الجمعة , 20 سبتمبر 2024 - 16 ربيع الأول 1446 هـ 4:18 مساءً
نعلم أن الساعة اليوماوية (وهي مذبذب بيوكيميائي لعملياتنا الحيوية بإيقاعها الزمني المحدد وهو الأربع وعشرون ساعة اليومية) تحفظ الوقت في كل خلية حية، وتتحكم بعملياتنا الحيوية كالتمثيل الغذائي، وانقسام الخلايا، وإصلاح الحمض النووي...إلخ، وكلّنا يعرف حدوث هذه العمليات، ولكننا لا نعرف الكيفية التي بها تحدث.
ثمة أعراض لورديات العمل الليلية، وإرهاق السفر، واضطرابات النوم، وتأثيرها لايقتصر على النعاس بل قد تكون أشد من ذلك، هذا التأثير سببه أن هذه الأعراض تشوش الساعة الحيوية المسؤولة عن تزامن عملياتنا الحيوية مع دوران الأرض حول نفسها طيلة اليوم، وهذه الساعة تتحكم بآليات أجسامنا الكيميائية الأساسية، كما أنها تتحكم بنا عند عمل آلاف الجينات أو حتى عند توقفها عن العمل، وهذه الجينات مسؤولة عن تركيب البروتينات التي تدير آليات الخلية. إن كل خلية في الجسم لها ساعتها الخاصة، وكل ساعة تتحكم بعدة جينات في أنواع مختلفة من الخلايا، بل إن الحياة نفسها بشتى أنواعها من بكتيريا وفطريات ونباتات وحشرات وحيوانات تعتبر على ضخامتها ساعة واحدة دقيقة ومعقدة. عند البشر- وغالبا في الكائنات الأخرى من مملكة الحيوانات- ساعة مركزية في الدماغ تتأثر بالضوء وتساهم في تركيب بقية الساعات في أنحاء الجسم. ولهذا نشعر بالاضطراب عندما تتعطل هذه الساعة أو يسوء عملها في كل نسيج وعضو بداخل أجسامنا.
قد يبدو غريبًا على الإنسان أن عملية حيوية ورئيسة مثل هذه العملية تتعدّى استعيابنا. لكن بعض البحوث أجريت على البكتيريا وعلى ذباب الفاكهة والنباتات والفئران قدمت بعض التفسيرات الراجحة عن هذه الساعة الحيوية. معروف أن لهذه الساعة أربعة مكونات مركزية وأربعة بروتينات، إضافة إلى الجينات التي تدير العملية كاملة. كل هذه العوامل مترابطة في حلقة متشابكة فيها "ذراع" إيجابي وآخر سلبي. تشغّل البروتينات هذه الجينات وتوقفها مما يؤدي إلى فرض مستويات معينة للبروتين في الساعة يجعل مستويات البروتين في الساعة تتأرجح كأنها تتراقص بصعوبة وتداخل فيما بينها. ويمكن أن نشبه عملية الكيمياء الحيوية بساعة رقاصة بصندوق طويل وبعقربتين رقاصتين متأرجحتين. وفي هذه الحالة تؤثر كل عقربة متأرجحة على مجموعة من الجينات الأخرى وتبدأ بسببها عمليات أساسية أخرى مثل عملية تقسيم خلايا الثدييات نفسها واستنساخها -والتي تستغرق 24 ساعة تماما- أو عملية البناء الضوئي في النباتات. تبدو هذه الساعة الحيوية كما لو أنها قدم الحياة نفسها، بل حتى البكتيريا القديمة الموجودة منذ ملايين السنين عندها ساعتها. وتوجد البروتنيات المحددة للساعة كذلك في جميع الحيوانات، أكانت النحل أو السحالي أو الحيتان. ومن هنا نستوضح محافظة هذه الآلية على تشكيلها وأهميتها لكل الكائنات الحية حتى بعد مرور قرون طويلة من التطور البيولوجي.
أما عند النباتات، فتفتّح الأزهار يقوم على النهار وطوله، على أننا لا نفهم الميكانيكا الجزيئية المتحكمة بالنظم الحيوية للنباتات فهمًا كاملًا، إلا أنه واضح أن النباتات تستشعر جودة الضوء الساطعة التي تتفاعل مع ساعة النبات الحيوية المتحكمة بـ 5 إلى 10% من جيناتها.
هل من الممكن، لو أتيحت لنا الفرصة، أن نغير من آليات الساعة في النباتات لتعجّل من عملية إنتاج الثمرات والبذور ما قد يجعل عملية الحصاد تتكرر مرتين أو ثلاث في السنة؟ أو هل نستطيع أن ننقل النباتات من منطقة -استوائية- إلى مناطق أبرد منها وأقل تعرّضًا للضوء وتكون على نفس الفعالية؟
هناك أدلة أن الساعة لها دور كذلك في مساعدة النحل وغيره من الحشرات والطيور المهاجرة -وربما غيرهم من الحيوانات أيضا- للعودة إلى مواطنهم بلا ضياع. تبدو علينا الساعة بطريقة ما مرتبطة بقدرة هذه المخلوقات على شعورها بمجال الأرض المغناطيسي واستخدامه في توجيه أنفسهم للمكان المطلوب. وإحدى هذه المخلوقات هي الفراشة الملكية، وجينات ساعتها قريبة جدا من جينات ساعة الإنسان. هل من الممكن أن الإنسان أيضًا عنده قدرة ساكنة وتحسّ بمجال الأرض المغناطيسي؟
قد تكون الساعة واحدة من أهم أسرار الحياة نفسها.
حتى الفئران التي تولّد في المختبرات بلا جينات الساعة؛ تستطيع ممارسة حياتها، لكنهم يتعرضون للإصابة سريعًا، كالسرطان وغيره من التشوهات والأمراض لأن آليات ترميم الحمض النووي لا تعمل عندهم. هل يمكن القول أن احتمالية إصابة الموظفين في الورديات الليلية والطيارين والمضيفيين الذين يعملون في رحلات دولية بأنواع مختلفة من السرطان أكبر من غيرهم؟ أثبتت تجارب الفئران المعرضة لسرطان الثدي أن الاضطراب المستمر لدورة النوم الطبيعية يسرع من عملية تكوين الأورام، لذا قد يكون اضطراب النوم سببًا لقلق الأشخاص الذين في عوائلهم تاريخ مع سرطان الثدي.
هل من الممكن أن نتحكم بالساعة لنساعد أنفسنا على علاج السرطان؟ يصعب التأكد من هذا تمامًا، لكننا نعلم أن عملية إصلاح الحمض النووي تحدث بشكل مختلف في أوقات مختلفة من اليوم، مما يشير إلى أن فعالية الإشعاع أو العلاج الكيميائي تتقوى إذا أعطي في وقت يكون فيه نشاط عملية إصلاح الحمض النووي في أدنى مستوياته.
تؤثر الساعة أيضًا على عمليات التمثيل الغذائي الأساسية - وهي الطريقة التي تفكك بها أجسامنا المادة العضوية وتستخلص الطاقة من الطعام الذي نتناوله، لتستخدم تلك الطاقة لبناء البروتينات والمكونات الأخرى للخلايا. لكن العكس ممكن أيضا، فالصيام لفترة ثم الإفطار يساعد على إعادة ضبط الساعة. من المعروف أيضا أن الصيام، أو الحميات منخفضة السعرة الحرارية، يساعدون الإنسان على تأخر شيخوخته التي تتحكم بها الساعة. هل بإمكاننا لو استوعبنا تفاصيل آليات عمل الساعة الدقيقة أن نعيد برمجتها لنؤخر الشيخوخة؟ يصعب أيضا معرفة ذلك، لكن الاحتمالات مشوقة حقًا.
ولو أزحنا كل التطبيقات المحتملة جانبا، فإن البحث العلمي حول الساعة الحيوية في الوقت الحالي لايصل إلى جذور تكوينها وأساسيات عملها ولايتجاوز التطبيقات المحتملة لها. فالساعة قد تكون واحدة من الأسرار الأساسية للحياة نفسها. لذا فإن فهم كيمياء الخلايا الحية على الأقل قد يعني فهم الساعة التي تنسق كيفية عمل هذا التناغم ومدته.
الإنسان الساعة
تتحكم الساعة اليوماوية بمجموعة كبيرة من التفاعلات الكيمياحيوية وعمليات الجسد وتؤثر عليها أيضا، وجميع هذه التفاعلات والعمليات مربوطة بإيقاع الأربع وعشرون ساعة الأرضية. هذا التفاعل يؤثر على نومنا وممارسة حياتنا عند الاستيقاظ بل حتى على الأوقات التي تكون فيها الأدوية الطبية فعّالة جدًا.
كيف نستكشف خبايا الساعة وآلياتها
لنفهم كيف تعمل الساعة ونجاوب على عدة أسئلة مختلفة بشأن تطبيقاتها العملية؛فإن هذا يتطلب وضع خطة ممنهجة لآليات الساعة وعملها في أنسجة مختلفة من الجسد، وفي أوقات مختلفة من اليوم، وحينها يستطيع العلماء أن يبدأوا باكتشاف تفاعل بروتينات الساعة كيميائيًا وبنيويًا مع جيناتها وغيرها من البروتينات.
وإلى جانب وضع خطة ممنهجة؛ فإنه من الأهمية بمكان التحقق من عملية إرسال الإشارات التي ترسلها الساعة المركزية لتزامن معها عمل الساعات المصغرة في الخلايا لتتأكد من عملهما المشترك بسلاسة مع دوران الأرض. وقد يكون هناك توجه آخر يتطلب من العلماء فحص الملايين من جزئيات صغيرة للتعرف على أيهم يمكن أن يغير من الإيقاع الدوري للساعة أو حتى يزيد من ذبذبات الساعة الحيوية أو يقللها. والتعرف على هذه الجزيئات قد يجعلها تُستخدم أدوات للمساعدة في دراسة آليات الساعة بل واقتراح احتمالات جديدة لتطوير أدوية أفضل.
ولاكتشاف آليات الجزيئات الدقيقة والتي تحتوي فيها البروتينات ومركبات التمثيل الغذائي والكيماويات ذات الإشارة الساعة وإدارتها فإن هذا يتطلب قدرًا كبيرًا من المواهب العلمية في مختلف التخصصات من الجينات وتخطيط البروتينات وتحديد بنيويتها إلى العملية الكيماحيوية للبروتينات. وهذا يتطلب العمل في البداية مع نماذج لكائنات مثل ذباب الفاكهة أو الفئران ومن ثم معاينة ما إذا كانت نفس آليات عمل الساعة عندهم موجودة في البشر. ومن ثم في الختام، سيتطلب الأمر فحوص سريرية لاستخدام هذه المعرفة لتقوية الساعة واصلاحها أو حتى ضبطها ضبطًا دقيقًا. سيبتكر هذا المشروع طرقًا جديدة إما لعلاج البشر أو انتاج مزيد من المحاصيل أو حتى التحكم بالبكتيريا المضرة.
هذا المشروع ليس مشروعًا سهلًا، لأنه لن يتطلب معدات خاصة فقط، بل يحتاج إلى تجهيز المواهب العلمية المطلوبة والتنسيق بين عدة فرق بحثية في جامعات عدة في مدة زمنية قد تمتد لعقد من الزمن. فالتقديرات المتوقعة تقول بأن الأمر يتجاوز المنح العلمية البحثية المعتادة، لأنه قد يكلف 100 مليون دولار وعقد كامل من الجهود المكثفة لإنجاز تقدم ضخم. مشروع مثل هذا لا يتماشى مع تفويضات دعم الأبحاث والتي تركز على نوع معين ومحدد من الأمراض. في الواقع، ليحقق هذا المشروع شيئًا لعلم الأحياء الخلوي فإنه بحاجة إلى دعم مشابه لما حصل عليه علم الجينات في مشروع الجينوم البشري. وهذه التكلفة ليست بغريبة باعتبار مركزية الساعة الحيوية للحياة نفسها. ولكن من نفس المطلق، من المحتمل أن يكون للمعرفة الأساسية المكتسبة من هذا البحث تأثيرات عميقة على قدرتنا على حل المشكلات في السلوك البشري وصحة الإنسان بل وفي جميع الكائنات الحية الأخرى أيضًا. وربما سنفهم في النهاية أيضًا لماذا نحن مجرد آليات للساعة الحيوية، ولماذا تحافظ الحياة على ضبط توقيتها مع إيقاع الأرض.