الخميس , 03 أكتوبر 2024 - 29 ربيع الأول 1446 هـ 4:29 مساءً
أثناء نشأتي، كان لدى والدي— وهو رجل طيبُ الخُلق ذو بديهة سريعة ومعرفة واسعة بالموضوعات الغامضة — ولا تزال لديه عادة دائمًا ما تبث الشعور بعدم الارتياح لدى الأشخاص الآخرين وتثير غيظ والدتي، فعندما نتبادل أطراف الحديث فإن الفترة الزمنية الفاصلة بين رأي الطرف الآخر أو سؤاله وإجابة والدي تتجاوز الحد الزمني المتوسط إلى حد كبير، فهي فترة زمنية ممتدة كما في مقولة الفيلسوف كيركيغارد: "اللحظة ليست بمثقالِ ذرة من الوقت، بل إنها مثقالُ ذرة من أبدِ الآبدين."
ففي بادئ الأمر، قد يتوهمُ الشخص أن والدي يأخذ وقفة يُفكر فيها لكي يتفوه بإجابة مُعتبرة. ولكن سرعان ما يتضحُ أن هذه الفترات المُحيرة لا ترتبط بتعقيد السؤال — فحتى عندما يُسأل عن أمرٍ بسيط مثل الوقت، فإنه عادةً ما يدعُ هنيهات أشبه بالأبدية تمضي وحبل أفكار الشخص الآخر حينئذٍ يتمددُ في قلق، إذ أن الفارق بين الوقت المُعتاد للإجابة وذاك الذي يستغرقه والدي يفتحُ هوة غامضة تُثير الانزعاج.
اتضح أن وقفات والدي الممتدة مُربكة جدًا ذلك لأن لتجربتنا الزمنية عنصر اجتماعي أساسي— أي ساعة داخلية متأصلة في قدرتنا على التوافق الذاتي، وتحكم بالفطرة علاقاتنا الاجتماعية ومحاكاة الآخرين التي تدعمُ قدرة الإنسان على التعاطف.
فهذه الوظيفة الاجتماعية التبادلية للوقت هي ما يبحثُ فيه الكاتب آلان بورديك، أحدُ أفراد الطاقم الوظيفي التابع لمجلة النيويوركر في مقال بعنوان: "لماذا يركضُ الوقت": بحث علمي في أساسه (المكتبة العامة)— تحرٍ متعدد المستويات حول أكثر أبعاد الوجود إرباكًا، حيث جرى البحث فيه بدقة متناهية، وسُرِدَ على نحوٍ غنائي.
قرصٌ للتسلسل الزمني، تصوير ألماني للوقت يعود تاريخه لبداية العشرينات من القرن الثامن عشر، من مقال خرائط الوقت
يستهل بورديك البحث — بالسؤال عن الكيفية التي أنشئ بها الكون من العدم وماذا يعني هذا بالنسبة للوقت، وهو سؤال يتصدر المناظرة التاريخية في عام ١٩٢٢م بين آينشتاين وبرغسون، الذي شكّلَ مفهومنا الحديث للوقت. حيثُ يتساءل بورديك:
لأجل مصلحة النقاش، سأقبلُ باحتمالية عدم وجود الكون قبل الانفجار الكوني العظيم— لكنه انفجر في شيء ما، أليس كذلك؟ ما هو ذاك الشيء؟ وماذا كان يوجد مسبقًا قبل البداية؟ إن طرح أسئلة كهذه, كما يقول العالم الفيزيائي الفلكي ستيفن هوكينج, أشبه بالوقوف على القطب الجنوبي والتساؤل في أي اتجاه يكون الجنوب: "فالأزمنة السابقة ببساطة لا يمكن تحديدها."
وبعد مرور ما يُقارب القرن على تفنيد برغسون الرائع للوقت في اللغة بقوله —"إن الوقت نهر يجرفني قدُمًا، ولكنني أنا النهر; إنه نمر ينهشني، ولكنني أنا النمر; إنه نار تلتهمني، ولكنني أنا النار."— يضيفُ بورديك مع التركيز على أوجه القصور الملازمة لاستعاراتنا البلاغية:
ربما كان يحاول هوكينج أن يبعث الاطمئنان إذ يبدو أن ما يعنيه هو أن لغة البشر لها حد, فنحن (أو على الأقل سائرنا) نبلغُ هذا الحاجز حينما نتمعّن في الكون, نتخيل على سبيل القياس والمجاز بأن ذاك الشيء الغريب الهائل الحجم كهذا الشيء الأصغر حجمًا والأكثر شيوعًا منه, فالكون كنيسة، أو ساعة، أو بيضة. ولكن تختلف أوجه الشبه في نهاية المطاف; فالبيضة هي البيضة فحسب, فمثل تلك التشبيهات جذابة تحديدًا لأنها عناصر ملموسة في الكون. أما كمصطلحات فهي مستقلة — لكن لا يمكنها أن تحوي الوعاء الذي يحويها، كما هو حال الوقت؛ متى ما تحدثنا عنه فإننا ننظر إليه كشيء هين. فنحن إما أن نجِدهُ أو نُضيعهُ مثل مجموعة من المفاتيح، نوفره وننفقهُ مثل المال. فالوقت تارة ينسلّ، ويزحف، ويطير، ويفرّ، ويتدفق، وتارة يقفُ ساكنًا; إما أن يكون وفيرًا أو شحيحًا; يلقي علينا ثقلًا محسوسًا.
[…]
بغض النظر عمّا نسمّيه فإننا نتشارك فكرة أولية عما يعنيه; فهو شعور مستمر بالذات وهي تتحرك في بحر من الذوات، تابع ولكنه وحيد; شعور أو ربما أمنية عميقة وشائعة، بأن الأنا تنتمي إلى ال "نحن" بطريقة ما، وهذه ال "نحن" تنتمي إلى شيء أكبر حجمًا ويصعبُ فهمه؛ وهو الفكرة المتكررة التي يمكن التغاضي عنها بسهولة عند عبور الشارع يوميًا بأمان وإنجاز ما دوناه على قائمة مهامنا، ناهيك عن مواجهة مآسي العالم الحقيقية، ذلك لأن وقتي، وقتنا، مهم تحديدًا لأن له نهاية.
رسومات للرسام هارفي وايس من كتابالوقت هو متى للكاتبة بيث يومان جليك
فمن منظور التأملات الزمنية للفلاسفة القدماء وحتى المائة عام الماضية من إجراء التجارب النفسية المبتكرة، يتابع بورديك البحث في مثل هذه الجوانب لموضوعه الذي يتناول — وهو موضوع لا محدود تقريبًا, بالتأكيد, من شأنه أن يجعل محاولته مثيرة للإعجاب — فكرة أن اتساع الوقت وانقباضه يعتمدُ على ما إذا كنا نمضي وقتًا ممتعًا أو نواجه خطرًا ما، وكيف يمكن للأجنة في الأرحام التنسيق بين نشاط إيقاعات الساعة البيولوجية، وما الذي نقيسه بالفعل عندما نتحدث عن المحافظة على الوقت. ففي فصل مُبهر يُفصِّلُ النظام البيئي الحيوي المعقد لتنظيم الوقت— أي الاختراعات، والمعايرة، وفِرق العلماء العالمية المسؤولة عن قياس التوقيت على كوكب الأرض ومزامنته —يتناول بورديك التعاون الضخم للجهود البشرية للمحافظة على دقات ساعات العالم:
إن الوقت ظاهرة اجتماعية. وهذه الميزة ليست ثانوية بالنسبة للوقت بل هي جوهره. فالوقت كما هو حال الخلايا الوحيدة في مواضع تجمعاتها البشرية، هو مُحرك التُفاعلات. فساعة واحدة تعمل فقط طالما أنها تُشير، عاجلاً أم آجلًا، إلى الساعات الأخرى من حولها، سواء أكان ذلك واضحًا أم لا. ويمكن للمرء أن يشتاط غضبًا لأجلها، ونحن بالفعل كذلك. ولكن دون وجود الساعة ومنصة الوقت، فكلٌ منّا سيغضبُ بصمت وبمفرده.
لوحة فنية لليزبيث زويرجير المخصصة للنسخة الخاصة من قصة أليس في بلاد العجائب
.إلا أن وسائل التقنية لدينا دائمًا ما تعملُ بمثابة امتدادات اصطناعية لوعينا —إذ اتضح أن الوقت ظاهرة اجتماعية بطبيعتها ليس فقط في الكيفية التي يُقاس بها، بل الكيفية التي نعيشه بها. يستشهد بورديك ببحث أخصائية علم الأعصاب الفرنسية سيلفي درويت فولي التي درست التشويش الذي يعتري إدراكنا للوقت. ففي إحدى التجارب، عرضت على أشخاص صورًا لوجوه بشرية— بعضها كان محايدًا، والبعض تعلوها تعابير السعادة وأخرى الغضب أو الرَوع —كل منها عُرض على الشاشة لمدة تتراوح ما بين نصف الثانية إلى ثانية ونصف. ومن ثم طُلب من الأشخاص الذين أُجرِيَ عليهم البحث أن يقيّموا مدة عرض تلك الوجوه.
لقد وجدت الأخصائية أنه من بين الصور التي عُرضت للمدة ذاتها، فإن الوجوه التي تعلوها تعابير السعادة اُعتُقِد أنها عرضت لمدة أطول من تلك الوجوه ذات التعابير الحيادية وكانت المدة أقصر من ذلك بالنسبة للوجوه التي بدت عليها تعابير الغضب أو الرَوع. يفسر بورديك الأمر بقوله:
يبدو أن العنصر الجوهري في الأمر يكمنُ في الاستجابة النفسية التي تُسمى بالإثارة، والتي تختلف عما قد يجول في ذهنك. ففي علم النفس التجريبي، تعني مفردة (إثارة) درجة استعداد الجسد للتصرف بطريقة ما. فهي تُقاس بمعدل نبضات القلب ومدى توصيل طبقة الجلد للشُحنات الكهربائية; وقد طُلِبَ لاحقًا من الأشخاص المشاركين في البحث أن يقيسوا مدى الإثارة لديهم مقارنةً بصور الوجوه البشرية أو الدُمى. إذ يمكن أن تُفهم الإثارة بصفتها التعبير النفسي لمشاعر المرء أو ربما تمهيد لردة فعل جسدية, أما على أرض الواقع فقد يوجد هناك اختلاف بسيط. فبناءً على المقاييس المعيارية، فإن الغضب هو أكثر العواطف إثارة، بالنسبة لكلٍ من المُشاهد والشخص الغاضب، يليه الخوف، فالسعادة، ومن ثم الحزن, إذ يُعتقد أن الإثارة تسرع نبضات القلب، مسببة دقات أكثر من المعتاد تتراكم في فترة زمنية معينة، وبالتالي تجعل الصور المتدفقة بالعواطف وكأنها عُرضت لفترة أطول من تلك التي عرضت للمدة نفسها... ويعتقد أخصائيو علم الأعضاء والأخصائيون النفسيون بأن الإثارة أشبه بحالة البدن في وضع التأهب — أي ليس في حالة حركة، ولكنه مستعدٌ للإقدام على ذلك- فعندما نرى الحركة، حتى تلك التي توحي بها صورة ساكنة ما، يُبحر التفكير لدينا، فنحن نُصدر تلك الحركة داخليًا. فالإثارة إلى حدٍ ما هي مقياس قدرتك على تخيل نفسك في مكان شخص آخر.
لوحة فنية لأوليفييه تاليك من كتاب هذه قصيدة تُشفي الأسماك لمؤلفه الشاعر الفرنسي، جان بيير سيميون
نحن نفعل هذا النوع من المحاكاة العاطفية بديهيًا وباستمرار أثناء تفاعلاتنا الاجتماعية اليومية، فهو إلى حدٍ ما أشبه بارتداء ذاك المعطف العاطفي والعقلي لكل من نتواصل معه عن قرب. ولكن من الواضح كذلك أننا نتشربُ شعور الآخرين بالوقت المُبرمج في حالاتنا النفسية العاطفية. ففي دراسة أخرى، وجدت الأخصائية درويت فولي أن الأشخاص الذين أُجرِيَ عليهم البحث تصوروا أن الصور التي تحوي وجوهًا لأشخاص كبار في السن عُرضت لفترة أقصر من تلك التي عُرضت بها بالفعل, كما أنهم في المقابل أخطأوا في حساب مدة عرض صور الوجوه الشابة المعروضة — إذ أن المُشاهدين جسدوا فعليًا وتيرة الحركات البطيئة المُعتادة لدى كبار السن. يشرحُ بورديك هذا الأمر بقوله:
غالبًا فإن الساعة البطيئة تدقُ على نحو أقل في فترة زمنية مُعينة من الوقت وتتراكم بذلك الدقات القليلة، بالتالي يُحكم على الفترة الزمنية بأنها أقصر مما هي عليه في الأساس. فرؤية شخص كبير في السن أو تذكره يحثُ الرائي على إعادة تمثيل حالاته البدنية أو محاكاتها، وتحديدًا حركته البطيئة.
كتبت ريبيكا سولنت مقولتها الشهيرة: الكتاب "قلبٌ لا ينبضُ إلا في صدرِ شخصٍ آخر." بمعنى أن كلٌ منّا عبارة عن كتاب مفتوح زمنيًا, والتعاطف هو ساعة لا تدقُ إلا في وعي الآخر. يكتب بورديك في هذا الشأن:
إن التشويش الزمني المشترك بيننا يمكنُ أن يُعتبر شكل من أشكال التعاطف، ففي نهاية المطاف تجسيد وقت شخص آخر هو بمثابة أن يضع المرء نفسه في مكان ذاك الشخص. نحن نُحاكي إيماءات الآخرين وعواطفهم — لكن الدراسات وجدت أننا نميل أكثر لفعل ذلك مع الأشخاص الذين نكون على معرفة بهم أو مع من قد نرغب في مرافقتهم.
[…]
تفرض علينا الحياة اكتساب بعضًا من الآليات الداخلية للحفاظ على الوقت ومراقبة الفترات القصيرة— إلا أن الآلية التي بحوزتنا يمكن أن تخرج عن مسار عملها بفعل أخف النسمات العاطفية. إذًا فما المغزى من امتلاك مثل تلك الساعة المُعيبة؟ ... ربما هناك طريقة أخرى للتفكير بها, كما اقترحت درويت فولي. فالأمر ليس أن ساعتنا لا تعمل جيدًا; بل على خلاف ذلك، فهي ممتازة في التأقلم مع البيئة الاجتماعية والعاطفية المتغيرة باستمرار التي نتعامل معها يوميًا. إذ أن الوقت الذي أُدركهُ في الأوساط الاجتماعية لا يخصني أنا فحسب، وليس له صبغة واحدة فقط كذلك، بل هو جزء مما يُضفي الظلال على تفاعلاتنا الاجتماعية. وتقول درويت فولي في إحدى رسائلها: "بالتالي ليس هناك وقت فريد متجانس بل عوضًا عن ذلك تجارب متعددة للوقت, إن التشويش الزمني الذي يُصيبنا يعكس مباشرة الطريقة التي تتأقلم من خلالها عقولنا وأجسادنا مع هذه الأوقات المتعددة." كما اقتبست عن الفيلسوف هنري برغسون مقولته باللغة الفرنسية والتي تعني أنه يجب علينا أن نصرف النظر عن فكرة وجود وقت وحيد، فكل ما يُهم هو تلك الأوقات المتعددة التي تُشكل التجربة.
وكما أشارت درويت فولي، فإن أبسط أشكال التفاعلات الاجتماعية بيننا— نظراتنا، وابتساماتنا وعبوسنا — تكتسبُ القوة من قدرتنا على مواءمتها فيما بيننا. فنحن نتحكم بالوقت حتى يتسنى لنا أن نقضي وقتًا مع بعضنا، وكثرة التشويش الزمني الذي يُصيبنا هو مؤشرات للتعاطف: فكلما كانت قدرتي أكثر على تخيل نفسي في جسدك وحالتك الذهنية، وكذلك تخيلك في مكاني، كلما كنا أكثر قدرة على إدراك وجود خطرٍ ما، أو تمييز شخص حليف، أو صديق أو شخصٍ في حاجة للمساعدة. لكن التعاطف صفة معقدة إلى حدٍ كبير، وسمة لمرحلة البلوغ العاطفي: فهو يتطلب التعلم والوقت. فعندما يكبُر الأطفال وتتكون لديهم روح التعاطف، فإنهم يكتسبون شعورًا أفضل لكيفية التعامل مع الوسط الاجتماعي. وبعبارة أخرى، قد يكون من أحد الجوانب الضرورية للنضج تعلم كيفية التحكم بوقتنا بالتماشي مع الآخرين. فقد نولد فُرادى، ولكنَّ تنتهي مرحلة الطفولة بتزامن دقات الساعات، حيثُ أننا نهِبُ أنفسنا بالكامل لعدوى الوقت.
ولعلَّ برغسون كان مُحقاً ففي نهاية المطاف الوقت هو المادة التي خُلقنا منها.