتها من المؤثرات الاجتماعية بأنها معتقدات صحيحة وموثوقة هي نتيجة نشأتي في هذا المجتمع فقط، فعندما لا آخذ المعتقدات التي ترسخت بسبب المؤثرات الاجتماعية كأمر موثوق ومفروغ منه، سأجد أنه ليس من سبب يدفعني للاعتقاد بأن معتقداتي صحيحة وموثوقة أكثر من معتقدات الآخرين. فإذا قيمنا دقة طريقتنا في تكوين المعتقدات فلن نستطيع استخدام المعتقدات التي هي نتيجة للمؤثرات الاجتماعية كي ندعمها.
فواجب التفكير الشديد في معتقداتنا قبل الإيمان بها أو التخلي عنها وواجب أن تكون هي معتقداتنا، فعندما نفكر في بعض معتقداتنا ونتساءل هل نتخلى عن الاعتقاد بها أم نبقى عليه وندخل في دائرة الشك ونستبعد هذه المعتقدات ونتساءل ما هل بإمكاننا أن نستعيد هذه المعتقدات ولكن من منظور مختلف، لأن بعض الشك قد يصحح بعض المعتقدات.
يصعب تغيير وتصحيح المعتقدات الأخلاقية والدينية والسياسية لأنها تخضع كثيرًا للمؤثرات الاجتماعية أكثر من غيرها، فلا نستطيع استخدام الحجج المعتادة في هذه المعتقدات لأن صحة هذه الحجج ستكون موضع تساؤل المجتمع، وقد نتصور أننا توصلنا إلى حجج مقنعة أكثر من الحجج التي تدعم الرأي الآخر وهذا التصور ينتج عن المؤثرات الاجتماعية، فلا نستطيع أن نتخذ حقيقة أن عملنا دليل على صحة معتقداتنا لأننا ببساطة نؤمن به بسبب نشأتنا في مجتمع معين ونشأتنا في هذا المجتمع أو ذاك ليست سبباً مقنعًا لأن نعتقد أن معتقداتنا صحيحة.
قد يكون الاهتمام بالمعتقدات التي تتعرض للمؤثرات الخارجية مقلقًا عندما نفكر أن نحافظ على معتقداتنا من الشك، يجب علينا أن ندرك أن معتقداتنا ليست دليلاً يدعم أو يعارض أي موقف ديني أو أخلاقي أو سياسي ما. وليست هناك مشكلة في الاعتقاد بأن الحظ حالفنا حينما نشأنا في هذا المجتمع أو غيره من المعتقدات لأن الحظ قد يحالفنا حقًا، لكن المشكلة أننا لا نستطيع تبرير المعتقد، فما نحتاجه لنبقى على معتقد ما أن نشكك قليلًا فيه ونتساءل عنه.