السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 1:17 صباحاً
لقد استمرّ قلقي طيلة حياتي لكننّي لمّ أتمنّ زواله، إذ أصبحتُ به الفيلسوف – والشخص – الذي أكونه اليوم.
توفي أبي ذات صباحٍ في المنزل، استيقظتُ على نداء أمّي تستغيث وتهتف باسمي هتافًا مدويًا ويائسًا وخائفًا – فهرعتُ إلى غرفةِ نوم والديّ ووجدتُ أبي متشنّجًا ينازع نوبةً قلبيةً حادة،جسده يقفز بخفة مميتة، وصدره يجيش، واللعاب يقطرُ على شفتيه وجانبي فمه وهو يحاولُ جاهدًا أن يملأ رئتيه بالهواء، وما إن وصلَ طبيبُ العائلةِ الودود بسماعته وحقيبته السوداء إلا وقد فارق أبي الحياة، كان طيّارًا جسورًا وبطلَا في الحرب، قادَ في حربين طائراتٍ مقاتلةٍ أسرع من الصوت، وراوغَ النيران المضادة للطائرات والمعترضات الجوية، فقط ليعودَ إلى المنزل ويموت وزوجته وطفليه ينظرون إليه بعجز، أخطأتْ الرصاصُ والقذائفُ هدفها لكنّ شريانًا مسدودًا وعلقةً لم يخطئا، كان عمره آنذاك 43 عامًا وكان عمري 12 عامًا.
بعد أربعة عشر عامًا وبعد صراعٍ طويلٍ مع سرطانِ الثدي الذي أدى إلى استئصالٍ مشوهٍ للثدي، وعلاج كيميائي مساعد، وجلساتٍ من الإشعاع الموجّه، وعلاج هرموني، وأربع سنوات من الهدأة، استسلمتْ أمي أيضًا وفارقتْ الحياة، لقد كانتْ أيامها الأخيرة مؤلمةً وكئيبةً جدًا، كانت مشمئزة ومشوّشةً وهاذية وأرِقةً، اصفرّ لونها لضعف كبدها وتهالك رئتيها، وعلاج المورفين الذي طلبناه لها جعلها جامدةً، وأبطأ نبضها حتى صار دبيبًا يصعب تمييزه، أصبحنا لا نعرف بعضنا، كانتْ حينها تبلغُ من العمر 52 عامًا وكنتُ حينئذٍ 26.
حين توفي والديّ حدث بيني وبين العالم انفصال جذري ميتافيزيقي، فقد ضربت الصاعقة مرتين، واختفت جاذبية العالم المترسّخة فوق أوهامي العصيبة، فأصبح العالم الآن غدارًا, ومتربصًا بالمزالق والصدوع والفخاخ، لمحتُ عالم الخيبة مرة لمحةً خاطفةً، بالكادِ تُرى تفاصيله، وها أنا ذا الآن أعيشُ فيه، كنتُ أتخيلُ أن العالم بوفاة أبي قد انتزعَ فريسته، وهي ضريبةٌ فظيعةٌ جدًا لن تجبى إلا مرةً واحدة فقط، إلا أن في غضون 14 سنة أتى الموت مناديًا مرة أخرى، فماتت أسطورةُ الرحمة بموت أبي؛ وماتْ الرشدُ والمنطقُ بموت أمي.
وفاة والديّ – نقاط التحول التي حدثت على حين غرة – أصابتْ حياتي برهبةٍ دائمة, وغمرتْ حياتي بقلقٍ عضال, قلق لا ينتظر شيئًا محددًا, لقد علمني موتهما أن العالم تحكمه احتمالاتٌ لا ترحم، فليس ثمة تحذيراتٌ مرافقةٌ للفجر تخبرنا أن هذا اليوم قد يكون يوم مصيبةٍ مأساويةٍ أو قدرٍ محتوم. تذكر جوان ديديون في مذكراتها سنة التفكير السحري (2007) أن ذكريات المصائب تبدأ دائمًا بالطبيعة المألوفة لليوم، فقد بدأ يوم وفاة أبي واليوم الذي شُخِّصت فيه أمي بالسرطان كيومين اعتياديين قبل أن يصبحا غريبين وتاريخيين، تعلمتُ بمشقة أنّ ثمة سببٌ ومناسبةٌ للقلق والشعور بالتوتر حتى وإن لم يكن هناك دلالة على المصيبة، فالكون – إن لم يكن ضارًا جدًا – لا يبالي بأقدارنا ولا يهتم كثيرًا بحياتنا وأحبتنا.
القلق ليس مجرد خوفٍ بسيط بل داء خبيث, إنّه حمى واحتلال, ابتلاءٌ ودستورٌ في آن واحد, إنه عدسةٌ نشاهد منها العالم, ولونٌ يمنح تجارب المصابين صبغتها المميزة, وقد نبّه بوذا إلى ميزة ميتافيزيقية أساسية لهذا العالم، وهي الظواهر المترابطة لأي شيء نمرّ به، فلا شيء له وجود مستقل عن الآخر أو يحدث بمعزلٍ عنه: ففي داخل الشخص القلق ذلك العالم الملوّن بمخاوفه الشخصية الفائقة التي تحيط به؛ إنه عالم مترابطٌ شيّده من مصائبه ومخاوفه. إن للقلق وجهة خاصّة وعلاقةٌ تأويليةٌ مع العالم المقروء نصّه بهذه الرؤية المثقلة بالقلق والغريبة جدًا, إذ يُسلط الضوء على الأشياء والأشخاص والأحداث بناء على تفاعلها مع مخاوفنا: فذاك الرجل في الزاوية نراه متوعّدا، وهذا الكرسي نخاله مزعزعًا وغير متوازن، وذلك الطعام نظنه أداة لمرض فتّاك, وعائلتي – أي زوجتي وابنتي – كأنها أهداف لتقلبات القدر القاسية، وهكذا أعيش في عالم مختلف يظلله ويضيئه قلق لا شبيه له.
بدأتُ العلاج عند التاسعة والعشرين, وخلال خمسة أعوام من زياراتِ العيادات التي تلته – جلستان أسبوعيًا من العلاج النفسي الشخصي والديناميكي والعلاج على طريقة كلاين –اكتشفتُ أنني كنتُ دائمًا طفلًا قلقًا, فلم يبدأ قلقي حين وفاة أبي فحسب، بل لسبب ما، حوّلني كرفيق لمعاناة البشر،فازدادتْ مخاوفي سوءًا لأن وفاة والديّ أثارت موضوعًا كان مهيأً لذلك, فقطعتْ وفاتهما سلسلةً كانت تنمو باستمرار, وكنتُ سأعزل فيها نفسي عن والديّ عزلةً طبيعيةً كما يقول العالم النفسي رولو ماي, هدّدت هذه الوفياتُ القيمَ التي جعلتُها ضرورة لوجودي, فاكتشفتُ في العيادة وعلى الأريكة أن القلق خصبٌ وقادرٌ على إنجاب إصدارات أحدث وبصمات أكثر ابتكارًا من الماضي, ويمكن للمخاوف – المتحفزة لإنتاج صدمات وخسائر جديدة في حياتنا – أن تتفاعل وتتحد كالفيروسات لتشكل سلالات أحدث تمر من خلالنا وتفاجئنا بضراوتها وشعورها الغريزي, وعلينا ألا نتوقع أن مخاوفنا ستظل كما هي مع تقدمنا في العمر, لكننا حين نولي لطبيعتها ومظهرها ومخبرها اهتمامًا كبيرًا سنتمكن من تتبع التغييرات في ذواتنا ومجموعة قيمنا.
تعلمت بأني أستجيب إلى عطايا هذا العالم بالقلق, وقد أصبحت شخصًا أفضل لمعرفتي بذاتي. لا يأتي القلق منفردًا؛ بل إنّ مسبباته الفردية تشكّل مخاوف الإنسان كاملة، فقد يكون القلق منظومة مميزة معدة للتطبيق على موقف معين من الزمان والمكان والظروف والدلالة, ومعرفة الذات غالبًا هي إنذارٌبمعرفة مخاوفها – معرفةً فرديةً ومميزةً – ومعرفة كيف تتغير وتتحول فينا, لقد تعلمتُ – إلى حدٍ ما– ما البيئات التي تثير مخاوفي وتحفزها؛ إن خطواتي المستقبلية مطوقة بهذا الحذر المستحث, لذا فإنني أسترشد في كل خطوة أثناء سيري في العالم بالمخاوف التي عصفت بي.
المخاوف ليست خالدة, فبعضها تموت بمفردها, إذ يكبح جماحها التعرض إلى حقائق متمردة كافية عن العالم ليصبح بعض الفزع واهٍ, كما أن المخاوف ليست عازلة للراحة: فأحيانًا تصلني من مصادر مجهولة رسالة مفادها أن "كل شيء سيكون على ما يرام", وفي تلك اللحظة ينقشع الضباب ويخف العبء ويغمرني طيش مبهج يجعل حضورها ملموسًا, وصفاء تلك اللحظة ممتع جدًا, والراحة من قرحة القلق التي سبقتها جلية, فيرتفع الكتف المنحني إذ أن ثمة ربيع قادم, ويمكن للكافيين والكحول والقنب أن تحفز هذا الأثر, وهذه السمة تفسر بعض الشيء شعبيتها الدائمة عبر الثقافات والحضارات, ولقد عبثتُ بهذه المسكنات حتى أقصى حد من الاستخدام, لكن عندما تنفد يعود القلق, ثم أشعر بحنين مؤلمٍ خفيفٍ لمواساة من أحبهم, لذا فقد اكتشفت كيف كفل الخوف من الوحدة والهجر مخاوفي بقسوة, أقلعت عن الكحول الآن لأني لا أستطيع معالجة المخاوف المرتبطة بالشرب المفرط, فلم يُقهر القلق أبدًا لكنه أخلى السبيل لمواجهة قلق أعظم, كما كتب فريدريك نيتشه في الفجر (1881) لنسيطر على جولة نحتاج إلى أخرى قوية مثلها, معوزة ومطلوبة مثلها تمامًا, لكن الفوز بتلك الجولة يخبرنا أيضًا بوجودها, وقد نفاجأ حين نكتشف ما الذي يكمن بداخلنا.
أشار سيجموند فرويد في عام 1895م إلى أن الغرض من العلاج النفسي هو أن ينتشلنا من البؤس الهستيري إلى التعاسة المألوفة, وأحد العناصر الأساسية لتلك الحركة هو الاهتمام بالقلق, فالمعالجة وفقًا لذلك لم ترحني أو "تشفني", كنت آمل أن أتعلم أن الصدمة "البسيطة" تسببت في قلقي, لكن عوضًا عن ذلك تعلمت أن القلق مكوّن لوجودي: فأنا أستجيب إلى عطايا هذا العالم بالقلق, وقد أصبحت شخصًا أفضل لمعرفتي بذاتي.
نحن حيوانات عقلانية لكننا نضمر قلقًا في تلك العقلانية, فالحيوان العقلاني يتذكر ماضيه ويتعلم منه, ويتنبأ بمستقبله ويخطط له, ويغير حاضره بقلق تجاوبًا مع هذه الذكريات والتنبؤات, إنه حريص على تجنب الأخطاء, حتى تلك التي لا يمكنه تذكرها وأودعها إلى النسيان اللاواعي, إذا كانت الذاكرة – كما قال جون لوك في عام 1690 – تحدد هوياتنا الشخصية فكذلك الحال مع مخاوفنا، وقد اعتبر بوذا وديفيد هيوم الذات حزمة تصورات وأفكار وصور متغيرة أبدًا, وبالمثل أفترضُ نظرية الذات كحزمة مخاوف: فنحن حزمة من المخاوف, وباختبار هذه المخاوف لمعرفة ما الذي يغيظنا وما الذي يجعلنا قلقين, نعرف من نحن, فالقلق يذكرنا بأن ذواتنا أكثر تشتتًا وتمردًا مما نتخيل, أي أن ثمة أمور أكثر لابد أن تضبط لأنها تحوم حولنا وبداخلنا.
ذكر سورين كيركغور في مفهوم القلق (1844) أن أحد ثمار فلسفة الوجودية البالغة الصعوبة – أي مواجهتنا للحرية الحقيقية – يأتي من العبء الفظيع للمواجهات مع الرهبة والقلق, ويدعي بأننا يجب أن نتحمل هذا العبء "بسعادة", فهو ابتلاؤنا, وسنجد أنفسنا بإرادتنا نتقدم معه على دروب اخترناها, لذا منح كيركغور فهمًا لقيمة أكثر ردود الوجودية ثباتًا وبقاءً ودقة: وهو عدم الارتياح للعالم المجهول في حياتنا, سيكون ثمة قلق قليل أو معدوم لو رُسِمت حياتنا بمسارات وإجراءات واضحة لنا لاتباعها, مع أقدار وحظوظ محددة ومقدرة سلفًا.
نواجه بعيدًا عن ذلك القلق الوجودي في كل لحظة من حياتنا, فنعيش كلًا منها على أنها مطلقة, والقلق كما يقول كيركغور موجود في الانتقال من الاحتمالية إلى الواقعية, ومن الحاضر إلى المستقبل, فبمواجهتنا للقلق يمكننا اكتشاف ذواتنا – على ماذا نقدر؟ ماذا يمكن أن نفعل؟ هل ستكون لدينا القدرة على تحمل عواقب أفعالنا – المقصودة وغيرها؟ إن التقدم في حياتنا رغم إزعاج هذه المواجهات – كما يعتقد كيركغور – هو أساس الذاتية.
العبء النفسي للقلق يُقابله زيادة معرفة الذات الذي يمنحنا إياه؛ فأن نجرب القلق يعني أن نجرب أنفسنا في طور التكوين, وأن نسمح لأنفسنا بأن تجرب القلق يعني أن ننخرط في مراقبة ذاتية واعية بأعمق ردود أفعالنا الفعالة, ومتيقظة لانعدام شكل حياتنا – ومسؤوليتنا في تخطيط حياتنا مجددًا عند كل خطوة, إن هذه الحرية في بناء وخلق أنفسنا – الفاعلة – ما هي إلا حالة من الضعف فينا - المفعول به- عند حدوث أي شيء، إننا نخشى ما قد نكون عليه سواء عن طريق أفعالنا أو ببصمة العالم فينا.
مخاوفنا تهرع إلى المساحات الذهنية التي نتركها مفتوحة, لتذكرنا بكل ما قد يفشل فشلًا ذريعًا.
لذا ربما يجب ألا يُعالج القلق خارج الوجود – تحديدًا لأنه يمنح لحظة للاكتشاف وإعادة تصور الذات وبنائها, (كتب بليز باسكال في كتاب الأفكار Penseés(1670) أن الناس وظفوا "الملهيات" للهروب من التفكير في ذواتهم"), القلق بالطبع مزعج ومن السهل جدًا أن يثير الاستجابات المسكنة لحالة السكر أو العلاج, لذا قد يكون العلاج ضروريًا عندما يصبح القلق عصبيًا وعائقًا – تمييز الوجود عند كيركغور – لكن كما أشار ماي الاعتقاد بأن الصحة الذهنية تتمثل في أن تكون متحررًا من القلق هو اعتقاد غير منطقي.
بدلًا من ذلك فإن العيش بتجربة القلق المحسوسة والتخبط الواعي والتفقد يمكن أن يتيح اكتشاف الذات والتدبير المحدد للحياة التي نعيشها, فالقلق كما يزعم كيركغور مدرسة للذات, فحين نتأمل نسمح لأنفسنا بالشعور بمخاوفها؛ فتهرع إلى المساحات الذهنية التي نتركها مفتوحة, لتذكرنا بكل ما قد يفشل فشلًا ذريعًا؛ فتستحوذ علينا, حتى نكاد نقفز من أوضاعنا التأملية, بيد أننا نستطيع أيضًا أثناء التأمل أن نتفحص عن كثب طبيعة الذات, كما يقول فرويد أن مداواة القلق قد تدل على مقاومة يكفلها الخوف من اكتشاف ماهيتنا, فتحطيم الأوثان ليس سهلًا على الإطلاق.
أهم جانب في اقتراح كيركغور هو أن نهتم بالقلق ونلاحظه ونتحدثه عنه ونعترف به، لا بصفته مرضًا, بل بصفته جزءًا مفيدًا من ذواتنا, فيصبح أمرًا لا بد من الترحيب به, لا طرده لأنه رسالة من ذواتنا. وأن نتوقف ونستجيب لتحدي القلق يعني أن نقبل التحدث مع أنفسنا, ثمة ملاحظة نيتشوية هنا؛ يجب أن نبدي الحب للقدر؛ يجب أن نعترف بقلقنا كجزء منا ليتماهى وينتشر لنجعل حياتنا كما نرغب أن تكون, فتقبل القلق هو تقبل حقيقة أن المعاناة ماثلة دومًا في حياتنا واتحاد ذلك القلق مع إحساسنا بذواتنا يشبه الكثير من المناورات العلاجية التي يوصي بوذا بها في الطريق الثماني النبيل, إنه انتقال من كونك ممارس غر لفنون هذه الحياة إلى أن تصبح ممارس ماهر.
علمني القلق مكان الموت في حياتي, فأكد حضور الموت المبكر أن كل فقد في حياتي – ومنه الهجرة – سيصبغه الخوف المميت الذي يثيره أبشع فقد على الإطلاق, فقد والديّ؛ فلا شيء شكّل ميولي الفلسفي سوى هاتان المصيبتان, وبعد رحيل أمي أصابني تغير جذري: أدركت بأني أصبحت حرّا كما لم أكن من قبل, فهمت أن حياتي حتى ذلك الحين كانت مقيدة بوالديّ, ربما كان سيتوجب علي أن أصل لسقف توقعاتهما, وأن ألتمس رضاهما, وأن أحيا حياة أقل طيشًا لأجل أحاسيسهما, الآن زالت كل هذه القيود, وأصبحت حرًا لأفعل ما يحلو لي في أي وقت, فأنقذت نفسي من بؤسي, وأشعر بالأمان لمعرفة أن والديّ لن يحزنا لخسارة ابنهما الغالي, وقد أثار هذا الإدراك ذعرًا بحد ذاته؛ إذ أنها المرة الأولى التي أتعرض فيها لهلع حقيقي, المرة الأولى التي أدرك فيها ما توصل إليه الوجوديون.
وفاة والدي التي قلبت نظام هذا العالم رأسًا على عقب والقلق الناجم عنها جعلاني أعاني من تحول مفاهيمي في إدراكي لمجريات هذا العالم؛ فأصبحت فلسفة مألوفة لي بأن أعتقد طواعية هذا العالم ورضوخه لفهمنا الواعي والعاطفي له, لا لفهمنا العقلاني كليًا, فقد علمتني وفاة والديّ أن هذا العالم سراب, وأن الحديث عن اليقين مجرد أضحوكة, وأن كل الأشياء إلى زوال, وأن لا حقيقة أهم من الحب, وأن كل ما نريده هي الرفقة والسلوى الروحية, وجدتني أنجذب إلى النظريات الفلسفية التي تؤكد لي بأنه لا معنى للحياة ولا قيمة لها إلا تلك التي نعطيها إياها, وتلك التي تخبرني بأنه لا غاية محددة سلفًا لوجودي, إن الاعتقاد بأن هناك نهاية لحياتي وغرض ومصير وغاية مقصودة يقلقني لأني لم أحقق غرضي من الحياة, ولأني "فرطت" في حياتي, ويمكن علاج ذلك القلق فقط بإقناع نفسي بأن هذه الحياة بلا هدف, وبأنه لا يمكنني أن أنتزع الهزيمة من بين فكي النصر, ومن الغريب أن هذا الاعتقاد كان أكثر بقاء من التوجيهات السطحية لكيفية البحث عن حقيقة الواقع والوجود الكامن وراءه.
قلقي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمعرفة مكتسبة بشق الأنفس بطبيعة هذا العالم المتغيرة دائمًا.
تمنح هذه المبادئ الفلسفية تخفيفًا نفسيًا فعليًا وحقيقيًا, فتعزيز احتمالية تفاهة هذه الحياة يخفف من التفكير المزعج المقلق في المعنى والقيمة والجوهر المحددة سلفًا والتي لم أكتشفها ولم أدركها, ففي عالم خالٍ من القرارات الخاطئة لن يكون هناك قلق من التنافر الإدراكي أيضًا, أدركت القيمة العلاجية لهذه الفلسفة واعتنقتها، وجعلتني حالتي القلقة متقبلًا لها إذ هيأتْ الأرضية الفكرية عن طريق إشباعها بحقل عاطفي ووجداني مدعوم بقلق حاد, الفلسفة التي تمت بهذا الأسلوب العلاجي ليست أمرًا مخزيًا, وإنما كانت بالضبط كما ينبغي أن تكون: فهي فلسفة وظفت لتعلمنا طريقة أفضل للعيش, ولتبدد تلك الأوهام والوساوس التي تجعل هذه الحياة أصعب مما ينبغي.
وبسبب مخاوفي هذه فهمت لماذا أصبحت هذا الفيلسوف، ولماذا أحمل هذه الآراء، ولماذا لا أصدق بأن ثمة معنى أو غاية جوهرية كامنة للحياة، يرتبط قلقي تمامًا بمعرفة مكتسبة بشق الأنفس بطبيعة هذا العالم المتغيرة دائمًا, تلك التي تخالف غالبًا الخطط أو النوايا أو الارتباطات أو العلاقات البشرية؛ فيخبرني قلقي بأنها لن تكون كذلك، وأنها ليست سوى مصدر للمعرفة.لماذا نفضّل ونفترض بعض الاستدلالات المنطقية عليها؟ لأنّ الاستدلالات والإدراكات تعززها جميع المعلومات التي نتلقاها والمعتقدات المتشكلّة والاستنتاجات الجديدة، قد نجد أنفسنا مكرهين على استنتاج سلسلة من الأفكار بسبب القلق الذي يدفعنا للأمام حتى نواجه حقيقة أسباب ذلك القلق.
تخبرني مخاوفي بقدرتي على الإحساس، وتذكرني بحياتي ومدى تعاطيّ معها، وبقلقي أيضًا. بل إن مخاوفي الأسرية تكشف لي عن ذاتي التي طوّقتها بذواتهم، وتُريني تلك الحدود التي وضعتها حول نفسي، وتعلّمني من أكون؟ إنها تسخر من ادعائنا بأننا كائنات منعزلة تنتهي حدودها عند رؤوس أصابعها، وسطح بشرتها. وهكذا، إنّ المخاوف تُخبرني من أكون؟