الأحد , 10 نوفمبر 2024 - 8 جمادي الأول 1446 هـ 7:19 مساءً
هنيئًا لأولئك الذين إذا تذكروا طفولتهم امتلأت قلوبهم بالحب وغمرت أعينهم السعادة وامتلأت جوارحهم بالحنين لتلك الفترة من حياتهم التي مرت بهدوء وسلام دون أن يعكر صفوها التوتر والقلق. يتذكرون الساعات الطويلة التي قضوها بين اللعب في فناء المنزل والعمل على مشاريعهم الصغيرة وتطوير علاقاتهم بسعادة وسرور لا يشوبها الخوف مما يخبئه المستقبل. ولكن هذه الذكريات اللطيفة غالبًا ما تتناقض مع مشاهد حياة النضج والبلوغ التي تسيطر عليها مشاعر التوتر والقلق.
فالحقيقة أن كثيرًا من البالغين يجدون صعوبة في أن يعيشوا حياة ما بعد الطفولة بهناء وراحة بال، الأمر الذي يثير الكثير من الأسئلة المثيرة للاهتمام حول العلاقة بين راحة البال والحياة الطيبة. هل راحة البال مزية يختص بها الأطفال فقط دون الكبار؟ هل هي شيء يضفي معنى على مرحلة الطفولة فقط دون مرحلة البلوغ؟ أو لا يحتاج البالغون إلى أن يكونوا مرتاحي البال كالأطفال تمامًا، حتى تسير حياتهم على ما يرام؟ والأهم من ذلك، إذا كانت راحة البال شرطًا ضروريًا ليعيش الفرد حياة سعيدة، فما هو السبب وراء ذلك؟
لأني أم لطفلين صغيرين أولاً، ثمّ بحكم عملي في مجال فلسفة الأسرة، ركزت مؤخرًا على التفكير في ماذا نعني أصلًا عندما نقول بأن الطفل يعيش طفولة جيدة. عندما فكرت في الحب والتعليم الذي يمنحه الوالدان أطفالهم أدركت كيف أن راحة البال شيئًا ينفرد به الأطفال مما يجعله عنصرًا ضروريًا لكي يعيش الطفل حياة سعيدة. بينما اختلف الأمر عندما نظرت في حياة الكبار، حيث وجدت أن بعضًا منهم مع قلقه وتوتره استطاع أن يعيش حياة رائعة ذات قيمة.
ويعود هذا التفاوت بين حياة الطفولة والبلوغ إلى اختلاف طبيعة الأطفال والبالغين. لا يملك الطفل - على عكس الشخص البالغ - المعرفة القوية التي تجعله يستشعر قيمة الأمور القيّمة التي يجدها في حياته إن لم يكن يشعر بمشاعر إيجابية تجاهها. هذا يعني أنه إذا كان الطفل يعاني من التوتر والقلق فستستحوذ هذه المشاعر على عقله ولن تكون هناك المساحة الكافية لتنمية مشاعر إيجابية تجاه الأعمال والعلاقات القيّمة في حياته وبالتالي لن يعتبرها من مكونات حياته الأساسية.
ولنستطيع معرفة سبب خلو حياة الطفل من البهجة حين لا يكون مرتاح البال - الأمر الذي لا ينطبق على البالغين - علينا أولاً أن نجيب على عدة أسئلة: من هو الطفل؟ ما هي راحة البال؟ ماذا نعني عندما نقول بأن حياة شخصٍ ما تسير على ما يرام؟ لنبدأ أولاً بالطفل، الطفل هو الذي بدأ في تطوير مهارات التفكير المنطقي لكن ليس لدرجة تخوله جميع حقوق البالغين أو تحمله مسؤولياتهم. الطفولة إذن هي تلك المرحلة من الحياة التي تلي مرحلة الرضاعة وتنتهي قبل المراهقة. وأما راحة البال فتشير إلى طبيعة الفرد الذي لا يعاني من التوتر والقلق، مع أن هذه المشاعر السلبية قد تعترض الإنسان في لحظات معينة من حياته. ولذلك يمكن أن نعرّف الشخص المرتاح البال بأنه الشخص الذي لا يعاني من التوتر والقلق باستمرار وذلك نتيجة لتركيبته النفسية وظروفه الشخصية.
وأما ما نعنيه عندما نقول بأنّ شخصًا ما يعيش حياة جيدة فإنني أؤيد ما يسمى بـ "التعريف المزدوج للرفاهية": الحياة الجيدة هي الحياة التي ينخرط فيها الشخص في مشاريع وعلاقات ذات قيمة ويجدها ممتعة في الوقت ذاته. على سبيل المثال، تساعدني الفلسفة على أن أعيش حياة جيدة إذا كنت فعلاً أعتقد بأن الفلسفة مهنة وإذا كنت فعلاً أرى بأن الفلسفة ذات قيمة (تنبع قيمتها من ذاتها وليس فيما أعمله أنا في هذا المجال). ولكن إن كنت في مجتمع تعدّ فيه الفلسفة عملاً غير موفق أو في حال فضلت أن أتجه إلى العمل في مجال آخر، حينها سيتلاشى دور الفلسفة في الأخذ بيدي إلى حياة جيدة.
وبعد هذه المقدمة الطويلة يجب أن نطرح السؤال التالي: كيف تكون راحة البال ضرورية لخلق طفولة جيدة وليست ضرورية لخلق حياة بالغين جيدة؟
دعونا نبدأ بالكبار أولاً. يستطيع البالغون بأن يستشعروا قيمة الأعمال والعلاقات القيّمة حتى وإن لم يشعروا بمشاعر إيجابية نحوها على عكس الأطفال تمامًا. وذلك لأنه يمكن للبالغين بأن يقبلوا بجوانب عديدة من حياتهم لمجرد أنها تتفق ومفهومهم العام لماهية الحياة النبيلة ذات المغزى. ولذلك نجد كاتبًا مصابًا بالعصبية يكتب روايات رائعة - مع أنه يجد الكتابة عملية مؤلمة- ولا يزال يؤيد فكرة الكتابة تحت الضغط والقلق لأنه يعتقد بأن هذه المشاعر السلبية دون غيرها هي التي ستصقل العمل وتجعله أكثر عمقًا. ونرى كذلك جراح دماغ يعمل على علاج أخطر أنواع السرطانات وهو يدرك بأن مخاطر وظيفته عالية جدًا حد أنه يصعب معها العيش بهناء وراحة بال. ولكنه على استعداد بأن يضحي بهذه الراحة في سبيل تحقيق حياة زاخرة بالإنجازات الطبيّة.
في الواقع، يمكننا الحكم على حياة البالغين الذين لا يتمتعون براحة البال حكمًا إيجابيًا لأننا نعلم أن البالغين يتمتعون بقدرات تقييمية تمكنهم على سبيل المثال من التأمل الذاتي واكتساب المعرفة الأخلاقية ذات الصلة والتقدير المناسب للوقت وتقدير التكاليف والمخاطر والفرص التي تنطوي عليها بعض الأعمال وغير ذلك والتي بدورها تمكنهم من تقدير أهمية تلك الأعمال والعلاقات حتى وإن لم يشعروا بمشاعر إيجابية نحوها.
ولكن هذا الأمر لا ينطبق على الأطفال. فمع أنهم بحاجة إلى استشعار قيمة هذه الأعمال والعلاقات كذلك لكي يهنئوا بحياة سعيدة، إلا أنهم لن يستطيعوا تحقيق ذلك حتى يشعروا بارتياح تجاهها. وذلك لأنهم بكل بساطة لا يتمتعون بالقدرات التقييمية التي يمتلكها الكبار والتي تمكنهم من القبول بمثل هذه الأعمال والعلاقات القيمة مستشعرين ومقدرين تمامًا أهميتها لكونها فقط تتفق مع المبدأ العام لرسالتهم في الحياة.
فلن يستطيع مثلاً طفلٌ تطوع ليعتني بقريب له مصاب بالخرف لعدة ساعات يوميًا بأن يقبل على العمل عن معرفة قوية وإدراك تام بقيمته إذا وجده مرهقًا. على عكس الكاتب أو الطبيب الذي إذا بدأ مشروعًا مرهقًا توقف قليلاً ليفكر كيف يتفق هذا العمل مع مفهومه العام لمعنى الحياة الطيبة ليقبل عليه بعد ذلك مستشعرًا ومدركًا قيمته، فالقدرات التقييمية للطفل ليست ناضجة بما فيه الكفاية للقيام بالشيء ذاته. ولذلك فإن ذلك الطفل لن يستطيع تقييم الالتزامات التي تحتمها رعاية ذلك المسنّ بناءً على معرفته الجيدة بقدراته الذاتية أو قدرته على التقييم الواقعي للخيارات الأخرى أو معرفته الأخلاقية أو على فهمه الكافي للتكاليف والمخاطر والفرص التي ينطوي عليها هذا العمل. لهذا السبب قد ينتهي به الأمر، على سبيل المثال، بوضع اعتبارات غير منطقية لرضا عائلته، أو عدم فهم ما تتطلبه أخلاقيات هذا العمل النبيل. وقد لا يحسن أيضًا تقدير التضحيات التي يجب أن يقدمها أو إدراك أن هذا الوقت الذي يقضيه في رعاية ذلك القريب سيسلب منه وقتًا ثمينًا يمكن أن يقضيه في القيام بشيء آخر ذي قيمة وممتع في الوقت ذاته. ولعلنا نقول بأن هذه الأخطاء لا يمكن تجنبها حيث إنها نتيجة مباشرة لطبيعة الطفل الذي لم يصل بعد إلى المرحلة التي يمكنه فيها الشروع في أعمال تتطلب الكثير من الجهد والتوتر بناءً فقط على معرفته وتقديره قيمها النبيلة.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل من الممكن أن يكون الطفل غير مرتاح البال عمومًا ومع ذلك لا يزال يشعر بمشاعر إيجابية تجاه الأعمال والعلاقات القيّمة في حياته؟ يشير علماء النفس مثل Ed Diener (إدي دينر)، الأستاذ الفخري في جامعة إلينوي، إلى أن المشاعر الإيجابية والسلبية ليست مستقلة عن بعضها في أي موقف معين. وهذا يعني أن هذه المشاعر تميل إلى قمع بعضها، وأنه كلما زاد شعور الطفل بالقلق والتوتر، صغرت المساحة الذهنية في عقله لتنمية العواطف الإيجابية تجاه الأعمال والعلاقات ذات القيمة. ولذلك فإن الطفل غير مرتاح البال يفتقر إلى المساحة العقلية التي يحتاجها للاستمتاع بجميع الأمور الجيدة في حياته.
ولذلك فإذا أردنا أن يقبل الأطفال على اللعب والتعليم والصداقات والعلاقات الأسرية بفرح وسرور ومتعة وسعادة مستشعرين ومدركين تمامًا قيمتها في حياتهم – وبالتالي يعيشون طفولة طيبة – فيجدر بنا ألا نهيئ الظروف التي تمكنهم من هذه الأمور فحسب بل وأن نهيئ لهم الظروف الخالية من التوتر والقلق. وهذا بدوره يتطلب من الحكومات التي تأخذ على عاتقها مهمة العناية بالصحة النفسية منذ سن مبكرة وضع سياسات تضع راحة بال الطفل شرطًا أساسيًا لحياته السعيدة.