السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:56 صباحاً
- راجعته: منار الصلتية.
"إن صراع الإنسان على السلطة هو ذاته صراع الذاكرة على النسيان."
– ميلان كونديرا
في الواحد من إبريل عام 2019 م، بلغ ميلان كونديرا التسعين عامًا، وعمله عن موضوع قوة النسيان أو فقدان الذاكرة التاريخي الذي هو بنية أساسية لأهم نظرياته. فقد نشأ هذا العمل العظيم لكونديرا من معاناة عايشها في مناخ واقعي عند ضم السوفييت لوطنه السابق تشيكوسلوفيكا عام 1948 م إبان حكم النظام الشيوعي والعملية الممنهجة لإزالة التشيك المتعمدة.
يقول ميلان كونديرا: إن أول خطوة لاستئصال شعب ما أن تشل ذاكرته التاريخية وتدمر كتبه وثقافته وتاريخه، ومن ثم تصنع ثقافة جديدة له وتلفّق تاريخًا آخرًا غير تاريخه، لأنه سينسى بعد ذلك من هو وكيف كان حتى تندثر معالمه، ومن ثم سينساه العالم سريعًا.
قرأت كتاب كونديرا، الضحك والنسيان (1979)، لأول مرة عام 1987م عندما كنتُ عضوًا في الحزب الشيوعي البريطاني، فهز الكتاب حينها كل المعتقدات التي تبنيتها وعلى إثره أصبحت كتابات كونديرا عندي جزءًا من تكوين الحقيقة التي هزّت الاتحاد السوفييتي عام 1989م.
ففي التسعينات، كنا نعتقد أننا نعيش عصر تشريح الجثث والهياكل الذي تتعرى فيه جميع خفايا مقابر القرن العشرين وتحلل فظائعها الوحشية وتستخلص منها العبر، "حتى لا ننسى". وكنا نعتقد أيضًا أننا في الوقت الذي نقف فيه على عتبة حلم السيليكون فالي (منطقة في الولايات المتحدة الأمريكية) الحلم المتمثل في رقمنة جميع المعارف أكانت كلمة مكتوبة أو منطوقة من التاريخ بكامله من أجل أن نعيش تحت أسقف مكتبة حرة لامحدودة داخل بيت زجاجي من الحقيقة في أسوار قرية عالمية تتدفق فيها المعلومات؛ وسيكون المستقبل وقتًا لإحياء الذكرى الطويلة والمعرفة العظيمة.
كم كنا واهمين! فالبيت الزجاجي انقلب مرآة علينا، والقرية العالمية التي نعيش فيها انهارت بسبب حروب معلوماتية تحزبية حتى إن المكتبة الطويلة أصبحت أرضًا تتقاتل عليها نظريات المؤامرة، وأصبح الإنترنت أداة للنسيان وليس للذكرى، وموضوع فقدان الذاكرة هو ما كرّس كونديرا حياته للحفاظ عليه، ولاسيما أهوال الشيوعية.
إن محور الموضوع هذا مقتبس من أولى صفحات كتاب الضحك والنسيان الذي يصف فيه كونديرا لحظة تساقط الثلج في براغ عام 1948م حيث كان غوتوالد يتحدث مع الشعب على الشرفة وبجانبه يقف كليمانتس وفي لحظتها بدأ الثلج يتساقط، وكان غوتوالد عاري الرأس فنزع كليمانتس قبعته ووضعها على رأس غوتوالد.
وبعد ذلك بأربع سنوات اتهم كليمانتس بالخيانة فشُنق؛ ومحت الحملات أثره من التاريخ ومن كل الصور الفوتوغرافية أيضًا.
ومنذ تلك اللحظة أصبح غوتوالد يقف على الشرفة وحيدًا ولم يعد يملأ مكان كليمانتس سوى حائط القصر الفارغ، والذكرى الوحيدة التي تبقت لغوتوالد من كليمانتس هي القبعة التي على هامته.
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، بانت الحقائق التي تبين حقيقة سقوط الأنظمة الشيوعية في روسيا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية وبلغاريا وهنغاريا وألبانيا ورومانيا وبولندا. ويتمثل تفشي الفساد وتراكم الديون في انتهاك الحقوق الإنسانية في المعتقلات السياسية والملاجئ وإخفاء المقابر الجماعية وكل ما يُجرى على البشر من تجارب غير قانونية وأنظمة المراقبة السرية والاغتيالات والمجاعات الجماعية وكل دليل قاطع يؤكد فشل بلدان "الاقتصاد المخطط". بالإضافة إلى استخدام المعلومات التضليلية ومصادرة حرية التعبير وإعادة كتابة التاريخ، إذ كانت العملية الممنهجة تمحو الخصوم بإبادتهم ثم تزيل آثار وجودهم من كتب التاريخ. في تسعينات القرن الماضي، كُشفت معلومات مخفية عن حقيقة الإبادة الجماعية التي ارتكبها ستالين في أوكرانيا عام (1923-1933)، وبعدها ارتكب رئيس جمهورية الصين، ماو، إبادة جماعية بشعة جدًا أذهلت العالم. بل إن الأساليب التي استخدمتها الأنظمة الشيوعية لتصنع فقدان الذاكرة التاريخية قد كُشفت أيضًا.
ولمدة قصيرة، كان هناك إجماع على فشل الأنظمة الشيوعية، "لن يحدث هذا مجددًا" قالها الحداثيون والمؤرخون وقالها الاقتصاديون والأحزاب السياسية وقالتها شعوب الدول الشيوعية السابقة.
وبعد مرور عشرين عامًا سريعة نسوا ما قالوه؛ إذ طرحت صحيفة وول ستريت في عام 2016 سؤالًا: "هل الشيوعية رائعة؟ اسأل الألفيين". ونشرت صحيفة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في العام الماضي كتاب "الشيوعية للأطفال" ودعت مجلة Teen Vogue إلى الدفاع الشديد عن الشيوعية. ونشرت مجلة تابلت بشيء من القلق مقالًا بعنوان "عودة الطفل الشيوعي الرائع"، وعلى تويتر ظهر أناس يعرفون عن أنفسهم بأسماء مثل "جوثي الشيوعي" و"متحوّل شيوعي" و"خائنة شيوعية" و"بيئي شيوعي". وظهر شعار المطرقة والمنجل مجددًا في الجامعات وأثناء الاحتجاجات وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.
كيف نسينا؟
كشف استطلاع للرأي أجراه منتدى الثقافة الجديدة في المملكة المتحدة عام 2015م أن 70% من البريطانيين ممن هم دون الرابعة والعشرين لم يسمعوا مطلقًا بزعيم الحزب الشيوعي الصيني ماو تسي تونغ، كما أن 10% من بين ال 30% الذين عرفوه لم يربطوا اسمه بالجرائم الوحشية، وقد كان النظام الشيوعي للرئيس مسؤولًا عن مقتل ما بين 30 إلى 70 مليون صيني وعليه صنّف بأكبر مرتكب للإبادة الجماعية في القرن العشرين إذ إن جرمه فاق جرم ستالين وهتلر.
وأحد أسباب عدم انتشار خبر الإبادة الجماعية التي ارتكبها ماو -على نطاق واسع- هو أنها معقدة وتشمل فترتين على مدى سبع سنوات. كما أن المعلومات على شبكة الإنترنت أقرب إلى أن تكون قصصًا مبسطة سريعة القراءة. وحين يكون هناك حقائق موضع جدال، فإننا نميل إلى تجاهل القضية برمتها، فالغموض يكتنف ما إذا كان الحزب الشيوعي مسؤولًا عن مقتل 30 أو 50 أو 70 مليون شخص مما جعل مستخدمي الإنترنت يكفون عن الاهتمام بالموضوع.
تتمثل الطريقة المنطقية للتعامل مع التقديرات المتضاربة لعدد القتلى في الإبادة الجماعية في النظر إلى الاتجاهين، فحتى في المصادر الموالية للشيوعية فإن ماو مسؤولًا عن مقتل 30 مليون على أقل تقدير، أما المصادر المعادية فتقول أن العدد كان قرابة 70 مليون قتيل. ونستنتج أن عدد القتلى كان ما بين 30 إلى 70 مليون قتيل، ففي الأخير الحد الأدنى من عدد القتلى يفوق قتلى ستالين وهتلر.
ومع ذلك، لا تحدث هذه العملية المنطقية، لكن ردة فعلنا عند مصادفة مثل هذه البيانات المتباينة تشبه ردة فعلنا عند مصادفة صفحة من ويكيبيديا مكتوب عليها هذا التنبيه: "هذه المقالة موضع خلاف"؛ فضعف الحجة وقلة الثقة غالبة. ولا يحتاج المدافعين عن ماو إلى الإدلاء بأي حجة؛ لأن العدد الذي قتله ليس صفرًا، ولكنه أهميته صفرًا.
يمكن التلاعب بلامبالاة الصراع لأغراض سياسية، ونلاحظ هذا في الطريقة التي يفصح فيها الشيوعيون الجدد عن موقفهم؛ إذ إنهم لا يعترضون على البيانات المتعلقة بعدد وفيات القرن العشرين المرتبطة بأيديولوجيتهم. بل يزعمون أن البيانات متضاربة وأن أي شخص يجزم بصحة مجموعة واحدة من البيانات لديه مصلحة شخصية في ادعائه، فما من بيانات موثوقة، وعليه قد تمكنوا من محو 30-70 مليون حالة وفاة من التاريخ.
يتعذر تأكيد البيانات حول الإبادة الجماعية الشيوعية إلى حد ما بسبب محو الأنظمة الشيوعية لسجلات الدولة، فمثلًا أكبر إبادة جماعية في تاريخ البشرية هي المجاعة الصينية الكبرى (1958–62). وحتى اليوم لا يوجد أي اعتراف رسمي من الحكومة الصينية الشيوعية فيما يخص هذه الإبادة الجماعية. فمنذ أربعين عامًا وهذه المأساة التاريخية تُنكر، وهناك 100 نصب تذكاري للمجاعة الإيرلندية في حين أن التذكار الوحيد للمجاعة الصينية الكبرى حتى يومنا هذا هو نصب يدوي مصنوع من الطوب والقرميد، ويقع وسط حقل مزارع صيني.
وإلى أن تصل بيانات الوفيات في الصين الشيوعية إلى اتفاق وإلى أن تدخل كُتب التاريخ ستبقى البيانات المتضاربة تستخدم لإخفاء فظاعة الجرائم التي ارتكبها ماو، وهذه الحادثة شبيهة بالإبادة الجماعية الأوكرانية المعروفة باسم هولودومور (1932-1933)، إذ يتسع الجدال بين مجموعات سياسية مختلفة فيما يتعلق بعدد القتلى ما إذا كان عددهم ثلاثة ملايين أو 10ملايين، مما يفسح المجال لمجموعات أخرى على الإنترنت أن تُنكر الحادثة برمتها.
إن محو الحقائق في هذا الوقت ليس بإخفائها، وإنما بإدراج معلومات متضاربة تختلف عن الأصل لتبدأ بعدها الحرب المعلوماتية. فيأتي فقدان الذاكرة التاريخي هذا عن الحمل المتزايد لهذه البيانات.
الإشكال ليس في فقد المعلومات بل في فقدان السجلات التي تبين الفاعل والقائل في التاريخ تحت ضجيج من الادعاءات المخالفة، وفي آخر عشر سنوات رأينا هذا في الاتهام الموجه لميلان كونديرا، حين اتهم بأنه كان مخبرًا شيوعيًا وعميلًا مزدوجًا وأن عمله الأدبي بأسره كان بسبب شعوره بالذنب من خيانته لصديقه التشيكي من أجل الشيوعية.
يؤدي التشويش في الروايات حول كونديرا والإفراط فيها إلى تجاهل المؤلف تمامًا بسبب لامبالاة الصراع. ولقد تآكلت بالفعل سمعته، فلن نعرف أبدًا ما إذا كان ما قاله دفاعًا عن نفسه صحيحًا، ويجب ألا نثق في أي شيء قاله أو كتبه، حتى لوائح اتهامه ضد الشيوعية، وحتى نظرياته حول فقدان الذاكرة التاريخي باعتباره وسيلة ترويجية للشيوعية. وكل هذا قد يكون طي النسيان أيضًا.
كي تتخلص من عدوك -في هذا الوقت- ليس عليك أن تجد دليلًا دامغًا ضده بل عليك الاستعانة بالإنترنت لاتهامه باتهامات متضاربة ومعلومات متناقضة، فهذا التشويش يجيء بالكره والخوف حتى يُحظر ذلك العدو من الإنترنت أو تعاد كتابة تاريخه أو يمحى من عقول الملايين بالصراع ولا مبالاته.
فقد قال كونديرا: إذا كان صراع الإنسان هو صراع الذاكرة ضد النسيان ففي صخب الإنترنت آلة واسعة للنسيان، آلة تبني مجتمعًا جديدًا على رمال ضحلة ومتحركة من فقدان الذاكرة التاريخي.