الجمعة , 20 سبتمبر 2024 - 16 ربيع الأول 1446 هـ 5:36 مساءً
عرفتُ في طفولةٍ مبكّرة، ربما في عمر الخامسة أو السادسة، بأنني سأصبح في يوم ما كاتبًا، وقد راودتني فكرة التخلّي عنها بين السابعة عشرة والرابعة والعشرين من عمري، وكنت أعي تمامًا بأن ذلك مناقض لطبعي، وأنه يتوجب عليّ عاجلًا أم آجلًا أن أمارس الكتابة.
كنت الطفل الأوسط من بين إخوتي الثلاثة، مع فارقٍ في العمر يصل إلى خمس سنوات بيننا، لم أر أبي قبل سن الثامنة كثيرًا، وهكذا نشأت وحيدًا تقريبًا، وتشكّلَت لديّ عاداتٌ غير مقبولة عزلتني أثناء دراستي. سايرتني عادة طفلٍ وحيدٍ يختلق الحكايات ويتحدّث مع شخصيّاته الخياليّة، وأعتقد أنّ مساعيّ الأدبية منذ الطفولة ممزوجة بشيء من العزلة وعدم الإنصاف، كنتُ بارعًا في استخدام الكلمات، وجسورًا عند مواجهة الأحداث المزعجة، وشعرت بأنهما كوّنا لي عالمًا خاصًا يحميني من إخفاقات الحياة اليومية، ومع ذلك لم تَبلُغ كتاباتي الجادّة في مرحلتَيْ الطفولة والمراهقة إلا بضع صفحات معدودة. كتبتُ قصيدتي الأولى في سنِّ الرابعة أو الخامسة تقريبًا، وكانت والدتي آنذاك تحررها. يصعب تذكّر شيء عنها عدا أنها عن نِمرٍ وصفته بأنَّ له أنيابًا كالكُرسي، وأنني انتحلتها من قصيدة النِّمر للشاعر بليك، في الحادية عشرة من العمر، عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، كتبتُ قصيدة وطنيّة طُبعت في الصحف المحليّة آنذاك، والحال نفسه بعد مضيّ سنتين، كتبت قصيدة عن وفاة كيتشينر، وكنت هكذا من وقت لآخر حتى مع تقدُّمي في العمر، أكتب قصائد عن الطبيعة لا أنهيها، وربما تكون بأسلوبي السيء، حاولت أيضًا كتابة القصة القصيرة، لكن محاولاتي باءت بالفشل، تلك هي تقريبًا كلّ أعمالي الجادة التي حاولت كتابتها في تلك السنوات.
ومع الوقت شاركت في أنشطة أدبيّة، وكانت هناك أعمال -في البداية- أكتبها بسهولة وعجلة حسب الطّلب من غير أن أستمتع بها، وكتبت أيضًا -غير الواجبات المدرسيّة- قصائد شبه هزليّة أراها الآن مدهشة، ففي الرابعة عشرة من عمري كتبتُ مسرحيَّةً منظومة في أسبوع واحد محاكاةً لشخصية أرسطوفان Aristophanes، واشتغلتُ مساعِدًا في تحرير المجلات المدرسيّة المطبوعة والمخطوطة، كانت هذه المجلات أتفه شيء يمكن تخيّله، وقد واجهت الكثير من المعوّقات فيها، لكنّها أقل ممّا أواجهه مع الصحافة الرخيصة اليوم، ومع ذلك، لخمسة عشر عامًا أو يزيد، مارستُ الكتابة الأدبيّة في عدة أنواع مختلفة، وكذلك كان ديدني في تلفيق قصص متواصلة عن نفسي، باختلاق بعض من الأحداث اليوميّة في مخيّلتي، ولعلها عادة شائعة لدى الأطفال والمراهقين، فعندما كنتُ طفلاً صغيراً تخيّلت أنّني -روبن هوود- أحايين كثيرة، وأنني بطل المغامرات المثيرة، لكن مع الوقت توقّفت عن هذه النرجسيّة وملتُ أكثر لوصف ما أفعله أو أراه. كنت أفكّر لبُرهة في بعض الأحداث: ثمَّة من يفتح الباب ويدخل الغرفة مسرعًا، وأشعة الشمس تتسلَّل عبر الستائر الرقيقة باتّجاه المِنضدة، فوق علبة عود ثقاب مفتوحة نصفها بجانب عبوة الحبر، يضع يده اليمنى في جيبه متّجِهًا إلى النافذة، وتقابله قطّة مرقطة في الشارع تطارد ورقة شجرٍ ميّتة يحركها الهواء... إلخ. استمرت هذه العادة بعيدًا عن سنوات الأدب حتى بلغتُ الخامسة والعشرين من عمري، وعلى اجتهادي في البحث عن الكلمات المناسبة، فقد بدا أنني بذلت جهدًا مُضنيًا يتصادم مع رغبتي في وصف ما أرغب، تحت نوع من إكراهٍ خارجي. أشعر بأنّ هذه القصة تعكس أساليب الكتّاب المختلفين الذين أُعجبت بهم في حياتي، وبقدر ما أتذكّر فإن لها ميزة الوصف نفسها.
عندما بلغت سن السادسة عشرة اكتشفت متعة الكلمات، أصواتها ومدلولاتها. خذ هذا البيت من قصيدة الفردوس المفقود مثلًا:
So hee with difficulty and labour hard Moved on: with difficulty and labour hee’
هكذا بصعوبة وجهد شاق؛ يستمر بالصعوبة ذاتها وبالجهد الشاق.
على أنني لا أراه مدهِشًا الآن، إلا أنه طالما أدهشني، وتروقني كتابة hee بدلًا من he، أما في الأمور التي تتطلّب وصفًا، فقد عرفتُ كلَّ شيء عنها، بل إن نوعية الكتب التي أرغب بكتابتها كانت واضحة، كرغبتي بكتابة رواياتٍ ضخمة وواقعية لها نهايات حزينة، مليئة بأوصاف وتفاصيل دقيقة مع تشبيهاتٍ مُلفتة، فيها مقاطع صوتيّة ملحّنة استُخدِمت بعض الكلمات لسبب إيقاعها، ولعل روايتي الأولى-"أيام بورما" - التي كتبتها عندما كنت في سن الثلاثين، وخططت لها قبل كتابتها كثيرًا- من هذا النوع.
أعرض مثل هذه الحقائق لأنه يصعب في ظنّي تقييم دوافع الكاتب دون معرفة شيء عن تطوّره منذ الصغر، ولا شكّ أن اهتماماته تتحدَّد حسب العصر الذي يعيش فيه، ويتّضح هذا في عصرٍ صاخب وثائرٍ كعصرنا، لكنه قبل أن يبدأ في الكتابة، سيكتسب موقفًا عاطفيًّا لن يبتعد عنه أبدًا، وبلا شكّ فإنّ مَهَمَّته ضبط سلوكه ومزاجه وتجنُّب البقاء في مرحلة عقيمة، أو في حالة مزاجيّة ضارّة؛ ولكنه حين يفِر ممّا قد يؤثر عليه في السابق، فسيقتل دوافعه للكتابة.
إنّ هناك أربعة دوافع مهمة للكتابة بصرف النظر عن دافع الحاجة لكسب الرزق، وأقصد الكتابة النثريّة، وهي موجودة بتفاوت في كلِّ كاتب، وتختلف أيضًا من وقتٍ لآخر حسب شعوره العام ومزاجه الذي يكون فيه، وهي كالآتي:
الأنانيّة المحضة:
الرغبة في أن تبدو بارعًا، وأن يتحدّث النّاس عنك، ويذكروك بعد الموت، وأن تنتقم من الكبار الذين زجروك في طفولتك... كم هو هراء أن تتظاهر أنّه ليس دافعًا، إنه دافع قوي. يتشارك الكُتّاب هذه الخاصيّة مع العلماء والفنّانين والسياسيّين والمحامين والجنود ورجال الأعمال الناجحين وجميع النخب الإنسانيّة. إنّ أغلب الناس ليسوا أنانيّين، ويتّضح ذلك بعد سنِّ الثلاثين، إذ يتخلّون تمامًا عن شعورهم بالفردانيّة ويميلون مع كلِّ شيء للعيش من أجل الآخرين، أو ترهقهم أعمالهم الشاقّة، ولكن ثمّة مجموعة أخرى قليلة من الناس الموهوبين يعتزمون أن تكون لهم حياتهم الخاصة حتى موتهم، وهذه المجموعة ينتمي لها الكُتّاب. يجب عليّ القول: إنّ الكُتّاب الجادين فوضويين ويهتمّون بأنفسهم أكثر من الصحفيين، على اهتمامهم الضئيل بالمال.
الشّغف الجمالي:
ملاحظة الجمال تتجلى في العالم الخارجي أو في الكلمات وترتيبها الصحيح، والمتعة في تداخل صوتٍ على آخر، وفي بِنية النَّثر البديع أو تسلسل إيقاع قصّة فريدة، والرغبة في مشاركة قصّة يشعر المرء أنها سديدة ويجب أن تُروى. إنّ الدافع الجمالي واهن جدًّا عند كثير من الكُتّاب، ولكنّه موجود حتى عند كاتب الكتب المدرسيّة أو المنشورات الأخرى، فهو يألف بعض الكلمات والعبارات التي تروق له لأسباب لا منفعة فيها؛ أو قد يهتمّ كثيرًا بالطباعة وعرض الهوامش وغيرها. لا يخلو كتاب تمامًا من النظرة الجماليّة، حتى دليل القطارات المرفق فيها.
الدافع التاريخي:
يتمثّل في الرغبة برؤية الأشياء كما هي, ومحاولة اكتشاف حقيقتها وسردها لتتعرّف إليها الأجيال القادمة، والرغبة في دفع العالم إلى اتجاه معين، وتغيير فكرة النّاس عن نوع المجتمعات التي يجب السعي وراءها، ويجدر القول هنا مرة أخرى: إنّه لا يوجد كتاب خالٍ من التحيّزات السياسية، وحتى الرأي الذي يقول إنّ الفن يجب أن ينفصل عن السياسة، هو في حدِّ ذاته، رأي سياسيّ.
لعلّنا نلاحظ أهمية الحرب المشتعلة بين هذه الدوافع المختلفة، وأهميّة تقلّبها بين الأشخاص من وقتٍ لآخر. بطبيعة الحال إنّ سجايا المرء تتصدّر وتظهر عندما يصبح بالغًا، وقد لاحظتُ أنّ الدوافع الثلاثة الأولى تَرجُح كفّتها في شخصيّتي على الرّابع، ولو أنّنا في عصر يعمُّه السلام لكتبت كتبًا منمَّقة ومترَعة بالوصف، وربما سأبقى غير مهتمٍّ بالولاءات السياسية، مع أنني مضطر حتى الآن أن أكتب بعض المنشورات. في البداية قضيت خمس سنوات في مهنة لم تناسبني (الشرطة الإمبراطورية الهنديّة في بورما)، ثم عانيت من الفقر وإحساسي بالفشل، وازدادت إثر ذلك كراهيتي الطبيعيّة للسلطة وأدركت معها وجود الطبقات العاملة، ولا شكّ أن المهنة التي شغلتها في بورما منحتني فَهمًا معيّنًا لطبيعة الإمبرياليّة، لكنها لم تكُن كافية لتحديد توجّهاتي السياسيّة الدقيقة، حتى جاء هتلر، والحرب الأهلية الإسبانيّة، وغيرها، ومع حلول نهاية عام 1935، كانت تعتريني بعض الإخفاقات كلّما حاولت اتّخاذ قرار نهائي. أتذكّر قصيدة كتبتها في تلك الفترة تعبّر عن هذه الحَيْرة، وهي:
قبل مائتي عام
ربّما كنتُ كاهنًا مسرورًا
أتكهّن بالمصير الخالد
وأراقب حبّات البندق وهي تنمو
لكن وا حسرتاه
وُلِدتُ في زمنٍ الشّر
وفاتني نعيم الملاذ
فها هي خُصْلات الشعر
تعلو شفتي العليا
ورجال الكهنوت
حالقون كلّهم!
كان الوقت حينذاك
بطبيعته صالحًا
كنا بسهولة نقتنع
نقلّب أفكارنا المضطربة
فوق صدور الأشجار
لننعم بالنوم!
كلّ الجهلاء
جرأنا أن نكون مثلهم!
هذه المسرّات
نحاول إخفاءها الآن
وها هو العصفور على غُصن التّفاح
يرعِبُ أعدائي!
نرى في الأحلام
أجساد النساء، وفواكه المشمش
والأسماك في البحار
والخيول
والبطّ يطير مع الفجر
حرامٌ الحلم مجددًا
فإمّا أن نشوّه مسرّاتنا
وإما أن نخفيها
هذه الخيولُ، المصنوعة بالمعادن
لرجال ليسوا بدناء
سيمتطونها!
أنا الدودة
التي لم تنقلّب قط!
أنا الرجل المَخْصي بلا حريم
أسير، كما لو أنني "يوجن أرام"
بين الكاهن والموكَّل
يبوح الموكَّل بثروتي
أثناء بثّ الراديو
لكنّ الكاهن وعد "أوستن"
بأن "دوغي" يدفع دائمًا.
حلمت بأنّني أعيش في قصور من رخام
واستيقظت لأحقِّق الحلم
غير أنّني لم أولد في عصر كهذا
هل كان سميث أم جونز أم أنه أنا؟
قلبت الحرب الإسبانيّة الموازين بين عامَيْ 1936-1937، وبعدها عرفت أين أنا؟ كلُّ سطرٍ من أعمالي الجادة -التي كتبتها منذ عام 1936- كتبته ضدّ الاستبداد ومن أجل الاشتراكيّة الديمقراطيّة حسبما أفهمها، كم هو هراء في مرحلة كهذه أن نعتقد بأنّه يمكننا تجنُّب الكتابة عن مواضيع كهذه! فكلّ شخص يكتب عنها بطريقة ما، إنها ببساطة مسألة الطريق والنهج اللَّذين يتبنّاهما الإنسان، وبقدر ما يعي الإنسان تحيّزاته السياسيّة؛ تزيد فرصته ليتصرّف دون أن يضحّي بنزاهته الفكريّة والجماليّة.
أكثر ما حرصت على فعله -طيلة العشر سنوات الماضية- أن أحوِّل الكتابة السياسيّة إلى فنّ، أستهلّ كتابتي غالبًا بمفهوم الحزبيّة، معرِّجًا على الإحساس بالظلم. عندما أهِمّ بكتابة كتاب ما، لا أدّعي بأنني "سأنتج عملًا فنيًّا"، بل أكتبه لأن ثمّة أكاذيب يجب أن أكشف عنها، وحقائق يجب أن ألفت إليها انتباه النّاس، وأول ما أرغبه هو أن يعيروني الاستماع، لكنّني مع ذلك ذلك لم أستطع أن أؤلف كتابًا، أو حتى مقالة صحفيّة طويلة، إذا لم أعدّه عملًا جماليًّا. إنّ كلّ من تعنيه دراسة أعمالي، سيلحظ أنه حتى عندما يكون العمل دعائيًا تمامًا، فإنه يحتوي على أفكار كثيرة قد يعدّها السياسيّ شاذّة وغير مترابطة، لأنّني لا أستطيع، ولا أريد أيضًا، أن أتخلى عن رؤيتي الخاصة للعالم التي اكتسبتها أثناء طفولتي، وطالما أتمتّع بصحة جيّدة تبقيني على قيد الحياة، فسأظلّ مشدوهًا بأسلوب النثر، مفتونًا بسطح الأرض، مستمتعًا بالأجسام الصلبة وقصاصات المعلومات عديمة الفائدة، فلا جدوى من محاولة قمع هذا الجانب في شخصيّتي، بل ينبغي أن أوفّق بين ما هو مترسّخ فيَّ ممّا أحبّ وأكره، وبين تلك الأنشطة العامة الأساسية التي يفرضها علينا جميعًا هذا العصر.
المسألة ليست هيّنة، فهي توضّح بعض الركاكة في البنية واللّغة، وتعرض بطريقة جديدة مشكلة الصدق. سأقدّم مثالًا واحدًا لهذه الصعوبات التي أقصدها، في كتابي عن الحرب الأهليّة الإسبانية "تحية لكاتالونيا"، وهو كتاب سياسي تمامًا، ولكنّه في جوهره مكتوب بموضوعيّة مع مراعاة البُنية الشكليّة العامة. لقد حرصت أن أقول الحقيقة كاملة دون انتهاك سليقتي الأدبيّة، ولكنه من بين العديد من الأمور الأخرى، يحتوي على فصل طويل لاقتباسات صحفيّة، دفاعًا عن التروتسكيين الذين اتّهموا بالتآمر مع فرانكو. من الواضح أنّ هذا الفصل سيخلّ بالكتاب بعد عام أو عامين خصوصًا عند القارئ العادي. أحد النقاد الذين أحترمهم قرأ لي شيئًا شبيهًا حول هذا الموضوع، متسائلًا: لماذا دمجت كلّ هذه الأشياء ببعضها؟ لقد حوّلت ما يمكنه أن يكون كتابًا رائعًا إلى صحافة. إنّ ما قاله صحيح، ولكنّني لم أقدر على فعل شيء آخر، وقد عرفت مصادفة من بين قلة من الناس في إنجلترا، أنّ رجالًا أبرياء اتّهِموا بطلانًا، ولو لم أكن غاضبًا جرّاء ذلك لما كتبتُ هذا الكتاب.
تطفو هذه المشكلة من جديد بشكلٍ ما، مشكلة اللغة البارعة، وستستغرق وقتًا طويلًا لمناقشتها، سأقول فقط: إنني في السنوات الأخيرة حاولت أنْ أكتب بإثارة قليلة ودقّة أكبر، لكنّني -على أيّة حال- اكتشفتُ أنّه بحلول الوقت الذي تتقن فيه نمطًا كتابيًّا معينًا، فإنك تتفوّق فيه غالبًا. كتابي "مزرعة الحيوان" أوّل كتاب حاولت فيه التّركيز على ما كنت أفعله، مزجتُ الغرضين السياسي والفني في قالبٍ واحد، ومنذ سبع سنوات لم أكتب رواية بعد، ولكن آمل أنْ أكتب رواية مناسبة قريبًا، مع ظنّي أنّني سأفشل، فكل كتاب هو محاولة فاشلة، لكنني على الأقل أعرف بوضوح أيّ نوع من الكتب تلك التي أريد تأليفها.
لو عدنا لآخر صفحة أو صفحتين، لاتضح أنني جعلت الأمر يبدو وكأنّ دوافعي في الكتابة تُحرّكها اهتمامات الناس، ولا أريد أن أترك هذا الانطباع في الأخير، كلّ الكتّاب هم فوضويّون وأنانيّون وكُسالى، وثمّة لغزٌ يختبئ في أعماق دوافعهم، إنه لصراع مرهق ومخيف، أن تكتب كتابًا، كما لو أنها نوبة ألم طويلة، ولن يهمّ المرء بكتابة شيء إذا لم يدفعه شيطان لا يستطيع مقاومته أو فهمه، لأننا نعرف أن الغريزة شيطان تجعل الطفل يصرخ ليحظى بالانتباه، ولن يتمكن المرء من كتابة شيء يستحق القراءة إلا إذا جاهد باستمرار على طمس شخصيته. إن النثر الجيّد كالزجاج، ولا يمكنني أن أتيقّن أيّ دوافعي هي الأقوى، ولكنني على الأقل أعرف أيّها يستحق الاهتمام والمتابعة، وعندما نرجع لنُلقي نظرة على أعمالي، أراها ثابتة بقدر ما تفتقر للأهداف السياسيّة، وأني كتبت كتبًا ركيكة مخدوعًا بفقراتٍ وجمل فضفاضة وبلا معنى، وصفات مرصوفة ومحشوّة بهراء عام.