الجمعة , 17 يناير 2025 - 17 رجب 1446 هـ 11:57 مساءً
يقف العلم اليوم على مفترق الطرق: هل سيقوده عقول البشر أم الآلات التي صنعوها؟
إن الانشقاق هو منبع المؤسسة العلمية، فمن جهة العقل البشري، هو مصدر كل حكاية ونظرية وتفسير يعتز به الجنس البشري. ومن الجهة الأخرى تقف الآلة، بخوارزميتها التي أحرزت قوة تنبؤ مدهشة، إلا أن آليات عملها الداخلية غامضة للعيان البشري. مع نضال البشر من أجل فهم الطبيعة الجوهرية للعالم، تنتج آلاتنا بمقياس، توقعات عملية على ما يبدو أنها ستمتد بعيدًا عن حدود الأفكار. وبينما قد يرضي الفهم رغباتنا، برواياته عن الأسباب والنتائج، فإن ما يرضينا هو التنبّؤ الذي يقرن هذه الآلات بالواقع، إننا نواجه الآن خيارا عن نوع المعرفة الأهم الذي تنبغي مواجهته – كما نواجه أيضا السؤال عن أي منهما يعرقل التقدّم العلمي.
كانا الفهم والتنبؤ حلفاء ضد الجهل. وكان فرانسيس بيكون من الأوائل لضم هذين المصطلحين معا في الأيام الأولى للثورة العلمية، عندما دعا إلى أن العلماء يجب عليهم الانخراط في العالم مصلحين بأدواتهم. قال: إن هذا النهج من شأنه أن يتفادى الحلقة المفرغة والركود المؤلمين الذين ميزا المحاولات الدراسية للتعرف على الواقع. وكتب في كتابه الأورجانون الجديد (1720):
طريقتنا الجديدة في اكتشاف العلوم تشبه أن نترك شيئًا من حدة وقوة البديهة، بعيدًا عن تحقيق مستوى الفكر والبديهة. تماما مثلما نرسم خطًا مستقيمًا، أو دائرة مُحكمة، نعتمد على ثبات الرسم وعلى التدرب، لكن إذ استخدمنا الفرجار أو المسطرة فستكون فرصة التدريب والثبات شبه معدومة، لذا الأمر كله يعتمد على طريقتنا. اقترح بيكون – بمنطقية مثالية - أن عقل الإنسان وإدراكه يجب أن يدعما بالأدوات، ويمكنه بهذه الوسائل الفرار من متاهة التفكير.
ثم تبنى إسحاق نيوتن بحماسة فلسفة بيكون التجريبية. إذ أمضى حياته المهنية مطورا للأدوات: العدسات والتلسكوب، بالإضافة إلى المساعدات العقلية والوصف الرياضي (المعروف بالشكلية)، كله من أجل تسريع سرعة الاكتشاف العلمي. لكن بعيدا في نمو هذا الاعتماد على الأدوات كانت بذرة الاختلاف المربك: بين ما يستطيع العقل البشري إبصاره عن عالم الآليات الكامنة، وما تقدر أدواتنا على قياسه ونمذجته.
تهدد اليوم هذه الفجوة أن تنسف المشروع العلمي كله وفتحه على مصراعيه. ونظهر على أننا بلغنا الحد الذي يكون فيه الفهم والتنبؤ – القياس والنمذجه – متداعيان خارج الانتظام. وفي حقبة بيكون ونيوتن، حسابات العالم التي كانت تُتبّع بالعقل البشري، والتنبؤ الممكن اختباره، قد جُمعا في دائرة شريفة. وإن نظريات صعبة، مدعومة من مراقبة العالم الحقيقي، طورت فهم البشرية لكل شيء من ميكانيكا سماوية إلى كهرطسية ووراثات مندلية. فقد كبر العلماء معتادين على فهم حدسي، معبر عنه من حيث القواعد والقوانين الحركية – مثل نظرية تشارلز داروين الانتخاب الطبيعي، أو مبدأ غريغور مندل التوزيع المستقل، لوصف زراعة جينوم الكائن الحي عبر انقسام واتحاد صبغيات (كروموسومات) أبويه.
لكن في عصر "البيانات الضخمة"، الصلة بين الفهم والتنبؤ لم تعد متماسكة. وأحدث العلم الحديث تقدمًا لافتًا للنظر في تفسير الطرق السهلة للذرات، والضوء والقوى. فنحن الآن نحاول التوصل إلى تفاهم مع العالم المعقد – من الخلايا إلى الأنسجة – الأدمغة إلى التحيزات المعرفية، الأسواق إلى المناخ. وتتيح لنا الخوارزميات الجديدة التنبؤ ببعض الميزات الخاصة بتصرفات أنظمة التلاؤم هذه التي تعلم وتطور، فيما تجمع الأدوات عنهم كميات من المعلومات لم يسبق لها مثيل. وبينما تصيب غالبا هذه النماذج الإحصائية والتنبؤ، يكاد يكون مستحيلا علينا أن نعيد بناء عملية أدائهم لها. إن الذكاء الآلي، كالعادة ذكاء الآلة لا يقاوم ولكنه أحيانًا يعادي العقل ونشاطه. فدراسات البينات الجينومية على سبيل المثال، يمكنها حفظ مئات البارامترات – المريض، نوع الخلية، الحالة، المورثة، موقع المورثة والكثير- ووصل الأصل من الأمراض بآلاف من العوامل الهامة المحتملة. لكن مجموعة البيانات "السامية الأبعاد" هذه والتنبؤ الذي يقدمونه تتحدى أفضل قدراتنا لتأويلهم.
وإذا تنبأنا بتصرفات الإنسان بالنماذج النيوتونية والكم، لاستطعنا ذلك. لكنه لا يمكننا التنبّؤ. فالمواجهة الشريفة بين العلم والواقع المعقد تنتج هذا الانشقاق. وقد زعم بعض النقاد أن الذي يعيق تقدم العلم هو مركزية الإنسان - وإصراره بأن الأدوات ترضخ لعبقريته. وبأنه إذا تجاهل قلقه في سبيل أن يرضي عقله، فيمكنه استخدام الآلات ليعجّل بها إتقانه للأمور. إن محاكاة الكمبيوتر للذكاء لا تحتاج لعكس بنية النظام العصبي، أكثر مما يعكس المنظار عملية تشريح العين. إن المنظار اللاسلكي يقدم مثالًا واضحًا عن عمل الميكانيكا الجذرية الجديدة غير البصرية التي تتجاوز وظيفة البصر، باستخدام منظار لاسلكي قادر على اكتشاف مجرات أخرى تقع خلف خط رؤية مجرة درب التبانة.
والتباين الكبير بين الفهم والتنبؤ يعكس صداه في تصور باروخ سبينوزا عن التاريخ: " إن الانشقاقات لا تنشأ في حب الحقيقة، بل بالأحرى في شغف جامح للسيادة." تحدد المعركة القادمة من سيكون له السيادة في مملكة العلم العقول أم الخوارزميات.
إن المفارقات وقريبتها الإدراكية، الأوهام، تقدم مثالان مثيران للتساؤل عن العلاقة المتشابكة بين التنبؤ والفهم. وكلاهما يصفان حالات كنا نظن فيها أننا نفهمها، حتى واجهتنا بعض الشذوذ. إن الفَهم غير مفهوم كفاية كما يبدو.
إن من أكثر الأوهام البصرية شهرة "الانقلاب" بين تفسيرين مختلفين لنفس العينة- على سبيل المثال الوجه- مزهرية، البطة- أرنب والمكعب نيكر (مكعب بإطار سلكي محسوس في اتجاه أو اتجاهين، مع وجود أي وجه بالقرب من المشاهد.) نحن نعلم بأن العينات في حياتنا لا تتنقل في حركة مثل هذه، وأيضا هذا ما يمليه علينا حسّنا. اقترح لودفيغ فتغنشتاين، الذي كان مولعا بخدعة البطة- الأرنب، أنه بمجرد رؤية عينة يتبعها تفسير مبدئي يناقض فهم ما نراه، فإن ما نراه هو ما نتوقع أننا نراه.
وشرح العالم الإدراكي ريتشارد جريجوري، كيف يخدع البصر (2009)، مسميا الوهم "ظواهر غريبة للتنبؤ تتحدى إحساسنا بالواقع." كيفية حدوثها وهذا يعود إلى أن فهمنا مطلع بالتنبؤات الخاصة بأنظمة قوانين متعددة ومختلفة، ومطبقة خارج السياق. وإن في مكعب نيكر، كل إدراك متسق مع بيانات إدراكية في فضاء ثلاثي الابعاد. لكن غياب عمق الإماءات يعني بأننا لا نملك مجالًا لتحديد أي تأويل صحيحا. لذا نتنقل بين التنبؤين بافتقار للفهم المكاني الكافي.
المفارقات مثل الأوهام، تخضع الحدس للاصطدام مع الحقائق الجلية الأساسية عن العالم. المفارقات هي استنتاجات لحجج صحيحة أو رصد يبدو مناقضًا في ذاته أو لا يمكن الدفاع عنه بالعقل. وينخرطون مرارا في العلوم الطبيعية – خاصة في الفيزياء، في كل من فلسفته وتجسيداته العلمية. إن مفارقة التوأم، ومفارقة آينشتاين-بودولسكي-روزن وقطة شرودنغر كلها مفارقات اشتقت من البنية الأساسية للنسبية أو ميكانيكا الكم. وهذه بعيدة كل البعد عن المفارقات بالملاحظة مثل ملاحظة ازدواجية موجة الجسيم في تجربة الشق المزدوج. مع ذلك، في كل مجموعة من المفارقة، يفشل فهم الإنسان القائم على الاستدلال السببي اليومي ليصطف مع النتائج المتوقعة للتجارب.
عندما تطبق القوانين على المدخلات التي لا تحمل البنية ذاتها، يمكننا توقع الغرابة.
حتى الآلات يمكن أن تعاني من المفارقات. "مفارقة سمبسن" تصف الطريقة التي يظهر فيها اتجاه عام مستقل في مجموعات بيانات عدة يمكنها الاختفاء أو حتى الانعكاس حين يتحدون- مما يعني أن مجموعة بيانات واحدة يمكن استخدامها لدعم استنتاجات منافسة. يحدث هذا مرارا في الرياضة، حيث يتفوق لاعب واحد على الآخرين في أي من المواسم المحددة. وعندما تجمع عدة مواسم، نجد أن هؤلاء اللاعبين لم يعودوا يتصدرون، نظرا للاختلافات المطلقة مثل مجموع الألعاب التي لعبوها، وعدد مرات ركل الكرة، إلخ. هناك أيضا ما يعرف بـ " مفارقة الدقة"، حيث يبدو أن النماذج تعمل جيدا لأسباب دائرية بالكامل- أي أن، حلولهم في الأساس تُصنع داخل عيناتهم. هذا يقع خلف أمثلة جمة من تحيز خوارزمي حيث كثيرا ما يُساء تصنيف الأقليات القائمة على العرق ونوع الجنس، لأن بيانات التدريب تستخدم كمؤشر للدقة القادمة من عالمنا المنحاز وغير المثالي.
ربما أكثر الأعمال صرامة على المفارقات جاء من كورت غودل في القضايا غير القابلة رسميا للتعديل حول المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية والأنظمة الشبيهة (1931). حيث اكتشف غودل أن في كل نظام رياضي رسمي تام، نصوص لا يمكن برهنتها أو نكرانها حتى عندما تشتق من بديهيات النظام نفسه. إن بديهيات النظام التام تسمح بإمكانية حدوث التناقضات، وهذه التناقضات هي التي تكون الأساسيات لتجربة المفارقة. نصت رؤية غودل الأساسية بأن أي نظام للقواعد يملك نطاق تطبيقات طبيعي – ولكن عندما تطبّق القواعد على المدخلات التي لا تشكل نفس البنية التي وجهت عملية تطوير القواعد - يمكننا أن نتوقع الغرابة.
هذا بالضبط ما قد يحدث مع عدائية الشبكة العصبية، حين يتنافس الخوارزميون للفوز في لعبة ما. إن شبكة واحدة يمكن أن تدرب لتلاحظ مجموعة واحدة من العينات، مثل لافتة التوقف. وبالمناسبة، قد يحدث خصمه بعض التعديلات الثانوية الضارة لمجموعة بيانات حديثة، قد ذكر غودل، أن لافتة توقف مع قليل من البكسلات متحركة - في سبيل قيادة الشبكة الأولى لترتيب هذه الصور على سبيل المثال أي شكل مبتدئ من لافتة منعطف يميني إلى لافتات تحديد السرعة. يظهر تصنيف الخصم على أنه غباء حاد من وجهة نظر بشرية. لكن كما لو أن غودل فهم ذلك، قد تكون بعض الأخطاء طبيعية تماما من منظور أنظمة القواعد غير المرئية مشفرة في الشبكة العصبية.
وما قد تظهره لنا المفارقة والأوهام أن مقدرتنا على التنبؤ والفهم تعتمد على قصور جوهري للفكر، وتلك التحديدات لتحقيق الفهم يمكن أن تكون مختلفة جدا عن تلك التي تحد التنبؤ. بنفس الطريقة التي يكون فيها التنبؤ محدودًا في الأساس بحساسية القياس والقصور في الحسابات الرياضية، فإن الفهم يتعزز ويتناقص بقواعد الاستنتاج.
والسؤال عن ماذا نقصد بـ "حدود" يسلط الضوء على لماذا البشر منجذبون لكل هذه الآلات والمعادلات أساسا؟. إن ثورة الثقافة العلمية، وبمعناها الفسيح التكنولوجيا، هو تجميع للوسائل لاقتحام حدود المعرفة واللغة- حدود هي كالوحش الأسود لبيكون في الأورجانون الجديد.
والعلاقة بين الفهم والتنبؤ تتوافق مع الرابط بين الأنطولوجيا (رؤى داخل الطبيعة الحقيقية للعالم) والأبستمولوجيا (عملية كسب المعرفة عن العالم). إن معرفة قائمة على التجربة يمكنها اقتحام حواجز الفهم لوجودنا وتفسح مجال امتنان لمزايا الواقع الجديدة والجوهرية: بالدور، هذه القوانين الجوهرية تسمح للعلماء بتوليد تنبؤات حديثة لتختبرها في العالم. فعندما ظهرت حزمة من الرياضيات معروفة بـ " نظرية المجموعات" لإعطاء بروز للمفارقات، فإن تطوير العواقب لشيء ما يعرف بـ "نظرية الطبقة" أتى للإنقاذ للتغلب جزئيا على هذه التحديدات. وتطبق النسبية عندما يولد نموذج بطليموس للنظام الشمسي أو النموذج النيوتوني للميكانيكا توقعات فلكية خاطئة، لنلاحظ التصرفات الشاذة للكتل الضخمة في حركة سريعة. بهذه الطريقة، يصبح المنطق الوجودي لنظرية ما أساس لتنبؤات جديدة وأفضل، الأنطولوجيا تؤدي إلى الأبستمولوجيا.
لكن بمجرد وصول التقدم العلمي لحد معين، تظهر الأنطولوجيا والأبستمولوجيا لتتعادا. في ميكانيكا الكم، حالة مبدأ عدم اليقين التي لا يمكن فيها معرفة زخم الجسيم وموقعه على نحو كامل. تصف كلا من قصر أخذ قياسات دقيقة بإتقان (الأبستمولوجيا)، ويبدو أنها تنطوي على حجة عن الميكانيكية التي تخلق متلازمة جوهرية للموقع والزخم في مقياس الكم (أنطولوجيا). ففي الممارسة العملية، تنطوي ميكانيكا الكم على تطبيق النظرية بشكل فعّال من أجل التنبؤ بنتيجة ما ــ ولا يُستشعر بالفطرة الميكانيكية التي تنتج النتيجة. بعبارة ثانية، الأنطولوجيا ممتصّة من الأبستمولوجيا.
على النقيض، إن مجال الميكانيكا الأساسي في ميكانيكا الكم يسعى لتفجير هذا الحد وإعطاء تفسير حول سبب نظرية الكم وتنبؤها بالمستقبل كثيرا. إن تأويل الـ " العوالم المتعددة"، على سبيل المثال، يبطل رعب الكم في تفضيل الافتراض المذهل الذي فيه كل ملاحظة تولد كونًا جديدًا. وحماسة العمل في هذا الحد هي طريقة وميض الاستعلام العقلاني بين ظهور التنبؤ وظهور الفهم. وهي ليست مهمة عابرة للتميز بين المشكلة الأوبستمولوجيالية والمشكلة الأطولوجيالية هنا، فهي وثيقة الصلة، حتى "الارتباط" أو "التشابك".
إن إحدى الطرق القاسية لجعل المشكلة ترحل بعيدا هي ببساطة بالتصريح عنها، في حدود مناسبة، تختفي الأنطولوجيا- دقة البراعة اليدوية المعمول بها من مدرسة كوبنهاغن لميكانيكا الكم، الذي كان رأيهم العدواني السلبي: "اصمت واحسب!" (في تعبير مستحدث سيء السمعة لديفيد ميرمين). توقف عن دردشة تفسيرات محتملة لرعب الكم، بعبارة أخرى، إن البحث عن ميكانيكا أساسية مضيعة للوقت. وفي هذه الأيام يعتبر الحاسوب الحديث، أكثر من اعتباره نظرية الكم، ويخلو من أي ميل للتحدث، ولا يملك رغبة لفعل أي شيء عدا الحساب خفية وبغموض.
لم يكن فهم الكلام هو الهدف: بل كان توقع الترجمة الصحيحة.
قليل من العلماء سترضيهم كهذه الصفقة الفكرية التافهة. من البديهي في العلم أن نقول بأن النظرية الجيدة هي نظرية راقية- تشفر تفسيرًا بسيطًا (أو "مُقدّرًا") ويمكن إدراكه بداهة. إن النظرية الجيدة، على هذه النظرة للأمور، تسمح للشخص بالتمسك بمفهوم كلي بعين العقل، ليستنبط على الفور الكون الداخلي الضئيل. في بعض المجالات، لاسيما الفيزياء الرياضية، يلتقي كون الإنسان الصغير بكون الواقع الكبير. إن كلا من التفاحة والكواكب تتبع مسارات موصوفة بالمعادلات نفسها للحركة. هذه المصادفة يمكن أن تصف بتنوع على أنها "تناغم"، "توافق" أو وجود لـ " نطاق القوانين الثابتة".
الأكثر لفتا للنظر في نظريات التوافق هذه هو الملاحظة بأن القوة لقوى معينة متناسبة عكسيا لزاوية البعد من المصدر- مما يحافظ على كل من الجاذبية في النطاقات الواسعة والكهرطيسية في الصغيرة منها. كما يقول العالم الفيزيائي الراحل موراي جيل مان:
مثلما نقشر قشور البصل، مقتربين من أعمق طبقات البنية لنظام الجسيم الأولي، فالعلوم الرياضية مع ما ألفناه في كينونتها تقترح رياضيات جديدة، بعض مما يمكن أي يكون منطبق على المستوى التالي الأدنى- أو لظاهرة أخرى في نفس المستوى. وبعض الأحيان فإن علوم الرياضيات القديمة كافية.
لكن أحيانا حدسنا الغامض يصبح حاجزا للتقدم العملي. فإن حالات استخدام الحاسوب للتوضيح والترجمة وتعلم لغة طبيعية يصور الخطر من السعي وراء حساب حدسي لظاهرة علمية. إن جاذبية كلا الروبوتين روبي وهال، من الفلمين 2001: أوديسيا الفضاء (1968) وكوكب ممنوع (1956)، كانت في قدرتهم على فهم لغة البشر وردهم بمستوى ملائم من التهكم المتجهم، المفهوم لمحاوريهم. ولكن انتهى بثورة الترجمة الآلية والتعرف على الكلام. إن أكثر المناهج نجاحا للتعرف على الكلام في أوائل العقدين 1980 و1990 استخدمت نماذج رياضية قائمة على بنية الخطاب البشري، مركزة على فئات الكلمة والنحو الأعلى مرتبة والعلاقات الدلالية في الجملة. وبعدها ظهرت في أواخر 1990، شبكات عصبية عميقة جدًا. هذه الخوارزميات أهملت كثيرا المعرفة اللغوية سابقا، وسمحت للكلمات بالانبثاق تلقائيا بالتدريب في مستوى سمعي تماما. إن فهم الكلام لم يكن الغاية، بل كانت توقع الترجمة الصحيحة. فأصبحوا فعالين بصورة مدهشة. وبمجرد ما سلّم مجتمع الأبحاث نفسه للخوارزمية، أصبحت الحلول العملية كلها واضحة.
إن الشبكات العصبية تصور الرابطة التي يواجهها العلم المعاصر. وتظهر كيف يمكن لنماذج معقدة تضم بيانات قليلة أو غير منظمة عن النظام الذي يقدمونه أن تبقى متفوقة على نظريات قائمة على عشرات السنين من البحث والتحليل. في هذا الصدد، رؤى التعرف على الكلام تعكس هذا المستقى من تدريب الحاسوب للتغلب على البشر في الشطرنج وغو: حيث التمثيلات وقواعد الإبهام عند الآلات لا يلزمها أن تخالف التمثيلات وقواعد الإبهام عند الإنسان. فالشطرنج يُحل بالشطرنج، وليس بالفكر.
لكن هل الطريقة التي استطعنا بها قهر حدود الأداء البشري في الشطرنج والتعرف على الكلام تكشف ما يمكن أن يعنيه التغلب على الحدود في تنبؤنا عن الواقع الفيزيائي- أي، أن نحرز تقدم في العلم؟ وهل يمكنها إخبارنا عن أي شيء معنوي إن كانت حاجة الإنسان للفهم تعوق نجاح العلم؟
إن تاريخ الفلسفة يقدم بعض الطرق خارج المأزق العلمي الحالي. وأفلاطون كان أحد الأوائل ممن تحدثوا عن الالتباس في الفهم. إن النص مكرس للسؤال المعرفي- الذي هو- إدراك أو حكم صادق أو اعتقاد صادق، مع تفسير إضافي. ففي المناقشة، سقراط العنيد يقدم علم الهندسة والحساب والفلك كأمثلة على المقولة الأخيرة.
طورت نظريات الفهم أكثر على يد إيمانويل كانط في كتابه نقد العقل المجرد (1781). يجعل كانط البعد بين عالم المادة وعالم التمثيل العقلي- واقع مثل الأنطولوجيا ضد معرفة عقلية مثل الأبستمولوجيا. وعند كانط ، هناك فقط تمثيل للعالم في الدماغ، والعالم المادي يمكن أن يعرف فقط من هذه التماثيل. هذا يعني أن فهمنا ليس أكثر من تمثيل تقريبي وناقص يخص واقع تجريبي بوجوده الأفلاطوني (أو غير الموجود) وهو الحد النهائي للمعرفة. حجة كانط لا تساعدنا على تمييز الفهم من المعرفة: إنما، تقلب الفهم من اعتقاد يمكن دحضه إلى تمثيل داخلي لا يمكن إثباته.
والفيلسوف جون سيرل وضح تمييز المعرفة/الفهم في كتابه المؤثر العقل واللغة والمجتمع (1984)، حيث أقدم على تحدي ذكاء ببوليانا الآلي. طلب سيرل أن نتخيل أحدهم في الغرفة بدون فهم أصلي للغة الصينية، لكنه مجهز جيدا بمجموعة من المعاجم والقواعد النحوية. حين أخذ جملة باللغة الصينية، استخدم هذه المصادر لترجمة الجملة الهدف إلى الإنجليزية. وعندما يراعي أحدهم هذه التجربة الفكرية، يتضح له أنه لا أحد يحتاج فهم اللغة حين يترجم- من الضروري فقط أن تحقق الترجمة الأمانة.
الغرفة الصينية هي استعارة تعني تحليل قيد الخوارزميات، مثل هذه يمكن أن تجدول المعطيات في حقل رقمي أو تترجم جمل على صفحة ويب. في كلا الحالتين، الحلول الصحيحة تولد بدون أي "فهم" للمضمون. إذا ماهي طبيعة هذا الفهم المفقود الذي يبحث عنه سيرل؟
إن طبيعة الفهم هي الأساس لنقل وتكديس المعرفة.
يوجد العديد من الوسائل الباكونية التي تستطيع الوقوف في مكان من غرفة سيرل- مثل قوانين الشرائح لحل مشاكل الضرب الواسعة، أو التراكيب الهندسية مستخدما فرجار ومنقلة لإثبات النظريات، أو قوانين التكامل في حساب التفاضل والتكامل لحل مسائل حسابية واسعة أو حتى لانهائية. هذه التقنيات فعالة تماما لأنهم يتحاشون الحاجة للفهم. ومن الكافي ببساطة أن نتحرك بدقة خلال الخطوات الإلزامية لضمان نواتج مرجوة. أما الفهم، فكل من هذه الحالات، هو لشرح المنطق والاستخدام الملائم للوغريتمات، والحركة الهندسية الخاصة بالمنقلة والفرجار، أو الأساس العددي لأخذ حدود مع المستطيلات لتقريب المساحات. بالتالي، حتى في التمرين الرياضي اليومي، نحن نواجه الانشقاق بين الفهم والتنبؤ.
إن الفهم هو الوسيلة التي نتغلب بها على عالم المفارقة والخداع بفتح الصندوق الأسود للمعرفة من أجل التغيير. والفهم هو إيضاح الأخطاء المسوغة. بمجرد ما نفهم أن المكعب السلكي مفسر على أنه صلب ثلاثي الأبعاد، يتضح لماذا نرى الوجه نفسه والوحيد للمكعب كل مرة.
يمكن للبيانات أن تكتسب دون تفسير ودون فهم. والتعريف الأنسب للتعليم السيء هو أن ترسّخ الحقائق: كما في تعلم التاريخ بحفظ جذور التواريخ والأحداث. لكن الفهم الحقيقي هو تنبؤات الآخر أو تنبؤات المؤسسات الأخرى، التي توضح لنا أسباب طرائق العمل، فنحن حاجة لتكرار فكرة ما والتحقق من دقتها. وهذا يتطلب توسع للآلات غير الإنسانية التي تكون ذكية ومؤهلة لحل المشاكل، ويجب على هذه الآلات لأن تكون مؤهلة لتوضح أفعالها وأسابها.
إن المتطلب للتوضيح هو ما يربط الفهم بالتعليم والتعلم. "التعليم" هو اسم الاتصال الفعال للآليات السببية (إذا اتبعت هذه القوانين، ستحرز الانشقاق الطويل)، بينما "التعلم" هو انتقاء حدس ما للعلاقات بين المسببات وتأثيراتها (" وهذا هو سبب الانشقاق الطويل"). إن طبيعة الفهم هي الأساس حتى تنتقل المعرفة وتتوسع، وهي أيضًا الأساس للتنبؤات الطويلة.
كان الكاتب خورخي لويس بورخيس سيقوله الأفكار في مقالته "تاريخ أصداء الاسم" (1955):
معزول في الوقت والمكان، إله، وحلم، ورجل مجنون ومدرك لتكرار وغموض العبارة. إن هذه الكلمات، وصداها، هي العنوان لهذه الصفحات.
لنقل إن الإله هو الكون، والحلم رغبتنا للفهم، والآلة هي الإنسان المجنون، وكلهم يكررون عبارتهم الغامض. حاملون معهم كلماتهم وصداها التي تشكل النظام لسؤالنا العلمي. إنه تحدي قرن 21 في جمع علوم التعقيد مع التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي، إن أنجح أشكال المعرفة المستقبلية هي تلك التي تدمج فهم الإنسان وأحلامه بصدى الآلات الغامض والمبهم.