الجمعة , 17 يناير 2025 - 17 رجب 1446 هـ 11:27 مساءً
حين تنظر لغابةٍ بالعين الداروينية فإنك سوف ترى أشجارًا فردية تقاتل بعضها في سبيل الحصول على مواردٍ محدودةٍ كالماء والعناصر الغذائية وأشعة الشمس, إذ تستأثر الأشجار الرابحة بالموارد فتعيش مدة طويلة بما يكفي لتتكاثر, في حين تكافح الأشجار الخاسرة من أجل البقاء.
إلا أن فكرة "البقاء للأصلح" في الغابات في الأعوام الأخيرة تمهد الطريق لشيءٍ مختلفٍ تمامًا, فتظهر الأبحاث أن للأشجار علاقات أكثر تعقيدًا, فهي تتعاون وتتشارك الموارد وتحذر بعضها من الخطر, وتغذي أيضًا الشجيرات الصغيرة, وتعمل معًا لبناء مجتمع صحي حيوي مما يجعل البعض يشبهها بالعائلة أو الأصدقاء القدامى!
ولا شك أن فكرتنا السابقة عن الأشجار باعتبارها مخلوقات منعزلة تناضل من أجل السيادة الفردية لم تعد صالحة, في حين يفضل بعض العلماء الطرق الأقل شاعرية – التي قلما تجسد الأشجار على هيئة بشر- لوصف العلاقات بين الأشجار.
ويُعد بيتر فوليبن, خبير الغابات الألماني ومؤلف كتاب الحياة الخفية للأشجار – بماذا تشعر وكيف تتواصل؟ من أكبر مؤيدي هذا التحول في كيفية حديثنا عن الأشجار.
ويصف فوليبن في لقاء له مع مؤسسة سميثسونيان زوجًا محددًا من الأشجار بأنهما صديقان قديمان, وهما يذكراننا بالمخلوقات الغريبة التي تشبه الأشجار في رواية سيد الخواتم, إلا أن هذا الوصف يعتبر أقل خياليةً مما تبدو عليه هاتان الشجرتان في الواقع! فيشير الخبير الألماني إلى الصلة الوثيقة التي تربط بين أزواج الأشجار, قائلًا: في بعض الأحيان تكون الصلة بينهما متينة حتى إنها إن ماتت واحدة منهما فإن الأخرى تموت بعدها بفترةٍ وجيزة!
ولدى الأشجار عدة طرقٍ للتواصل, ومن أهمها التواصل عبر شبكاتٍ فطريةٍ في باطن الأرض والتي تُعرف أيضًا بالفطريات الجذرية, وترتبط الشعيرات الفطرية بأطراف جذور الأشجار الرفيعة مشكّلة شبكةً تصل الأشجار ببعضها عبر ما يسميه البعض "شبكة الأشجار الواسعة" كما يقول فوليبن.
ومن خلال هذه الشبكات الجوفية تتشارك الأشجارُ الماءَ والعناصرَ الغذائية, وتتواصل مع الأشجار الأخرى لمواجهة التحديات البيئية مثل الجفاف والأمراض وهجوم الحشرات, كما أن وجود الفطريات بداخلها ليس عبثًا, فهي تغذيها بالسكر الذي تصنعه الأشجار عن طريق عملية التمثيل الضوئي.
وتدعم الأشجار الكبيرة الأشجار الأصغر منها والتي قد لا تصلها أشعة الشمس حيث تحجبها عنها ظلال أشجار الغابة, كما تمد الأشجارُ الكبيرة جذورَ الشجيرات الصغيرة بالسكر من خلال الشبكة الجوفية, وقد وجدت بعض الأبحاث أن الأشجارَ قادرةٌ حتى على التمييز بين أطراف جذور الأشجار المتصلة بها والأشجار غير المتصلة بها, وبالتالي تعرف إلى أين تُرسِل العناصر الغذائية.
ولا تتشارك شبكةُ الأشجار الجوفية العصارةَ النباتية المعروفة بالنُسْغ فحسب! بل وجد العلماء إشاراتٍ هرمونية وكيميائية وكهربائية تمرُّ من شجرة لأخرى, منها عدة إشارات للتنبيه والاستغاثة, وتشير الأبحاث إلى أن النباتات ربما تتواصل عبر الصوت – أي أنها تصدر صوت طقطقةٍ في جذورها لا يسمعه البشر.
وتتواصل الأشجار من خلال الهواء أيضًا فتطلق الفيرمونات ومواد كيميائية أخرى لتنبيه الأشجار الأخرى للخطر, ففي جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا يبعث نبات السمر(الأكاسيا المعروف بالمظلة الشائكة) إشارة استغاثة حين تعضُّ زرافة ما أوراقه, وعندما تلتقط شجرةٌ قريبةٌ هذه الإشارة فإنها تزيد من مستوى الحمضيّة في أوراقها مما يجعلها غير مستساغة.
وعندما تمضغ اليرقات خشب الدردار والصنوبر, تطلق الأشجارُ الفيرمونات التي تجذب الدبابير الطفيلية, والتي بدورها تضع بيضها في اليرقات وحين يفقس تلتهما من الداخل إلى الخارج, وتستجيب أشجارٌ أخرى للعاب الغزلان عن طريق زيادة المواد الكيميائية في أوراقها مما يجعل مذاقها سيئًا.
ويشير بعض الأشخاص إلى أن هذا التعاون والتواصل المعقد بين الأشجار يدل على أن لديها مستوى معين من الإدراك, بينما يعارض آخرون هذه الفكرة محتجين بأن علم الوراثة والانتقاء الطبيعي هما سبب نمو هذه القدرات- أي أنها ليست أفعالًا متعمدة وأن الغابات ليست واعية.
وأيًا كان السبب وراء عمل الأشجار معًا, فقد كشفت الأبحاث بأن الغابات لا تطبق تمامًا مفهوم التطور الدارويني الذي لا يزال عالقًا في أذهاننا حتى بعد 150 عامًا من طرحه, والذي يزعم بأن "البقاء للأصلح".
تحدثت سوزان سيمارد, الباحثة في مجال الأشجار في جامعة كولومبيا البريطانية في فانكوفر, لمؤسسة سميثسونيان قائلة: إن الأشجار تستفيد من التعاون مع بعضها, فعندما تتشارك الموارد فإن الغابات عندئذٍ تصبح أكثر صحةً واستقرارًا, وهذا بدوره يساعد الأشجار على العيش لفترة أطول والتكاثر بصورة أكبر.
واستنبطت أيضًا أن الأشجار الأضخم والأكبر سنًا في الغابة هي الأكثر ترابطًا مما يجعلها "الأشجار المحوريّة" أو "الأشجار الأم" كما تصفها سوزان, وهذا النوع من العلاقات المتبادلة مهم حين يتعلق الأمر بإدارة الغابات, فقطع هذه الأشجار الأم قد يضر الغابة بأكملها إذ إنه يحرم الشجيرات الصغيرة من العناصر الغذائية والحماية اللازمة.
وسوف تصبح هذه الاعتبارات أكثر أهمية من ذي قبل نظرًا لأن التغيرات المناخية السريعة تجبر الأشجار على التكيف مع ظروفٍ بيئيةٍ مختلفةٍ تمامًا, وقد يغير إدراكنا للغة الأشجار السرية تجربة السير في الغابات, وهي تحيط بنا كائنات حية ساكنة, لا تزال قادرة على دعم بعضها تمامًا كما تفعل العائلة أو الأصدقاء.