السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:26 صباحاً
تفاصيل من خريطة العالم التركية التي رسمها الكاشغري عام(664هـ/ 1266م) وقد جعل من بالاساجون مركزًا للأرض.
لطالما كان مركز الخريطة هو منبع المعلومة المناسب لبداية القصة والتاريخ، وقد اعتاد الجغرافيون العرب على وضع بحر قزوين في مركز خرائط العالم، ولهذا عندما نعود لتاريخ الخريطة التركية في القرون الوسطى نجد أن مدينة بالاساجون تتموقع في قلب العالم، وعليه فإن مسألة تدريس "تاريخ العالم" ازدادت أهميته اليوم.
أثير جدل في الولايات المتحدة من صيف العام الماضي عقب إعلان أحد هيئات الاختبارات المؤثرة "برنامج التعيين المتقدم "(AP) عن تغييرٍ في برامجها التدريبية، وقد قرر هذا التغيير بداية "تاريخ العالم" من عام 1450؛ وهو العام الذي رويت فيه قصة هيمنة الأوروبيين على جميع القارات. وتجاهلت أصل نشأة الحروف الهجائية والزراعة والمدن والحضارة، والواقع أنه قبل ذلك الوقت بنت الحضارات الأخرى الإمبراطوريات وقادت العلوم والطب والفلسفة وسعت للاستفادة من شبكات التجارة وتوسيعها لتسهيل عملية نقل وتبادل السلع والآراء والمعتقدات والأيدي العاملة.
تراجع مجلس الكلية لبرنامج التعيين عن قراره بعد الضغط الذي تلقاه وقال في بيان له: "لقد تلقينا آراء سديدة وقيمة من معلمي البرنامج وطلابه". وعليه أعيد التاريخ 250 عامًا لتصبح بداية العام 1200. وبناءً على ذلك قال المجلس: "يمكن للمعلمين والطلاب بدء البرنامج بدراسة الحضارات في إفريقيا والأمريكتين وآسيا؛ لأنها "أساس العصر الحديث".
وهذا يمحو أفلاطون وأرسطو، وحتى الإغريق والرومان؛ على افتراض أن هذه الحضارات لا تمثل "أساس العصر الحديث" وذلك أمر غريب جدًا؛ فبالنظر مثلاً إلى العديد من مباني العاصمة واشنطن الشهيرة نجد أنها صُممت بطراز كلاسيكي لإحياء ذكرى تاريخ العالم قبل 2000 عام؛ وأيضًا ما الذي جعل مارك زوكربيرغ -البارز في مجال التقنية الحديثة في القرن الحادي والعشرين- يتخذ الإمبراطور أغسطس قدوةً له!
ولعله أيضًا محا تاريخ سلالة هان في الصين في الفترة بين (206ق.م. - 220م)، وكذلك القنوات التي ربطت المحيط الهادئ بالمحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط منذ 2000 عام، والتي يظهر منها أن آسيا وإفريقيا وأوروبا قارات مرتبطة ببعضها منذ قرون عديدة في عصر كان أحق بأن يطلق عليه فعلًا عصر "العولمة". وأقصى حضارة المايا وثقافتها في أمريكا الوسطى ومملكة إغودوميجودو-أو المعروفة بمملكة بنين- في غرب إفريقيا، وتجاهل إنجازاتهما الاقتصادية والثقافية والعسكرية والسياسية بذريعة أنها لا تمت "للعصر الحديث" بصلة. وماذا أيضًا عن الإمبراطور الهندي أشوكا؟ أو سلالة تشولا الحاكمة في جنوب الهند الممتد نفوذها إلى جنوب شرق آسيا في القرنين العاشر والحادي عشر؟ وحتى الروابط التي جمعت بين إسكندنافيا وآسيا الوسطى وساعدت على إخراج كل أوروبا الشمالية من ما كان يُعرف بـ "العصور المظلمة"؛ هي الأخرى ما ذكرت في هذا التاريخ. وهو أمر حساس جدًا لمشكلة تغير المناخ والبحث في جوانب تغيرات درجة الحرارة العالمية قبل 1500 عام المتسببة في انهيار المدن وتشتت السكان وانتشار الأوبئة.
يشوق التاريخ ويحفز الطلاب والمعلمين كثيرًا عندما يجدون رابطًا بينه وبين العصر الحالي أو مجالًا يتعرفون فيه على العديد من المستويات والاتجاهات العميقة والعمل عيها، وأيضًا عندما يستكشفون الماضي عبر تحدي المسلمات المتمثلة في رسم وقائع العالم على خطٍ زمني متقدم– وهو ما يعتقده مجلس الكلية في بيانه الذي يربط بين "العصر الحديث" والتاريخ بدأً من عام 1200.
وإن كنت تريد حقًا أن ترى مدى سذاجة هذا الرأي، وكم هو مؤسف تضييق نطاق دراسة تاريخ العالم، فألقِ نظرة على ما يحتل الصفحات الأولى في صحف وجرائد أي بلد في العالم اليوم، ففي الصين –مثلاً- تتصدر "مبادرة الحزام والطريق" الأخبار، وهي خطة تقودها الصين لإعادة ربط الشبكات القديمة بطريق الحرير الجديد، وعلى الرغم من التباين الكبير في الآراء حول الأهداف والدوافع والنتائج المحتملة لهذه المبادرة، إلا أنها بلا نقاش من أهم التطورات الجيوسياسية في العالم الحديث اليوم. ويبدو أن فهم سبب محاولة بكين في العودة إلى سنوات المجد عبر طريق الحرير(العائد تاريخه إلى 2000 عام) هو أمر مشوق ومهم –ولكنه راجح أن يُهمل في النطاق الجديد لدراسة تاريخ العالم.
وماذا عن الطرف الآخر من آسيا- إسطنبول- حيث يخرج مئات الآلاف من الناس إلى الشوارع كل عام للاحتفال بذكرى معركة ملاذ كرد الواقعة في عام 1071، فمن المجدي معرفة السبب وراء ذلك. وثري أيضًا مناولة العلاقة بين روسيا وأوكرانيا في الفترة التي استولت فيها الأولى على جزء من أراضي الثانية، فقد نشب خلاف كبير في الصيف الماضي بين البلدين حول أصل آن الكييفة التي توفيت في 1075؛ أكانت روسية أم أوكرانية.
قد لا يستدعى الأمر مختصًا ليلحظ أصداء القرن السابع في جميع أنحاء الشرق الأوسط - حيث حاول الأصوليون حينها تشييد "الدولة الإسلامية" التي جعلت من عهد الإسلام الأول نموذجًا لها، وهذه العملية لم تدمر الحياة والمنطقة فحسب بل عمدت إلى تدمير التاريخ نفسه في أماكن مثل مدينة تدمر" "Palmyra. لكنه يستدعي وجود مختصٍ ليكتشف سبب محاولتهم العودة بالزمن 1400عام إلى الوراء ومعرفة كيف بدا عالمهم المثالي ذاك؛ وهذا مهم جدًا لأن الكثيرين من غيرهم حاولوا القيام بالشيء ذاته، فعلى سبيل المثال: صرح رئيس وزراء باكستان الجديد -عمران خان- أنه يريد تحويل بلاده -البالغ عدد سكانها حوالي 200 مليون نسمة- إلى "دولة الرفاهية المثالية" وذلك باتباعه للنموذج الذي وضعه النبي محمد في المدينة المنورة- والذي شيد إحدى "أعظم الحضارات" في العالم.
ولن يتعلم الطلاب -الذين يدرسون تاريخ العالم من بداية 1200- عن أي شيء من هذه الحضارات، بل سيتعلم أقرانهم في الكليات والمدارس من جميع أنحاء العالم عنها، فجدير أن يُوسِّع التعليم الآفاق ويُفتِّح العقول، بل إنه من المخجل أن يُضيَّق التاريخ وتُغلَق أبوابه، وكم هو مؤسف أيضًا أن يحدث هذا في وقت يشهد تغيرًا عالميًا كبيرًا؛ التغير الذي يجعل فهم عمق ارتباط عالمنا ببعضه أهم من قبل، وهي –بنظري- الغاية القصوى و"أساس العصر الحديث".