السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:03 صباحاً
لقد كنت طوال حياتي راقصة ومنظـّرة سياسية، فكما يعتمد العمل والتفكير في بعض حياتي على جسدي تمامًا فإنه يعتمد بعضها الآخر على فكري كلّه، فالرقص والبحث الأكاديمي مجالان منفصلان ولكنهما متساويان لمعظم حياتي المهنية. فعلى الرغم من ذلك ومع مرور السنين ازداد وعيي بأن كثير من الناس يقللون قيمة الرقص ويبعدونها عن التفكير والعمل. فالرقص في أذهانهم ليس إلا نشاط عاطفي يتألف من حركات عفوية غير مخطط لها أو مسعى رياضي خالص هدفه الوحيد تجاوز الحدود الطبيعية للجسم. وأعتقد أيضا أن أحد أسباب استمرار هذه الفكرة عن الرقص هو تحيز قديم متأصل على مهن الجسد. ففي مبدأ أرسطو المثالي عن السياسة، يُستعبد الميكانيكيين والمزارعين وأصحاب المتاجر وأولئك الذين يعيشون حياة صعبة - حياة العمل البدني والضيق - من المواطنة الكاملة، وطبيعة حياتهم لا تترك لهم أي وقت للترفيه، ولا يمكن الاستغناء عن عملهم الجسدي لدعم الأعمال المتداولة في المدينة، ففي الوقت الحاضر نواصل تقسيم العمل إلى تسلسل هرمي "عالي المهارات" و "منخفض المهارات" بل إن هناك افتراض خاطئ أن أولئك الذين يعتمد عملهم على قدراتهم الجسدية يساهمون بأقل من أولئك الذين يعتمد عملهم على قدراتهم العقلية، والعكس صحيح.
لقد تواجد الراقصون على أعتاب هذا الإجحاف، ويُنظر إليهم فنانون بمستوى محترف في الرقص؛ لأن قدرتهم المدربة بحرفية على الجمع بين التفكير الجسدي والعقلي تجعل الرقص مليء بالطاقة رغم إمكانية تأديته، فالراقصات يتعلمن ويحافظن على ما هو ممكن بالتعبير الجسدي، بدأت كغيري بتعلم الرقص في سن مبكر، وتبرمجتُ سريعاً في عالم من القوانين والأنماط والعادات. مثلًا: نضع اليد اليسرى عند البدء على الحاجز الأفقي الذي يكون على مستوى الخصر ونعود دائما لذلك الحاجز للتبديل بين الجانبين، وقبل الانتهاء من الحركة الخامسة نميل أولاً للأمام ثم للجانب الأيسر ثم نميل للخلف ثم للجانب الأيمن مع التركيز على حركة المرفقين والمعصمين والأصابع لتكون مدوّرة إلى الأعلى، والقدم تكون على شكل قوس من الكعب لأصابع القدم. فالراقصة في مرحلة التدريب يجب أن تتعلم كيف تفصل روحها عن جسدها وكيف تتخلى عن اهتمامها بشكلها وجمالها، أكانت تلك رقصة الباليه الكلاسيكية أم رقصة حديثة أو أي نوع آخر من الرقص. لأن التعامل مع الرقص بأنه شيء مادي مشكلة كبيرة وتخضع له شخصيتنا، تقول مبتكرة الرقصات الأمريكية وكاتبتها تيريزا روث هوارد: "بأنها تفصل العاطفة والشعور عن الجسد وتشبهه بالطين"، فالرقص يحوّل أجسادنا إلى أدوات للأفكار والمعتقدات والتعبيرات الخارجية – سواء للراقص أو المعلم أو مصمم الرقص أو حتى أفكارنا المثالية الخاضعة للتقنية، وبهذه القيود وهذا النوع من الممارسة هل هناك مساحة الحرية والاهتمامات البدنية؟
إن ممارسة التطوير والاكتساب والاستقلالية ضرورة لأجسادنا ومعنوياتنا، فقد تعلمت كيفية تقدير واحترام الاهتمامات في أواخر مسيرتي في الرقص، ولكنني تعلمته قبل ذلك في عملي في التنظير السياسي. ففي عام ٢٠١٣ تخرجت من المدرسة وكنت أرقص آنذاك وأؤدي واجباتي اليومية، رغم أن معظم ممارستي الروتينية كانت في الباليه الكلاسيكي، تعرضت لإصابات عديدة وخضعت لعمليات جراحية، فأصبحت قلقة من ضعف جسدي، وأنه لم يعد مناسبًا لمتطلبات الشكل الفني، وأن الوقت قد حان للإقلاع والعثور على مجال مختلف، لكن لحظة ما في رقص الباليه غيرت قناعاتي.
قالت مرة موريل مافري راقصة الباليه السابقة في سان فرانسيسكو ومدربة الباليه في جامعة ستانفورد بأن "الراقصات يخرقن العادات، عليهن إثبات أن لديهن سلطة على أجسادهن". ولم يكن حينها سوى فترة توقف قصيرة وبدأ العازف بعدها يعد من واحد لأربعة لتبدأ الأوتار بالعزف مرة أخرى. لكن كلماتها ترددت في ذهني وسايرتني لبقية الفصل. فغالبا ما كنت أعتقد أن الرقص يتألف من بناء عادات بدنية معينة أو عادات يمكنني تنفيذها دون تفكير بمجرد أن أتجاوز العتبة بين "العالم الحقيقي" واستوديو الرقص، لكن نقد مافري ساعدني على رؤية الحكمة من ذلك وجعلني أتراجع عن بعض العادات الجسدية والعقلية التي تبنيتها أزمنة طويلة، ولا أقصد أن تنظيم ومجموعات ومفردات وقواعد الباليه نفسه انقلبت فجأة رأساً على عقب بل أقصد أنه حتى التشكيل الرسمي وشكلية النموذج يجب علي أن أملأها بطريقتي المناسبة.
أدقق في تحركاتي من أكبر القفزات إلى أصغر الإيماءات متسائلة عن أصولها، وقد حيرتني كثيرًا وضعية رقصة بورت دي براس في أرابيسك - الباليه المبدع الرهيب - وأفقدتني توازني، لكنها كانت جميلة إلى حد ما. من أين جاء الكمال للأرابيسك؟ هل من لياقة قفصي الصدري أم من ساقي المستقيمة أم من أطراف أصابعي؟ كنت أسيطر في بعض الأوقات على بعض أشكال الرقص على جسدي أو التواءاته، ولكنني كنت بحاجة إلى التمعّن فيها وقتًا طويلًا، جرحت أصابع قدمي كثيرًا، حتى عندما لم أكن بحاجة إلى التوازن. وقد سقطت لفرط ما انحنيت رغم استطاعتي بجولة أخرى، ولم يكن اختلاسي النظر إلى أقدامي فن وأسلوب، بل كنت أرقب أصابعي. ومن هنا بدأت أتمعن في الرقص وأنظر إليه باختلاف عليّ وعلى الآخرين. وأخذت ألاحظ أن أيسر الحركات والإيماءات والخطوات تنقل هذا القوام والأحاسيس والمشاعر، ففهمت أن الانحناء وتقوس الأقدام هما لمقاومة الاستناد على القاع، وأما الدوران - لحظتي المفضلة - ليس شكل أصوغه بساقي وذراعي بل هو للتعبير عن جسدي كله وهو يدور في الفراغ، فآثرت التدرب على تسخير قوتي ووزني والاستسلام للجاذبية على الظهور بالوزن المثالي.
لقد ألهمتني هذه المعايير المختارة في الرقص وفي غيرها من الحوائج الأخرى، وتفنّنت بها في الرقص، فالرقص هو مهنتي الجسدية للتفكير المستقل والنقدي - بأفكاري وعاداتي وقيمي ومعتقداتي-. ففي تلك اللحظة أدركت أن أكون الرقص والبحث يتلاقيان ولهما كيان واحد لا ينفصل وهما وسيلة للبحث عن الأفكار في الشخصية والحياة الرائعة. إن المعرفة التي اكتسبتها بالرقص عبرت عن أفكار جسدية حول الاستقلالية والحرية التي كنت أبحث عنها وأنا منظّرة سياسية. وكنت أمارس الرقص يوميًا لأنه تجربة جسدية منحني قدرة على مواجهة الحياة وإعادة توجيهها، وأدركت أن هذه القدرة تدل على قوة الشخصية لا ضعفها، كما وصفها روب ريتش في كتابه "جسر الليبرالية والتعددية الثقافية في التعليم الأمريكي" (٢٠٠٢).
إننا نتعلم بالممارسة، وإن ممارساتنا - الجسدية والفكرية - أجدى من العمل الروتيني و العادات المتراكمة، وحين نجيد ممارسة "بعض الأعمال الدقيقة المخصصة"، ستتجسد استقلاليتنا وإنسانيتنا وسنتمكّن من الإحساس بالإنجاز ونشعر بوجودنا ورضانا الذاتي، كما تقول الراقصة مارثا جراهام.
- المصدر