السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:34 صباحاً
لا أخشى القول بأن كل ما ندركه مبنيّ على أساسٍ لا ندركه، وأن معرفتنا مبنية في الواقع على ما هو مجهول وغير واضح.
— وليام هاملتون (1865).
هناك حياة ممتدة وضخمة تجري خارج الوعي بل قد تكون أهمّ لنا من أفكارنا الصغيرة التي تقع داخل حدود معرفتنا.
— إنيس دالاس (1866).
لو فكرنا للحظة سنجد أنه من الصعب وصف طبيعة حياة الوعي وحالاته، وسبب ذلك هو تعذّر ملاحظة حالاته مباشرة على أي شخص آخر، إذ كيف يمكنني التأكد من أن حالتي الشخصية كحالتك تمامًا؟ يمكننا أن نصف أفكارنا ومشاعرنا لبعضنا، ولكن ليس من طريقة دقيقة لمعرفة الكلمات التي نستخدمها معًا وما إذا تشير إلى الشيء ذاته، كما هو الحال في الألغاز القديمة مثلًا، هل معرفتنا باللون الأحمر متطابقة؟
بعيدًا عن مثل هذه الألغاز، قد نتفق على أن هناك ظاهرة معينة يجب فهمها، وأن شيئًا ما كالوعي نعرفه لأننا جميعًا قد مررنا به، لهذا قد نتّفق على بعض من محتوياته، ولعلّ معظمنا سيتّفق أنّ عواطفنا جزء مهم من طبيعة الوعي وحالاته، فكلّ إنسانِ قد شعر بشيء من الحب والغضب والخوف، ولربما نتفق أيضًا أن الوعي قد يشمل صورًا من الإسقاط العقلي، فحين يقول أحدهم مثلًا: "تخيّل كلبًا من سلالة داشهند Dachshund " يسهل تخيّله، ولكنني لا أعرف هل الصورة العقلية للكلب داشهند التي تتخيّلها تشبه ما أتخيّله أنا؟، لكنّ الاتّفاق سيكون على إمكانية إسقاط مثل هذه الصّور المتخيّلة في مسرح الوعي.
يصعب كثيرًا وصف العقل اللاواعي المتكيف بدقة، لأننا لا نتعرض له مباشرة، فحينما تقول لي مثلًا: صِف لي آخر مرة تخيّلت فيها شيئًا عن شخص ما من غير وعيك؟ فلن تجد مني إلا حيرتي الواضحة؛ حيث تصعب محاولة وصف بعض من أجزاء عقولنا كصعوبة محاولة وصف الطريقة التي تعمل بها الغدد الصنوبرية أو الكلى، بل ربما هي أصعب منها، لأننا في الواقع لا نملك أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي، والتي يمكنها التقاط صور من العقل اللاواعي المتكيف، ولعل أفضل طريقة لوصف بعض أجزاء عقولنا التي لا نستطيع مباشرة ملاحظتها؛ يكون عن تصوّر كيف سيبدو الحال بعدما نفقد عقولنا اللاواعية.
فترة غياب العقل اللاواعي
تخيّل مثلًا: أن رجلًا استيقظ صباح يوم السبت يشكو من علة خطيرة، لأن أجزاء عقله اللاواعية توقفت عن أداء عملها، وبقي عقله الواعي فقط هو الجزء الوحيد الذي يؤدي عمله ويقوده لتوجيه أفكاره ومشاعره وتصرفاته؟ فهو سيّد أفكاره إذا جاز التعبير، كيف يمكنه أن ينجح في ذلك؟ لو طرحنا هذا السؤال على ديكارت قبل ثلاثة قرون، سيجيب أن يوم ذلك الرجل مثله مثل أي يوم آخر له، فما نعرفه هو ما نفكّر فيه، وليست هناك عمليات عقلية أخرى، وسيتفق عدد لا بأس به من علماء النفس في مطلع القرن العشرين (وحتى عدد قليل من المتعصبين اليوم) بحجة أنه لا يوجد شيء اسمه العقل اللاواعي، وكتقدير لما يؤمن به ديكارت، سنشير لذلك الرجل الذي فقد عقله اللاواعي بالسيد: (د).
سيتضح فورًا بأن ديكارت كان مخطئًا، وأن ذلك اليوم للسيد (د) ليس مثل أي يوم آخر، بدءًا بمحاولته القيام من سريره، لأن هناك ما يعرف بالحاسة السادسة عند الناس، أو ما نسميه بحاسة استقبال الإحساس العميق، وهي الاستجابة الحسية المباشرة التي يتلقّونها من عضلاتهم ومفاصلهم وجلودهم للإشارة إلى موضع محددٍ من أجسادهم وأطرافهم، ومن دون معرفتنا بها تحديدًا إلا أننا نراقبها باستمرار محاولين تسويتها لتتلاءم مع حركة أجسادنا، فمثلًا: عندما نرفع ذراعنا الأيسر، ننحني قليلًا إلى الجانب الأيمن لنحافظ على توازننا، لأننا إذا لم نفعل ذلك، فستنحصر أجسادنا على جانب واحد.
ثمة حالات نادرة يفقد فيها الناس شعورهم بحاسة استقبال الإحساس العميق، ويحيلهم ذلك إلى عواقب وخيمة، وقد وثّق الطبيب جوناثان كول حالة إيان واترمان الذي أصيب بتلف في أعصابه عندما كان في التاسعة عشر من عمره وفقد حينها حاسة استقبال الإحساس العميق، فالسيد واترمان كان مثل شخصية رجل القش في فيلم ساحر مدينة الأوز العجيب، الذي ترك عصاه لاحقًا، وكلما حاول أن يقف على قدميه؛ انتهى به الأمر ليسقط في كومة من الأغصان المتشابكة على الأرض، وعندما يحيل تركيزه إلى ذراعه أو ساقه، يسيطر حينها فقط على وقوفه، لكنه بمجرد أن يشتت تركيزه؛ يتعثّر لا إراديًا، وبفضل شجاعته وجهده الدؤوب، استطاع السيد واترمان أن يستعيد بعضًا من سيطرته على جسده، باستبدال حاسة الإحساس العميق التي فقدها بتركيزه الواعي، فتعلّم المشي، وكيف يرتدي الملابس بنفسه، وأصبح قادرًا حتى على قيادة السيارة بمراقبة نفسه بإمعان وتركيز شديد، لقد كان يراقب كل تصرفاته بدقّة، لأن مشكلته تتفاقم إذا لم يتمكّن من ملاحظة جسده، في يوم من الأيام كان واقفًا في المطبخ، وفجأة انقطع التيار الكهربائي وأصبحت الغرفة مظلمة، حينها سقط على الأرض فورًا، لأنه لم يستطع رؤية جسده ولم يعد بإمكانه السيطرة عليه.
لسنا مدركين تمامًا لهذا النظام الحسّي الفائق، يمكننا ببساطة أن نقف ونغمض أعيننا ونظل محافظين على توازننا من دون أن ندرك حجم الجهد العقلي الذي بذلناه، إن فقدان القدرة على حاسة استقبال هذا النظام الحسي المخفي من الإحساس العميق؛ يوضّح مدى أهميته بدواخلنا كما حدث للسيد واترمان.
إن حاسة استقبال الإحساس العميق ما هي إلا واحدة من أنظمة إدراكية عديدة غير واعية، والدور المهم الذي يؤديه العقل اللاواعي هو تنظيم وتفسير العديد من المعلومات التي نتلقاها من حواسنا ومن ثمّ تحويلها إلى شيء آخر، فهو الذي يحوّل أشعة الضوء والموجات الصوتية إلى مجموعة من الصور والضوضاء التي يمكننا إدراكها، نرى مثلًا: أن هذا الكرسي في غرفة النوم أقرب إلينا من المكتب من غير أن ندرك تمامًا ماهية الطريقة التي حوّلت فيها عقولنا أشعة الضوء التي تسطع على العين إلى هذا الإدراك العميق، ولو توقفت هذه الاستجابة اللاواعية، سيبدو العالم كخليط من انعكاسات الأضواء والألوان بدلًا عن صور ثلاثية الأبعاد مجتمعة ومعبّرة.
يتعذّر أن نتصور ما الذي يمكنه أن يكون لو أن لدينا عقلًا واعيًا فقط، لأن الوعي بحد ذاته يعتمد على العمليات العقلية التي تحدث بمنأى عنه، ولا يمكن أن نكون واعين إذا لم يكن لدينا عقل لا واعٍ، فالأمر شبيه بما نراه على شاشة الحاسوب، لا يمكن أن نراه من غير هذه البرامج المتطورة التي تعمل داخل هذه الحواسيب، يجدر أيضًا توضيح أهمية التفكير اللاواعي عبر تعقّب أفكارنا لنكتشف عندئذ بالتفصيل ما الذي سيكون عليه حال السيد (د)، ولنمنحه فرصة أن يستخدم نظامه الإدراكي، ونرى ما الشيء الآخر الذي قد يتأثر.
لنفترض أن السيد (د) شغّل التلفاز وسمع أحد مذيعي الأخبار يقول: "لقد ألقى جونز قبعته في الحلبة الليلة الماضية [1]، أي منذ ما يقارب عامًا قبل الانتخابات الرئاسية الأولى"، عندما تقرأ هذه الجملة لن تتوقف قليلًا لتعرف ما الذي تعنيه كل كلمة في قاموس عقلك، فالمعنى يتبادر إلى ذهنك فورًا. إن السيد (د) مع كل ذلك لا يملك تلك القدرة الفذة للبحث عن الكلمات، فينبغي عليه مثلًا: أن يبذل جهدًا ليبحث عن معنى كل كلمة عند سماعها، ومن الواضح أنه لن يستطيع أن يصل إلى قاموسه العقلي من دون الاستعانة ببعض العمليات اللاواعية، ولكن لغرض توضيح الفكرة هنا دعنا نفترض أنه يستطيع ذلك.
عندما تقرأ عبارة مثل: "ألقى قبعته في الحلبة" فإنك ستفسرها من غير شك بأن جونز أعلن عن رغبته في الترشح لمنصب الرئاسة، من دون أن تلقي اهتمامًا واعيًا لأي معان أخرى، لن تفكر مثلًا باحتمالية أن جونز كان في السيرك، وقد تصوّر أن أحد الفيلة الراقصين سيبدو جذابًا بقبّعته.
لن تفكر في ذلك أبدًا؛ لأنه واضح جدًا ما الذي يعنيه المذيع، ولكن لماذا واضح؟ إن الجزء الذي يشير إلى الانتخابات الرئاسية الأولية جاء بعد الجزء الذي يشير إلى إلقاء القبعة، ولن يكون ممكنًا أن تعرف ما الذي يعنيه مذيع الأخبار عندما تقرأ عن رمي القبعة، يجب عليك أن تقرأ الجملة كاملة ثم تعود وتربط المعنى الأكثر احتمالًا للجملة.
كل ذلك حدث من غير وعي وفجأة، ولستَ مدركًا حتى بأنك كنت تفسّر ما حدث، مع أنها حقًا كانت جملة غامضة، ولكن للأسف فإن السيد (د) سيضطر إلى أن يتوقف قليلًا ويفكر في المعاني المختلفة للكلمات، ومدى إمكانية توظيفها في السياق الذي استُخدمت فيه، وفي الوقت الذي يدرك فيه ذلك، سيكون المذيع قد انتقل إلى الموضوع الآخر تمامًا والذي يتحدث فيه عن موجة الحر الشديدة التي تقترب من إقليم نيو إنجلاند، وهو الأمر الذي سيدفع السيد (د) ليتساءل عمّا إذا كان إعصار تسونامي على وشك أن يضرب ولاية ماساتشوستس.
باختصار: إن العمليات العقلية التي تدير أنظمتنا الإدراكية واللغوية والحركية تعمل على نحو كبير خارج نطاق الإدراك، كالكثير من الأعمال الحكومية الفيدرالية التي تجري بعيدًا عن أنظار الرئيس، وفي حال أخذ جميع أفراد الرتب الأدنى من السلطة التنفيذية إجازة في ذلك اليوم، فسيقل إنجاز العمل الحكومي جدًا، وهكذا إذا توقفت الأنظمة الإدراكية واللغوية والحركية لأي شخص، ستصعب أداء مهامه حينئذ.
ولكن ماذا عن وظائف العقل العليا التي تجعلنا أشخاصًا منفردين؟ كقدرتنا على التفكير والاستدلال والتأمل والإبداع والإحساس واتخاذ القرار. إن الصورة المنطقية للعقل البشري تتمثّل في أن وظائف العقل الدنيا؛ كالإدراك واستيعاب اللغة تحدث بلا وعي، لكن وظائف العقل العليا؛ كالتفكير والاستنتاج تحدث بوعي، وبالنّظر إلى التشبيه المذكور آنفًا للسلطة التنفيذية، فإن الموظفين ذوي الرتب الأدنى (العقل اللاواعي) يجمعون المعلومات ويتّبعون الأوامر، ولكن الموظفين ذوي الرّتب العليا، كالرئيس وأعضاء مجلس الوزراء، الذين يتأكدون من المعلومات ويتّخذون القرارات ومن ثم يصدرون الأوامر؛ هم سلطة العقل التنفيذية التي تعمل بوعي دائمًا.
إن هذا التصوير للعقل يقلل كثيرًا من فعالية العمليات اللاواعية في الإنسان، ولنوضح هذه النقطة دعونا نقدم امتيازًا أخيرًا للسيد (د) ونعطيه فرصة ليستخدم جميع قدراته الحسية والحركية واللغوية ذات الترتيب الأدنى (وهي وصية سخية جدًا نظرًا لتعقيدًات اللغة والقدرة الإنسانية الفائقة لفهم ولفظ الكلمات المنطوقة والمكتوبة بسرعة كبيرة وكفاءة عالية) هل سيؤدي غياب أي من العمليات اللاواعية الأخرى إلى إعاقة السيد (د) بأي طريقة؟ أم أنه أصبح الآن يملك عقلًا بشريًا مُجهزًا بالكامل؟
سيكون السيد (د) في وضعٍ سيء للغاية من جميع جوانب حياته، وقد تُنفّذ بعض المهام المهمة جدًا والتي عادة ما ننسبها إلى الوعي بلا وعي، كتحديد بعض المعلومات التي يجب أن نعيرها انتباهنا ونفسّرها ونعمل على تحليلها، أو تعلّم أشياء جديدة، أو وضع الخطط والأهداف لأنفسنا، عندما نرى -على سبيل المثال- شاحنة متجّهة نحونا ونحن نريد عبور الشارع، نعرف فورًا أننا في خطر شديد فنبتعد بسرعة عن الطريق من غير أن نفّكر بوعي ما إذا كانت هناك شاحنة متجهة إلينا، إن السيد (د) لن يواجه ذلك الخوف المفاجئ يدبّ فيه، ولن يتمكن من كل ذلك حتى يملك الوقت ليستعيد من ذاكرته بجهد جهيد ما الذي تعنيه هذه الشاحنة المتجهة إليه وما هو مدى خطورتها على العابرين الساهين. وبالمثل أيضًا عند مقابلة شخص ما للمرة الأولى، فإننا نشكّل بسرعة بعض الانطباعات المعينة عن ذلك الشخص، ونقيّم مقابلته سيّئة أم جيّدة، وكل ذلك في غضون ثوان أو أقل.
إن الكثير أيضًا مما نعتبره عن شخصية السيد (د) كمزاجه وطريقته اللطيفة في استجابته للآخرين وطبيعته المميزة التي تجعله ذلك الشخص، لم تعُد موجودة آنذاك، إن الجزء المهم من الشخصية هو تلك القدرة على الاستجابة للآخرين بطرق سريعة ومألوفة في العالم الاجتماعي، ووجود ذلك النظام الدفاعي النفسي الصحي؛ لتجنّب مخاوف الذات بطرق فعّالة وحيوية، ولا شكّ أن جزءًا كبيرًا من نظام الشخصية هذا يعمل خارج الوعي.
تعريف العقل اللاواعي
إن أبسط تعريف للعقل اللاواعي هو ما يدور في ذهنك ولست مدركًا لتعيه في وقتٍ زمني محدد، لكننا نواجه مشكلة هنا في هذا التعريف، تخيّل أنني سألتك عن اسم المدينة التي ولدت فيها، لا شكّ أنه بدهيًا لن تواجه أية مشكلة لتستحضر اسمها إلى وعيك، بالرغم من أن اسمها ليس حاضرًا في ذهنك قبل السؤال، ألا يعني ذلك أن اسم المدينة التي ولدت فيها يوجد في عقلك اللاواعي طيلة الوقت؟
يبدو أن هذه الفكرة فضفاضة نوعًا ما، وتسلط الضوء على مشكلة الخلط بين الوعي والانتباه أو الذاكرة قصيرة المدى، كما يفضل أن يسمّيها بعض المنظّرين.
وشخصيًا لا أحبذ القول بأنني لا أعي "فيلاديلفيا" عندما لا أفكر بها، قد لا تكون فيلاديلفيا في ذاكرتي الآن أو موضوع اهتمامي الحالي، ولكنها ليست غائبة عن وعيي، على الأقل عندما أتخيّلها، إنها واحدة من آلاف الأشياء التي يمكنني تذكّرها من الذاكرة طويلة المدى عندما أحتاجها، أو تذكّر نكتة السيد فيلد عنها، أو تشكيلة فريق 76ers [2] لعام 1966–67، أو كلمات وموسيقي أغنية "South Street" للفنان أورلونز، لقد وصف فرويد أفكارًا كهذه بأنها تُقيم في العقل الباطن preconscious غرفة العقل التي تبيت فيها الأفكار حتى تلفت انتباه أعين الوعي.
إن ما هو جدير بالاهتمام هو ذلك الجزء من العقل الذي لا يمكنني الوصول إليه مهما حاولت، ولعل التعريف الدقيق الأفضل للعقل اللاواعي: هو تلك العمليات العقلية التي يتعذر الوصول إليها من طريق الوعي ولكنها تؤثر على إصدار الأحكام والمشاعر والتصرفات. وبصرف النظر عن الفترة التي قضيتها في محاولة الوصول إلى العقل الواعي، إلا أنني لم أستطع الوصول أيضًا إلى نظام حاسة استقبال الإحساس العميق أو إلى تلك الطريقة التي يحوّل فيها عقلي أشعة الضوء الساطعة على عيني إلى رؤية ثلاثية الأبعاد، إنني أفتقر أيضًا إلى الوصول مباشرة إلى العديد من العمليات العقلية العليا، كالطريقة التي أختار معها تفسير وتحليل المعلومات الواردة ووضع الأهداف المنشودة.
يتميّز العقل اللاواعي بصعوبة تعريفه، وما تعريفي هنا إلا واحدًا من تعريفات عديدة له، لأنني لا أجد طائلًا من الخوض في مسائل تعريفه ولن أتناول البدائل الأخرى في ذلك؛ لأن المهم والمثير هنا هو أن نلقي نظرة على ما يمكن أن يحققه الإنسان بعيدًا عن بريق الوعي.
العقل اللاواعي المتكيف، أو ما لا يستطيع أن يفعله السيد (د).
إن ما يُقصد بمصطلح "العقل اللاواعي المتكيف" هو التعبير عن أن التفكير اللاواعي ما هو إلا عبارة عن تكيّف متطور، فالقدرة على تخمين ما يحدث من حولنا، وإزالة الغموض عنه، وتفسيره، والتصرف بسرعة وتلقائية، يُضفي ميزة جديرة للحياة ويجعلها تستحق العيش، وبدون هذه العمليات اللاواعية، سنواجه وقتًا صعبًا نتنقّل معه في العالم (وهو أقل بكثير من الوقوف دون اهتمام مستمر، كإيان واترمان) وهذا لا يعني أن التفكير اللاواعي يؤدي دائمًا إلى إصدار أحكامٍ دقيقة، ولكنه في العموم أمر حيوي لحياتنا.
إن حواسنا يمكنها أن تستوعب أكثر من 11,000,000 معلومة في اللحظة الواحدة، وقد حدد العلماء هذا العدد عن طريق حساب خلايا جهاز الاستقبال (المستقبِل) لكل عضو حِسي وتلك الأعصاب التي تنتقل من هذه الخلايا إلى الدماغ، فتستقبل وترسل أعيننا فقط أكثر من 10,000,000 إشارة في الثانية إلى عقولنا، وقد حاول العلماء أيضًا تحديد عدد الإشارات التي يبرمجها العقل بوعي عند لحظة محددة من الوقت بالنظر إلى أشياء أخرى كسرعة الوقت الذي يقرأ فيه الناس، وتمييز الومضات وألوانها، وتمييز أنواعٍ مختلفة من الروائح، إن الاحتمال الأكثر دقة هو أن الناس يمكنهم برمجة 40 معلومة بكامل وعيهم في الثانية الواحدة، ولو فكرنا في الأمر سنرى أنه يمكننا أن نأخذ 11,000,000 مليون معلومة في الثانية الواحدة، ولكن عدد المعلومات التي يمكن معالجتها عن طريق الوعي هي 40 معلومة فقط، ما الذي يحدث إذًا لـ 10,999,960؟ سيكون مضيعة للوقت أن نصمم نظامًا بمثل هذه الحواس المذهلة والدقيقة، وستكون سعة قليلة جدًا متاحة لاستخدام المعلومات الواردة، ولحسن الحظ أننا نستخدم قدرًا هائلًا من المعلومات الواردة خارج إطار الوعي.
العقل اللاواعي المتكيف كنموذج للمستقبِل
لو افترضنا أنك تعرفت على شخص ما قد عاني مسبقًا من تلف في دماغه، لأن فقدان الذاكرة العضوي يحدث دائما من تكرار الصدمات التي تصيب الدماغ، كالإصابات التي تقع في حوادث السيارات، وجراحة الدماغ، ومرض الزهايمر، ومتلازمة كورساكوف (تلف في الدماغ نتيجة تعاطي الكحول المزمن)؛ إن مثل هذه الاضطرابات تؤدي أحيانًا إلى حالات مختلفة من اختلالات الذاكرة، اعتمادًا على بعض المناطق المتأثرة من الدماغ، وفي جميع هذه الحالات، يفقد الناس القدرة على تشكيل ذكريات تجارب حياتية جديدة.
حين تواجه مثل ذلك الشخص، فمن المحتمل أنه لا يمكنك إخباره على الفور بأنه يعاني من فقدان الذاكرة، لأن مثل هؤلاء ممّن يعانون من هذه الاضطرابات عادة ما يحتفظون بمستوى ذكائهم وشخصياتهم العامة، ولنفترض على أية حال أنك ستجري معه محادثة لفترة قصيرة، ثم تغادر المكان، وتعود بعد ساعة إليه، سترى أن هذا الشخص قد نسي تمامًا بأنه قد التقى بك من قبل، إن كل شخص لا بد لديه هفوة في ذاكرته من حين لآخر، كعدم استطاعته تذكر أسماء بعض الأشخاص الذين لتوّه التقى بهم، واللافت للأمر في مثل هذه الحالات من فقدان الذاكرة هو افتقار مثل هؤلاء المصابين إلى تذكّر واعٍ لأي حادثة جديدة.
لعلّك تلاحظ استخدامي في الجملة السابقة للكلمة "واع"، ويتّضح الآن أن المصابين بفقدان الذاكرة يمكنهم أن يتعلّموا أشياء عديدة من غير وعي، والدليل الواضح (والشيطاني) لهذه الحقيقة قُدّم من قِبل الطبيب الفرنسي إدوارد كاليبريدي حينما كان يزور فيها امرأة تعاني من فقدان الذاكرة، كان يلحظ أنها لا تتذكّر مقابلته، وما كان عليه إلا أن يقدم نفسه من جديد عند كل زيارة، في أحد الأيام، مدّ الطبيب كاليبريدي يده وصافحها كعادته، ولكنه هذه المرة أخفى دبوسًا في يده، فسحبت المرأة يدها بسرعة حين فوجئت بوخز الألم. زارها كاليبريدي مرة أخرى في وقت آخر، ولم تبدِ أية تعبير عن أنها عرفته، فعرّف بنفسه مرة أخرى ومد يده إليها، إلا أنها هذه المرة بالتحديد رفضت أن تمد يدها إليه، ومع أنها لم تكن تملك أي ذاكرةٍ مسبقة واعية لمقابلته إلا أنها "عرفت" بنفسها أنها قد صافحت هذا الرجل من قبل؛ وقد لاحظ الطبيب كاليبريدي أمثلة أخرى عديدة من هذا التعلّم اللاواعي في هذه المريضة، فلم يكن لديها ذاكرة واعية عن تصميم مبنى دار الرعاية التي عاشت فيه لمدة ست سنوات، وعندما سألها كيف يمكنها الوصول إلى دورة المياه أو صالة الطعام، لم تكن تستطيع التذكّر، لكنها عندما تريد الذهاب إلى أحد هذين الموقعين، تذهب له مباشرة من دون أن تضيع.
[1] عبارة "ألقى قبعة في الحلبة" تُستخدم حين يعلن الشخص ترشيحه لمنصب ما أو يدخل في منافسة، وتأتي هذه العبارة من رياضة الملاكمة حيث إن رمي القبعة إلى الحلبة يشير إلى التّحدي في السابق، أما اليوم فيشيع استخدامها في إعلانات الترشيحات السياسية.
[2] هو فريق كرة السلة لولاية فيلاديلفيا، تأسس عام 1964 وسمي بالعدد 76 لأن الفريق يتشكّل من 76 لاعبًا.