الثلاثاء , 03 أكتوبر 2023 - 18 ربيع الأول 1445 هـ 9:24 مساءً
لا يعالج العقل البيانات، أو يسترجع المعارف، أو يخزن الذكريات؛ فالعقل ليس حاسوبًا.
- ما هو العقل؟
روبورت ايبسن باحث علم نفس في معهد الأبحاث السلوكية والتكنولوجية في كاليفورنيا، ومؤلف 15 عشر كتابًا، ورئيس تحرير مجلة علم النفس اليوم.
بغض النظر عن معاناة علماء المخ والأعصاب وعلماء النفس الإدراكي، فصعب عليهم أن يجدوا مثل سمفونية بيتهوڤن الخامسة، أو نسخة من الكلمات والصور والقواعد النحوية، أو سمّ ما شئت من محفّزات الطبيعة، وهو كذلك عقل الإنسان؛ إنه ليس فارغ تمامًا ولكنه لا يحتوي على أغلب الأمور التي نتصوّرها، بل حتى "الذكريات" ليست فيه.
إن تصوّرنا القديم القاصر عن العقل له جذور تاريخية قديمة، لكن اختراع الحاسوب عام 1940 أدخلنا في متاهات متعددة. واعتقد علماء النفس، واللغويون، وعلماء الأعصاب، والخبراء في علم الإنسان السلوكي طيلة قرن ونصفه أن العقل يعمل كما يعمل الحاسوب.
وللتأكد من عدمية هذه الفكرة،؛ خذ مثلا عقول الأطفال. فالفضل للتطور حيث إن حديثي الولادة من الجنس البشري يتماثلون مع حديثي الولادة للثدييات من الفصائل الأخرى وتكون مهيأة للتعاطي مع العالم. وعلى الرغم من غشاوة رؤية الطفل، إلا أن الوجوه تلفته، فقد يتعرف بسرعة على والدته؛ فالطفل يفضل الصوت على الكلام، ويميزها عن بعضها، ولقد خُلقْنا -وبدون شك- لبناء تفاعلات اجتماعية.
ويولد الطفل الصحيح بأكثر من اثني عشر محفّزا لا إراديًا للاستجابة للمحفّزات الخارجية التي تساعده على البقاء؛ فهو يحرك رأسه في اتجاه الشيء الذي يمسح على خده أو يمتص أي شيء يدخل إلى فمه، ويحبس أنفاسه عند غطسه في الماء، ويقبض جاهدًا على الأشياء التي تمسكها يده، و يتحكم بوزن الأشياء تقريبًا، وما هو أهم أن الأطفال يولدون مهيئين بنظام تعليمي قوي جدًا، يجعلهم قادرين على التغيُّر سريعًا، فيتعاطون أكبر مع العالم حولهم، حتى لو اختلف عن عالم أجدادهم.
نولد ابتداءً بالأحاسيس، والاستجابة، ونظام التعلم الفعّال، وتتكاثر عند التفكير بها، إلا أنه عند افتقادنا لإحدى هذه الأمور، عند الولادة قد نعاني في صراعنا من أجل البقاء.
وهناك أشياء لم نولد بها؛ كالمعارف والمعلومات، والبيانات، والقواعد، والبرمجيات، والقواميس، والمقدمات، والخوارزميات، والبرامج، والنماذج، والذكريات، والصور، والمعالجات، والبرامج الفرعية، وأدوات تشفير للرموز، وأدوات فك الرموز المشفرة، والرموز والذواكر المؤقتة، والعناصر المصممة للتعامل مع الحاسوب، فنحن على أننا لم نولد بها؛ ليس لنا يد في تطوّرها.
ولا نخزّن المفردات والقواعد التي تخبرنا عن معالجة هذه الأشياء، ولا نخلق تصورًا للمثيرات البصرية، ونحفظها في منطقة الذاكرة قصيرة المدى ثم ننقلها إلى الذاكرة بعيدة المدى، ولا نسترجع البيانات أو الصور أو حتى الكلمات من سجلات الذواكر؛ فهذا عمل أجهزة الحاسوب، أما البشر فأعمالهم مختلفة.
وتعالج أجهزة الكمبيوتر حرفيًا المعلومات، كالأرقام والحروف والكلمات والصيغ والصور. ومن الجدير بالذكر أن ترميز المعلومات إلى نسق يمكن أن تستخدمه أجهزة الكمبيوتر واجب, مما يعني أنماطًا مؤلفة مكونة من رقمين وهما الرقم واحد وأصفار المسماه ("البايت - bytes’") المنظمة في سلسلة صغيرة وتسمى ("وحدات البايت"). على جهازي يحتوي كل بايت على 8 بت، وكل نمط معين من هذه البتات يرمز إلى الحرف (د)، وآخر للحرف (واو)، وآخر للحرف (ج). ومعا تشكِّل هذه البايتات الثلاثة كلمة "كلب". ويقول: على سبيل المثال, صورة القط هنري الظاهرة على سطح المكتب متشكّلة من صيغ خاصة من ملايين البايتات (واحد ميغا بايت) و الرموز الخاصة التي تُرسل للحاسب لتظهر الصورة وليس الكلمة. وأكيد أن أجهزة الكمبيوتر تنقل هذه الأنماط من مكان إلى آخر في مناطق تخزين محسوسة مختلفة محفورة في المكونات الإلكترونية. وتنسخ الحواسيب, بين فينة وأخرى, أيضًا الأنماط وتنقلها بطرق مختلفة. مثلا عند تصحيح الأخطاء في مسودة ما، أو عند لمس صورة، أو تخزين القواعد التي تتبعها أجهزة الكمبيوتر في النقل والنسخ والتشغيل على هذه المصفوفات من البيانات داخل الكمبيوتر. وتُسمى مجموعة القواعد هذه التي تعمل مع بعضها لمساعدتنا على فعل شيء ما "بالبرامج" أو "الخوارزميات", كشراء الأسهم أو حجز موعد من الإنترنت، أو ما يعرف اليوم بـ"التطبيقات".
عُذرًا على هذه المقدمة لعلم الحاسوب، إلا أني بصدد توضيح أمور منها: إن أجهزة الكمبيوتر تعمل بالفعل على تصورات رمزية للعالم؛ فأجهزة الحاسوب تخزّن وتسترجع, وتعالج البيانات أيضًا, وتحتوي على وسائل تخزين محسوسة, فالكمبيوتر يوجه بطريقة معينة في كل عمل يقوم به عن طريق ما يُسمَّى بالخوارزميات.
إن الإنسان لا يفعل مثله ولن يفعله. لكن مع وجود هذه الحقيقة، لماذا يتحدث العلماء عن حياتنا العقلية كما لو أننا أجهزة حاسوب؟
وصف خبير الذكاء الاصطناعي جورج ذاركاكيز في كتابه الذي أصدره عام ٢٠١٥ (تصوراتنا الخاصة) ستة أنواع مختلفة من الاستعارات التي وظّفها الإنسان خلال الألفي سنة الماضية؛ محاولة منه لشرح الذكاء البشري.
ونبدأ هنا بالأقدم، والمحفوظة في الإنجيل، والتي تبيِّن فكرة خلق الإنسان من الطين اللازب، التي نفخ بها الله من روحه؛ فروح الله دليل على ذكائنا اللغوي والنحوي.
ثم أدى اختراع الهندسة الهيدروليكية في القرن الثالث قبل الميلاد إلى رواج النموذج الهيدروليكي للذكاء البشري، والفكرة القائلة بأن تدفق السوائل المختلفة في الجسم - "الهزل" - كان سببًا لنشاطنا الجسدي والعقلي. استمرت الاستعارة الهيدروليكية لأكثر من ١٦٠٠ عام، مما أدى إلى توقُّف المجال الطبي عن البحث خلال ذلك الوقت.
وبحلول القرن السادس عشر، ابتكرت آلية تعمل بالبراغي والتروس، مما ألهم في الأخير المفكرين البارزين مثل رينيه ديكارت للتأكيد على أن البشر ما هم إلا كالآلات المعقدة. وفي القرن السابع عشر، اقترح الفيلسوف البريطاني توماس هوبز أن التفكير ينشأ عن حركات ميكانيكية صغيرة في الدماغ. وما إن شارف القرن الثامن عشر حتى قادت الاكتشافات المتعلقة بالكهرباء والكيمياء إلى نظريات جديدة للذكاء البشري-مرة أخرى- مجازية بالطبيعة إلى حد كبير. في منتصف القرن التاسع عشر، قارن الفيزيائي الألماني هيرمان فون هيلمهولتز عمل الدماغ بالتلغراف، مستلهمًا هذه الفكرة من التطورات المتقدّمة للاتصالات.
وبيَّن لنا يقينًا عالم الرياضيات جون ڤان نيومان أن وظيفة الجهاز العصبي للإنسان "رقمية" فهو يرسم لنا خطوطًا متناظرة، متوازية بين مكونات الكمبيوتر اليوم ومكونات عقل الإنسان.
وتعكس كل استعارة التفكير الأقدم في الحقبة الزمنية التي ولدت بها؛ إذ من المتوقع بعد بضع سنوات من بزوغ فجر تقنية الحاسوب في عام ١٩٤٠، أن يقال بأن العقل يعمل كما يعمل جهاز الحاسوب، مع دور وجود الأعضاء الجسدية التي يديرها العقل بينما يعمل التفكير كما يعمل البرنامج.
وبالنسبة للحدث البارز الذي أُطلِق ما نسميه اليوم بالعلم المعرفي الإدراكي، فقد كان عالم النفس جورج ميلر هو الناشر لكتاب(للغة والتواصل) عام (١٩٥١).
وافترض ميلر بأن الصحة العقلية يمكن أن تُدرَس دقيقة باستخدام المعلومات المقدمة في مجالات عدة كنظريات الحوسبة واللغويات.
واختصر هذا النوع من التفكير بشكله الدقيق في كتابه المختصر (الكمبيوتر والعقل) الصادر عام (١٩٥٨)، حيث أوضح فيه عالم الرياضيات جون ڤون نيومان وبشكل قاطع أن وظيفة الجهاز العصبي ما هي إلا وظيفة "رقمية بوضوح"، وعلى الرغم مما أقرَّه نيومان من أن هذه المعلومات البسيطة حول لعب العقل دور في التفكير والذاكرة. كان يرسم خطوطًا متناظرة بين مكونات جهاز الحاسوب اليوم ومكونات عقل الإنسان، مدفوعة بالتقدُّم المستمر في حقلي تقنية الحاسوب والأبحاث المتعلقة بالدماغ، وتطورت التخصصات المختلفة بجهد شاق وشغوف لفهم الذكاء البشري، مستندين بهذه الأبحاث على مبدأ واحد وهو أن الإنسان كأجهزة الكمبيوتر، ومعالجات البيانات. ويشتمل هذا الجهد على آلاف الباحثين، ويستهلك مليارات الدولارات على تمويلها، وأنتج دراسات هائلة تحتوي على مقالات وكتب تقنية وعامة.
على سبيل المثال: كتاب راي كورزويل (كيف تخلق عقلًا؟)، (اكتشاف سر عقل الإنسان) الصادر عام (٢٠١٣).
يبيِّن هذا المنظور، ويتفكَّر بخوارزميات العقل، وكيف يعالج العقل هذه البيانات، وكيف يشبه بشكل سطحي الدوائر المتكاملة في هيكلها. وتهيمن استعارة معالجة البيانات للذكاء البشري على التفكير البشري، سواءً بين الناس العامة أو المتخصصين. ولا يوجد مسألة متعلقة بسلوك ذكاء العقل البشري لم يسبقها توظيف لهذه الاستعارة، كما لو أنه لا يمكن الإشارة إلى سلوك ذكاء العقل البشري في عصور وثقافات دون الرجوع للمصدر وهم الآلهة. وتؤكد صحة الاستعارة في عالم اليوم بدون أي اعتراضات واستفسارات.
وبعد كل هذا، تعتبر استعارة معالجة البيانات استعارة أخرى. قصة نؤلفها لإسناد معنى يساعدنا على فهم ما لم نستطع فهمه. ومثلها الاستعارات السابقة، سنتجاهلها إلى حد ما؛ ثم تُستبدل باستعارة جديدة أو معرفة جديدة. زرت في السنة الماضية أحد المعاهد المتطورة في الأبحاث، وتحديث مجموعة من الباحثين؛ ليوضحوا سلوك الذكاء البشري بدون الرجوع لأي مجال من مجالات استعارة معالجة المعلومات. لم يكن بمقدورهم التعامل مع هذا، وحتى بعد إيثاري بأدب للتواصل عبر الإيميل حول هذه المسألة، لم يكن لديهم ما يقدمونه لعدة شهور، لقد تعاملوا مع المشكلة، لم يرفضوا التحدي ويعتبرونه تافهًا، لكنهم لم يجدوا الحلول لتقديمها. بمعنى أن استعارة معالجة المعلومات" ثابتة"، فهي تعرقل تفكيرنا باللغات والأفكار التي يصعب تفكيرنا بها.
من السهل معرفة المنطق الخاطئ في استعارة معالجة المعلومات، إنه يقوم على نظام المنطق الخاطئ - واحد مع فرضيتين قابلة للفهم واستنتاج خاطئ. الفرضية المعقولة رقم 1: جميع أجهزة الكمبيوتر قادرة على التصرف بذكاء. الفرضية المقبولة رقم 2: جميع أجهزة الكمبيوتر هي معالجة معلومات. الاستنتاج الخاطئ: جميع المدخلات قادرة على التصرف بذكاء هي معالجات معلومات.
وبغض النظر عن اللغة الرسمية، تبدو الفكرة القائلة بأن الإنسان لا بد وأنَّه مثَّل معالجات المعلومات فقط؛ لأن الكمبيوتر يعمل كمعالج للمعلومات، هي فكرة ضعيفة. وستُهجر هذه الفكرة في يوم ما، لكن سيعود لها المؤرخون للتنظير كما نفعل الآن، و ننظر إلى الاستعارة الهيدرولوجية والميكانيكية بأنها عديمة الفائدة. ومع أن استعارة معالجة المعلومات هي فكرة سخيفة كما يُقال؟ لماذا أصبحت عالقة في عقولنا؟ ما الذي يمنعنا من عزلها جانبًا، كما لو بوابة فهمنها أغلقت؟
هل هناك طريقة لفهم الذكاء البشري دون الاعتماد على عكاز فكري ضعيف؟ وما الثمن الذي دفعناه مقابل الاتكاء الشديد على هذا العكاز المهترئ لفترة طويلة؟ تبدو استعارة معالجة المعلومات، هي التي توجّه كتابة وتفكير عدد كبير من الباحثين في مجالات متعددة منذ أزمنة طويلة. ما هي التكلفة التي سندفعها؟
هناك تمرين صفي أجريته عدة مرات خلال عدة سنوات، أطلب من الطالب أن يرسم صورة مفصَّلة لعملة الدولار - "مفصلة قدر الإمكان"، أعطي تعليمات للطالب بأن يرسم عملة الدولار على السبورة أمام جميع الطلاب. عندما ينتهي الطالب، أغطّي الرسمة بورقة، وآخذ دولار من محفظتي، وألصقها على السبورة، وأطلب من الطالب إعادة المهمة نفسها. عندما ينتهي الطالب منها، أكشف عن الرسمة الأولى، ليعلق الطلاب على الاختلافات.
ربما لم ترَ دليلًا كهذا وقد تواجه صعوبة في تخيُّل النتيجة، سألت جين هيون، أحد الطالبات المتدرِّبات في المعهد معنا. هنا رسمة لها "من الذاكرة" (لاحظ هذه الرسمة المجازية).
وهنا رسمة أخرى رسمتها مع وجود العملة الورقية أمامها:
فوجئت جيني بالنتيجة مثلك لكنها مفاجأة متوقعة. نجد أن الرسمة التي رُسمت والعملة ليست أمامها كانت رسمة سخيفة، مقارنة بالرسمة التي رسمت والعملة أمامها، على أن جيني حافظة للعملة الورقية عن ظهر قلب.
ما هي المشكلة؟ أليست عقولنا فيها "صورة مطبوعة" للدولار "مخزنة" في "سجل الذاكرة"؟ ألا يمكننا فقط "استرجاعها" واستخدامها لرسم رسمتنا؟
من الواضح أن الأمر ليس كذلك ولن يستطع علم الأعصاب تحديد موقع- ولو بعد ألف عام – صورة الدولار المخزنة داخل الدماغ البشري لسبب أنها ليست موجودة في الأصل.
وطالما أن فكرة تخزين الذكريات في خلايا عصبية فردية هي فكرة عقلانية: أين وكيف تُخزن الذكريات في الخلية العصبية؟
تعلمنا مجموعة من دراسات الدماغ أن بعض مناطق الدماغ وأحيانًا بعض مناطقه الكبيرة تشارك في أكثر مهام الذاكرة البسيطة، وعندما تكون المشاعر في أقوى حالاتها، تتنشط ملايين من الخلايا العصبية . في دراسة أجريت عام 2016 على الناجين من حادث تحطُّم طائرة، أجراها عالم النفس العصبي بجامعة تورونتو بريان ليفين وآخرين، تذكُّر الحادث يزيد من النشاط العصبي في "اللوزة، الفص الصدغي الإنسي، خط الوسط الأمامي والخلفي، والقشرة البصرية" للركاب.
وفكرة العلماء المطورة بأن بعض الذكريات الخاصة تُخزّن بطريقة أو بأخرى في خلايا عصبية مفردة هي فكرة عقلانية. فلو أن أي شيء يبقى بمثل هذه القوة يدفع الذاكرة لمستويات أكثر تحديًا، كيف وأين تُخزّن الذكريات في الخلية؟
ماذا حدث عندما رسمت جيني عملة الدولار وهو ليس أمامها؟ إذا لم تر جيني فاتورة دولار من قبل، فإنه من المحتمل ألا تشبه رسمتها الأولى رسمتها الثانية، بل ستغير من تصورها لعملة الدولار، ولو أنها رأته من قبل، فستغير تصورها بطريقة تسمح لها إلى إعادة تصور رؤيته إلى حد ما.
يذكرنا الفرق بين الرسمتين أن تصوُّر شيء ما (أي رؤية شيء ما في عدم وجودة) أضعف من رؤيته وهو موجود، وهذا هو السبب وراء سرعتنا في التعرف أكثر من سرعتنا على التذكر. عندما نعيد تذكر شيء ما ونستخدم هنا كلمة (تذّكر) والتي تعني بالإنجليزية (remember) والمأخوذة من اللاتينية، والتي يسبقها المقطع (re) ويعني: إعادة، أو "والذكريات " (memorari) وتعني: أن تعي اللحظة، علينا أن نحاول عيش التجربة؛ لكن عندما ندرك شيئًا ما فيجب علينا فقط أن نكون واعين أننا مررنا بهذه التجربة مسبقًا.
قد تعترض على هذا التوضيح؛ وتقول بأن جيني شاهدت عملة الدولار مسبقًا، لكنها لم تبذل جهدًا " لحفظ" تفاصيله. وقد تقول: ولو قلت، كان من الممكن أن تكون قد رسمت الصورة الثانية دون رؤيتها للدولار. ومع هذا، وحتى في مثل هذه الحالة، لم "تخزن" أي صورة للدولار في دماغها. لقد أصبحت مستعدة لرسمها بدقة، تمامًا كما يصبح عازف البيانو بالممارسة أمهر في العزف على كونشيرتو دون حفظ نسخة من النوتة الموسيقية.
من خلال هذا التمرين البسيط، يمكننا البدء في بناء إطار لنظرية خالية من الاستعارات للسلوك البشري الذكي - نموذج لا يكون فيه الدماغ فارغًا تمامًا، ولكنه على الأقل فارغ مما تقوم عليه استعارة معالجة المعلومات.
وتتنوع تجاربنا بتنقلنا حول العالم. ولعل من التجارب الجديرة بالملاحظة هي الثلاثة تجارب التالية:
(1) نلاحظ ما يحدث حولنا (سلوكيات الآخرين، أصوات الموسيقى، التعليمات الموجهة لنا، الكلمات على الصفحات، الصور على الشاشات) ؛ (2) نحن معرّضون لاثنين من المثيرات الخارجية غير المهمة: (مثل صفارات الإنذار)، ومثيرات خارجية مهمة (مثل ظهور سيارات الشرطة) ؛ (3) معاقبتنا أو مكافأتنا على التصرف بطرق معينة.
نصبح فعّالين إذا تغيّرنا بطرق تتوافق مع تجاربنا الحياتية، مثلًا إذا استطعنا الآن قراءة قصيدة أو الغناء، أو اتباع التعليمات التي تلقيناها، أ, استجبنا للمحفِّزات غير المهمة مثلما نفعل مع المحفِّزات المهمة، أو امتنعنا عن التصرف وفقًا لما عوقبنا به، أو أعدنا تصرفاتنا التي كافؤونا عليها.
على الرغم من العناوين الغامضة، لا أحد لديه فكرة عن كيفية تغيُّر الدماغ بعد أن تعلّمنا أن نغنّي أغنية أو نقرأ قصيدة تحت ضغط ظرف ما، أو عن تخزين الأغنية والقصيدة فيها. لقد تغيّر الدماغ ببساطة بطريقة منظّمة تسمح لنا الآن بالغناء أو بقراءة القصيدة تحت ظروف معينة. عند أهمّ بالأداء، لا "أسترجع" الأغنية ولا القصيدة من أي مكان في الدماغ، أكثر من أنني "أسترجع" حركات إصبعي عندما أضغط على مكتبي وأنا جالس. نغني أو نقرأ مباشرة ولا حاجة لاسترجاعها.
قبل عدة سنوات، سألت عالم الأعصاب إريك كاندل من جامعة كولومبيا - الحائز على جائزة نوبل لتحديد بعض التغييرات الكيميائية التي تحدث بين المشابك العصبية عند (الحلزون البحري) بعد تعلم شيء ما -وكم المدة التي يتوقع أن نستغرقها لفهم عمل الذاكرة. أجاب سريعًا: "مئات السنوات". لم يخطر لي سؤاله عما إذا كانت استعارة معالجة المعلومات تبطّئ تقدُّم علم الأعصاب، ولكن بعض علماء الأعصاب بدأوا في التفكير فيما لا يمكن تصوره - أن الاستعارة حقيقة لا يمكن الاستغناء عنها .
ولكن يرفض عدد قليل من علماء علم السلوك المعرفي - وعلى رأسهم أنتوني كيميرو من جامعة سينسيناتي، مؤلف العلوم المعرفية الراديكالية (2009) - وجهة النظر المؤيدة بأن الدماغ البشري يعمل مثل الكمبيوتر. ووجهة النظر السائدة وهي أننا مثل أجهزة الكمبيوتر، نفهم العالم من خلال حوسبة التصورات العقلية، لكن يصف كيميرو وغيره طريقة أخرى لفهم السلوك الذكي - كتفاعل مباشر بين الكائنات الحية والعالم الخارجي.
وهناك مثال مفضّل لدي عن الاختلاف المعتبر بين منظور معالجة المعلومات وما يسمى اليوم بوجهة النظر "المعادية للتصور الذهني" للأداء البشري؛ إذ ينطوي على طريقتين مختلفتين لتوضيح كيفية تمكن لاعب البيسبول من الإمساك بكرة الطائرة – شرحها مايكل ماكبيث وزملاءه في ورقة علمية عام ١٩٩٥م، الآن في جامعة ولاية أريزونا. وتتطلب استعارة معالجة البيانات من اللاعب صياغة تقدير للظروف الأولية المختلفة لطيران الكرة كقوة التأثير وزاوية المسار، وغيرها، ثم إنشاء وتحليل نموذج داخلي للمسار الذي من المرجّح أن تتحرك الكرة فيه، ثم استخدام هذا النموذج لتوجيه وتعديل التحركات الحركية باستمرار في الوقت المناسب لاعتراض الكرة.
كل هذا جيد إذا فعلنا كما تفعل أجهزة الكمبيوتر، لكن ماكبيث وزملاؤه قدموا تحليلًا بسيطًا للإمساك بالكرة: يحتاج اللاعب إلى التحرك بطريقة تحافظ على الكرة في علاقة بصرية ثابتة فيما يتعلق بلوحة المنزل والمناظر المحيطة (من الناحية الفنية، في "مسار بصري خطي"). قد يبدو هذا معقدًا، ولكنه سهل جدًا، ويخلو من الحسابات والتمثيلات والخوارزميات.
لن نقلق بذهن الإنسان في الفضاء السيبراني، ولن نُخلّد بالتحميل.
اثنان من أساتذة علم النفس في جامعة ليدز-بيكيت في المملكة المتحدة - أندرو ويلسون وسابرينا جولونكا - يستعيران مثال البيسبول من أمثلة أخرى التي يمكن النظر إليها ببساطة وبشكل معقول خارج إطار تحليل البيانات؛ إذ استمرت معهم حركة التدوين حول ما يسمونه "نهج أكثر تماسكًا وتجانسًا للدراسة العلمية للسلوك البشري يتعارض مع نهج علم الأعصاب الإدراكي المعرفي المعروف". هذا أبعد ما يكون عن الحركة؛ تستمر العلوم الإدراكية المعرفية السائدة في التخبُّط في استعارة تحليل البيانات، وقد تنبأ بعض المفكرين حول مستقبل البشرية باعتماده على صحة الاستعارة.
أحد التنبؤات - التي قدَّمها العالم المستقبلي كورزويل، والفيزيائي ستيفن هوكينج، وعالم الأعصاب راندال كوين بما إن الوعي البشري يشبه برنامج الكمبيوتر، سيكون من الممكن قريبًا تحميل العقول البشرية على جهاز الكمبيوتر، في فلك سنصبح فيه أقوياء وخالدين بعقولنا. قاد هذا المفهوم الفيلم الخيالي Transcendence (2014) جوني ديب كعالم يشبه كورزويل الذي حمّل عقله على الإنترنت – وكانت النتائج كارثية على البشر.
ولأن استعارة معالجة المعلومات ليست صالحة ، فلن نقلق بذهن الإنسان في الفضاء السيبراني؛ ولن نخلد بتحميل وتنزيل عقولنا. بسبب عدم وجود برامج الوعي في الدماغ وبسبب مشكلة أعمق أيضًا قد نسميها مشكلة التفرد، الملهمة والمحبطة في آن.
لأنه لا يوجد "مستودع للذاكرة" ولا "صور ذهنية" للمحفّزات في الدماغ، ولأن كل ما هو مطلوب لنا للعمل في العالم هو أن يتغير الدماغ بطريقة منتظمة نتيجة لتجارب حياتنا، لا يمكن تصديق أن إنسانين قد يتغير عقليهما بالطريقة نفسها عندما يتعرضان لنفس التجربة. مثلًا إذا حضرنا معًا الحفلة الموسيقية نفسها، فإن تغيرات دماغي عندما أستمع إلى بيتهوفن ستكون مختلفة عنك. هذه التغيرات مبنية على البنية العصبية الفريدة الموجودة، وتطورت تلك البنية خلال سنوات التجارب الفريدة.
لهذا السبب، كما أوضح الأستاذ فريدريك بارتليت في كتابه "التذكر" الصادر عام ( ١٩٣٢م)، لن يكرر شخصان قصة سمعوها بالطريقة نفسها ولماذا؟ ستختلف روايتهما للقصة مع مرور الوقت، ولن ينسخان القصة أبدًا؛ فكل واحد منهما سيغير منها بطريقته، وعندما يُسأل عن القصة لاحقًا؛ ستسمع تجربة قصة جديدة إلى حد ما، (انظر الرسم الأول لتجربة رسم الدولار المذكورة في الأعلى).
وهذا إلهام أعتقده فهو يعني تفرُّد كل واحد منّا في تكوينه الجيني وتغير عقولنا مع الوقت. وهو محبط أيضًا، لأنه يجعل مهمة عالم الأعصاب شاقة جدًا. وتشمل أي تجرية معينة تغييرًا منظمًا لألف خلية عصبية، أو مليون خلية عصبية، أو حتى الدماغ كله، مع تغير أنماط الدماغ المختلفة.
وما هو أسوأ من ذلك أنه لو أخذنا لقطة لجميع الـ (86) مليارًا خلية عصبية في الدماغ ، ثم محاكاة حالة تلك الخلايا العصبية في جهاز الكمبيوتر، فإن هذا النمط الواسع لن يعني شيئًا خارج جسم الدماغ الذي أنتجها، ولعل هذه الفكرة هي التي شوّهت فيها استعارة تحليل المعلومات تفكيرنا عن الأداء البشري، في حين أن أجهزة الكمبيوتر تخزّن نسخًا دقيقة من البيانات - النسخ التي يمكن أن تستمر دون تغيير لفترات طويلة ، حتى بعد توقف حياتنا - فإن الدماغ يحافظ على فكرنا عندما يبقى حيًا. ليس هناك مفتاح تشغيل، فإما أن يستمر الدماغ في العمل أو نختفي. لقد ذكر عالم الأعصاب ستيفن روز في كتابه مستقبل الدماغ الصادر عام (٢٠٠٥) بان لقطة حالة الدماغ الحالية لن يكون لها معنى ما لم نعرف عن تاريخ صاحب الدماغ؛ وربما حتى السياق الاجتماعي الذي نشأ فيه.
فكّر في صعوبة هذه المشكلة، فلفهم أساسيات كيفية الحفاظ على العقل البشري، قد نحتاج إلى معرفة الحالة الحالية لجميع الخلايا العصبية التي يبلغ عددها (86) مليارًا وترابطها البالغ (100) تريليون، والقوى المتغيرة التي ترتبط بها، وجميع حالات الـ (١٠٠٠) بروتين موجودة في كل نقطة اتصال، وكيف تساهم النشاطات وليدة اللحظة في تكامل النظام، أضف إلى ذلك تفرد كل دماغ وتفرد تاريخ حياة كل شخص، إن تخمين كاندل يبدو واسع الفأل (ففي مقال رأي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" اقترح عالم الأعصاب كينيث ميللر أن الأمر سيستغرق "قرونًا" فقط لفهم التفاعل العصبي).
لقد صرفت مبالغ طائلة على أبحاث الدماغ، و استند بعضها على أفكار ووعود خاطئة يصعب الوفاء بها. إن أكثر مثال ظاهر لعلم الأعصاب الخاطئ، وثّق مؤخرًا في تقرير مجلة Scientific American، يتعلق بنموذج محاكاة الدماغ البشري الذي تبلغ قيمته (1.3) مليار دولار والذي أطلقه الاتحاد الأوروبي في عام ٢٠١٣ على جهاز كمبيوتر سيكون بحلول عام ٢٠٣٠، وأن مثل هذا النموذج سيُحدِث ثورة في علاج مرض الزهايمر وبعض الاضطرابات الأخرى، ومول الاتحاد الأوروبي هذا المشروع بدون قيود، وفي غضون عامين تحوّل المشروع إلى "نموذج محطم للدماغ "، وطُلب من ماركرام التخلي عن فكرة المشروع.
نحن كائنات حية، ولسنا حواسيب.
لنفهم أنفسنا، دون أن نُرهق عقولنا بالأفكار السخيفة. لقد استحوذت استعارة تحليل البيانات على ما يقارب نصف على هذا النهج، ويبدو أن الوقت قد حان الآن للتخلي عن هذه الفكرة وتنحيتها جانبًا.