الأحد , 10 نوفمبر 2024 - 8 جمادي الأول 1446 هـ 6:21 مساءً
ترك الميكانيكي كانوت فرانكسون بيته في ديترويت الأمريكية وسافر إلى أوروبا لينضمّ إلى ألفين وثمانمائة مُتطوّع أمريكي، لدعم الحرب على فرانكو في الحرب الأهلية الأسبانية. بعد ثلاثة أشهر، كتب فرانكسون هذه الرسالة إلى صديقه كي يشرح له سبب تطوّعه للمشاركة في هذه الحرب. عاد فرانكسون بعد سنة تقريبا، لكنّه توفي في حادث سيرٍ بعدها بفترة قصيرة.
الباثيتي، أسبانيا
6 يوليو، 1937م
صديقي العزيز،
متأكد أنّك لا تزال تنتظر إلى هذه اللحظة شرحٌ مُفصّل عن سبب وجودي في وسط هذا الصّراع الدّولي. بما أنّها حربٌ بين بِيضٍ؛ اتّخذونا عبيداً لقرون، أهالوا علينا كل إهانةٍ وإساءة، فصلونا، وطبّقوا علينا قوانين "جيم كرو".
لماذا، أنا؛ الزّنجيّ الذي قاتل خلال هذه السنوات من أجل حقوق قومه؛ هنا في أسبانيا اليوم؟ .. لأنّنا لم نعد أقليّة معزولة تحارب بيأسٍ ضد عملاقٍ ضخم. لأنّنا يا عزيزي التحقنا بالرّكب، وأصبحنا جزءاً نشطاً من قوة تقدّمية عظيمة، أخذت على عاتقها مسؤولية حفظ الحضارة الإنسانية من الدّمار الذي تُخطّط له مجموعة صغيرة منحطّة؛ أصابها الجنون لأنها تشتهي السّلطة. لأنّنا لو حطّمنا الفاشية هنا؛ فسنحمي قومَنا في أمريكا، وبقية مناطق العالم، مِن الملاحقة الوحشية، والسّجن بالجملة، والذبح .. مثل الذي كان يعانى منه اليهود تحت كعوب هتلر الفاشية.
كل ما ينبغي علينا فعله؛ أن نفكر في إعدام قومِنا. لا نستطيع غضّ النظر عن صفحات التاريخ الأمريكي المُلطّخ بدم الزنجيين، المُنتّن برائحة جثثهم المشنوقة على الأشجار، المرير بأصوات آهات المُعذّبين من أحبّتنا؛ قطع أجسادهم، آذانهم، أصابع أيديهم وأرجلهم ... قُطعت من أجسادهم الحيّة كتذكارات. أصبحت أجسادهم تحمل علامات القطع؛ كنباتات "كنيفوفيا". كل هذا بسبب كراهيةٍ خلقها الأسياد في عقول رجالٍ ونساء، أبقتنا جميعا تحت كعوبهم بينما يُريقون دمنا، وبينما يرتاحون في فُرُشهم بسهولة باستغلالنا.
لكن هل يجب علينا أن نكره هؤلاء البشر الذي يعوون كذئابٍ جَوعى لدمائنا؟ هل يجب أن نبقي على اللهب الذي استمر الأسياد في تغذيته؟ هل هؤلاء الرجال والنساء مسؤولون عن طموحات أسيادهم، وعن الظروف التي أجبرتهم على هذا الانحطاط العميق؟ لا أعتقد هذا. إنهم أدوات في أيدي أسيادٍ منعدمي الضمير. إنّهم جوعى مثلنا. إنّهم يعيشون في الحضيض ويلبسون الثياب الرثّة مثلنا. إنّهم مسلوبون مِن أسيادهم، ووجوههم مغطّاةٌ بالقذارة في ظلّ نظامٍ فاسد. إنّهم زملاءٌ لنا. قريباً جدا سيفهمون هذا؛ وسنفهم نحن أيضا. قريبا سيظهر منهم "آنجلو هيرندون"، ومنّا كذلك، ويقودوننا على حدّ سواء؛ ضدّ أولئك الذين يعيشون على نتَنِ لحوم أجسادنا. سنسحقهم. سنبني لنا مجتمعاً جديدا. مجتمع السلام والوفرة. لا يوجد فصلٌ على أساس اللون، لا توجد قطارات "جيم كرو"، لا يوجد إعدام. لهذا يا عزيزي أنا هنا في أسبانيا.
في ساحات حرب أسبانيا؛ نحارب من أجل حفظ الديموقراطية. نحن هنا من أجل إرساء أساس السلام العالمي، من أجل التحرّر، ومن أجل الجنس البشري. هنا، نشارك في واحدةٍ من أمرّ الصراعات في تاريخ البشرية. لا يوجد فصلٌ عِرقي. لا يوجد تمييز عنصري. لا يوجد حقد. توجد كراهية واحدة فقط؛ كراهية الفاشيّة. نحن نعرف من هم أعداؤنا. الأسبانيّون متعاطفون معنا. إنهم أناسٌ جميلون. سأخبرك عنهم لاحقاً.
وعدت ألاّ أعِظ، لكن تدلّ المؤشرات على أنّ هذه خطبةٌ؛ أكثر منها رسالة إلى صديق قديم. ما الذي يمكنني فعله خلال مواجهة هذه الظروف الصعبة؟ أنا واعٍ تماما بمدى جهدي الأخرق لأكتب رسالة حميمة إليك. لكن معرفتك بمدى جدّيتي وإخلاصي، إضافة إلى ذكائك وصبرك، ستمكّنك من الفهم والتحمّل. أنا متأكدٌ من أنه سيمكنني الكتابة بحميميّة أكبر، لاحقاً؛ بعد أن أتغلّب على هذا التوتر. وعيي بمسؤوليتي تجاه أفعالي؛ جعلتني تحت طائلة توترٍ عظيم. لأنني أعتقد أنّ أفعالي سبّبت لك الكثير من البُغض.
لا تعتقد للحظة أنّ التوتر تجاه هذه الحرب الفظيعة، أو الأميال الكبيرة بيننا؛ غيّرت شيئا في مشاعري تجاهك. تعني لي صداقتنا الكثير، ولا زالت. أقدّرها لأنها دائما صداقة مكرّسة لاهتمامٍ مُشترك. وسأفعل كل ما بوسعي فعله للحفاظ عليها.
لا يعلم أحدنا متى سيموت، حتى في أفضل الظروف. لهذا، أنا؛ كجندي في الخدمة، يجب أن أدرك القليل جدا عن مدى قُرب الموت أو بُعده. لكن بقدر ما أنا مُتماسك؛ سأبقيك على اطّلاعٍ بالأحداث. أحيانا، حين أذهب إلى الصفوف الأمامية، تسقط القذائف قريبا جدا منّا. وأفكر حينها؛ أنها ليست سوى مسألة دقائق. بعد أن أعود إلى القاعدة، يبدو أنني أرى الحياة بزاويةٍ جديدة. تبدو جميلةً بطريقةٍ ما. أفكّر بك، بالوطن، وبكل أصدقائي، ثم أعملُ بطريقةٍ محمومةٍ أكثر من أيّ وقتٍ مضى. يجب على كل واحدٍ منّا تقديم كل ما لديه من أجل تدمير هذا الوحش الفاشي.
آمل أن أشاركك سعادتي؛ بعد أن ينتهي هذا. إنها سعادةٌ لم تكن لتتحقّق بأيّ طريقةٍ أخرى؛ غير الخدمة في قضيّة تستحقّ. آمل أنّ الخدمة التي أقدّمها هنا لقضية الديموقراطية؛ يمكنها التعويض عن الخطأ الذي ارتكبتُه. آمل أنّك بخير، وأنّك سامحتني، أو أنّك ستفعل. رغبتي الصّادقة أن تكون سعيداً، وأن نلتقي مجدّدا بعد انتهاء هذه الحرب. لكن لا تقلق لو أوقفتني رصاصة فاشية. لو كنتُ واعيا قبل موتي؛ فلا أعتقد أنّني سأكون خائفا. أنا متأكد من أمرٍ واحد: سأكون راضيا لأنني أنجزت دوري.
وداعاً. إلى أن نلتقي مُستقبلاً. لا يعرف أحدنا متى سيكون هناك وقتٌ للكتابة. يوجد الكثير لفعله في وقتٍ قليلٍ جدا. محبّة.
تحية،
كانوت