الخميس , 05 ديسمبر 2024 - 4 جمادي ثاني 1446 هـ 6:01 صباحاً
قد يكون الميل إلى لومِ الضحية مُبرمجًا في العقل على صعيدٍ أعمق.
من تعرض للاعتداء الجنسي أو لأحد أشكال التحرش وتجاوزه يعلمُ في قرارة نفسه إلى أيّ مدى قد يؤلم إلقاءُ اللوم على الضحية فعليًا، فغالبًا ما تُطرح أسئلة على الضحايا عن اللباس الذي كانوا يرتدونه، أو التصرف الذي اقترفوه " ليحفزوا" المْعتدي على ارتكاب جُرمه، أو حتى لماذا لم يقاوموا بشراسة أكثر.
بالرغم من تصاعد موجة الاعتراف بالتعرض للاعتداء الجنسي على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" مؤخرًا المذيلة بوسم MeToo# (أنا أيضًا)، إلّا أن إلقاء اللوم على الضحية لا يزالُ مشكلةً عصية.
في واقع الأمر، قد تكون تلك المشكلة عصية أكثر مما نتصوّر، ذلك لأن الميل لإلقاء اللوم على الضحية قد يكون مبرمجًا في عقل الإنسان ويقبع في داخله، اسأل نفسك هذا السؤال: هل يمكن أن يقترف ضحايا جريمةٍ أو حدثٍ ما أمرًا من شأنه أن يضعهم تحت وطأة الفاجعة التي تعرضوا لها؟ فلوم الضحية لا يعني بالضرورة توجيه أصابع الاتهام إلى النُجاة مباشرة بتسببهم في حدوث ما أصابهم من مصيبة، وإنما قد يكون اللوم ببساطة أنه كان بإمكانهم أن يكونوا أكثر حذرًا، أي الاعتقاد جزئيًا بأن وقوع الكارثة كان بسببهم، فمؤخرًا عندما تعرض منزل جاري للسطو، وجدت نفسي أجنح إلى إلقاء اللوم عليه بما حدث؛ نظرًا لأن الحادثة وقعت في وضح النهار، فوجدت أنني مقتنع في بادئ الأمر أن جاري قد فعل شيئًا ما تسبب في حدوث السطو، من المحتمل أن حادثة السطو كانت متعمدة لاستهدافه بالتحديد، أو من الممكن أنه لم يتخذ التدابير اللازمة لحماية منزله، وهذا التفسير بعث الطمأنينة في نفسي لأنه يعني أن منزلي آمنٌ من السطو.
إن ميلنا لإلقاء اللوم على الضحية لا ينبغي أن يكون أمرًا نفخر به بالطبع، فهو أمرٌ يُفضي إلى تهميش الضحية، والتقليل من فظاعة السلوك الإجرامي، وبسببه تقل احتمالية إقرار الناس بالجريمة والإبلاغ عما قد تعرضوا له. ولهذه الأسباب، فإنه من الضروري أن نفهم ماهية الجذور النفسية المتعلقة بلومِ الضحية، لكي نساهم في منع هذا السلوك.
بالرغم من أن بعض أشكال لوم الضحية تنحدرُ قطعًا من دافع الجهل، أو البغض، أو الشعور بالاستعلاء، وقد يوجد سبب آخر وأكبر من هذا. ويعتقدُ أخصائيو علم النفس بأن ميلنا لإلقاء اللوم على الضحية قد يْعزى بالتحديد إلى حاجتنا العميقة للإيمان بأن العالم مكان يعمُّ فيه الصلاح والعدل، ولكي نفهم كيفية هذا الأمر، من المهم أن نبحث في الكيفية التي نُدرك من خلالها نحن البشر العالم من حولنا. فنحن يوميًا نتلقى سيلًا من أخبار وقوع أحداث مرعبة جدًا. وبمجرد إلقاء نظرة سريعة نجد تقريبًا أن كل نشرات الأخبار الحصرية لليوم تكشف عن عددٍ من حوادث تبادل إطلاق النار، والاعتداءات الإرهابية، والحروب، ناهيك عن السرقات، والحوادث، والجرائم الفردية. فإذا كنا بالفعل كائنات منطقية، سنشعرُ بالذعر الشديد. وفي نهاية المطاف، هنالك احتمالية أن نتعرض لهذه الأحداث.
لذا إن لم تشعر بالذعر بفعل تلك الأحداث، فلتسأل نفسك عن السبب.
فإذا كنت مثل معظم الناس، من المحتمل أن تكون إجابتك شيئًا شبيهًا بهذه العبارة: "لأنني لن أتعرض لأمرٍ كهذا" ولكن لماذا لن يحدث لك؟ ما الأمر الذي يجعل منك غير مُعرضٍ لذات الأحداث التي قد يتعرضُ لها بقية الناس؟
وفقًا لروني جانوف-بولمان، أخصائية علم النفس بجامعة ماساتشوستس، بإمكاننا وبسهولة أن نؤمن بحصانتنا الشخصية بسبب تلك النظرة لدينا عن العالم والتي أطلقت عليها: "نظرتنا الإيجابية للعالم" ففي العقل الباطن، يعتقد معظمنا أن العالم في أساسه مكان يعمّهُ الصلاح، وأن الخير يحدث للأخيار، وأننا لحسن الحظ من الأخيار، ومعنى ذلك، أننا نؤمن بأن العالم عمومًا مكان يشيعُ فيه العدل.
معظمنا تشربَّ باطنه تلك المعتقدات في مرحلة مبكرة من العمر، في ذات الوقت الذي تعلمنا فيه أن نؤمن بوجود الشخصيات الخيالية مثل بابا نويل وجنية الأسنان. ولكن على نقيض اعتقادنا بوجود أساطير جيش السامري الصالح، إلا أننا لا نتخلى تمامًا عن نظرتنا الوردية للعالم مع تقدمنا في العمر. نحنُ لسنا حمقى بالطبع. ففي العقل الواعي، كلنا نعلم أن الأشياء السيئة تحدثُ للصالحين كذلك. ولكن -بالرغم من إدراكنا السطحي لهذا الأمر- كما تناقش الأخصائية جانوف-بولمان هذه النقطة لا يزال معظمنا في أعماق عقله الباطن يتمسكُ بحبال الإيمان بأن العالم في أساسه يتسمُ بالعدل. ولهذا السبب تسود لدينا عبارات مثل: "كما تُدين تُدان"، و"من يعمل مثقال ذرة شرًا يره" و"لقد حصدت ما زرعت."
بالرغم من الطابع الخيالي لهذه المعتقدات، إلا أنه ينبغي علينا أن نسعد بوجودها. تخيل كيف ستكون الحياة مريعة إذا فكرنا بالفعل أن العالم مكان خطر، وليس به شيء من العدل، وأننا لسنا أشخاصًا طيبين؛ إذ تساعدنا معتقداتنا الإيجابية على ممارسة أعمالنا وعيش حياة هنيئة في عالم غالبًا قد يكون مُرعبًا تمامًا.
لذا، يُحارب الدماغ بشراسة للحفاظ على هذه المعتقدات.
وفقًا للبحث الرائد الذي أجريَ على يد اخصائي علم النفس ميلفن ليرنر، فإن حاجتنا للحفاظ على معتقدنا بوجود عالم يتسمُ بالصلاح ربما يكون خاطئًا وذلك لأننا نميل لإلقاءِ اللوم على الضحايا.
فعندما يتعرض شخصٌ نتشابه معه إلى حدٍ كبير لأحداث سيئة، فإن هذا الأمر يهدد اعتقادنا بأن العالم مكان يعمّهُ العدل. ونعتقد بما أن ذلك الشخص قد وقع ضحية لجريمة اغتصاب، أو اعتداء، أو سرقة فمن المحتمل أن نتعرض نحن لها أيضًا، لذا ولكي نبث روح الطمأنينة في نفوسنا من مدعاة قلق ما أدركناه ونحافظ على نظرتنا للعالم كقوقعة وردية، فإننا نفصلُ أنفسنا نفسيًا عن الضحية. ونتساءل ما إذا كان ذاك الشخص قد اقترف شيئًا ما جعل المصيبة تنساق إلى عتبة بابه. على سبيل المثال، ربما كان يرتدي ذلك الشخص الذي نجا من حادثة الاعتداء الجنسي لباسًا مُثيرًا وقد يكون ضحية إطلاق النار ضالعًا في نشاطات العصابة. وقد يكون جاري هو من ساق حادثة السرقة لنفسه باختلاطه مع أشخاص غير صالحين. فإذا كان هذا هو سر الملامة، فإننا نقول لأنفسنا بأن هذا لن يحدث لنا، ففي النهاية، العالم مكان يعمّهُ العدل.
هذا ليس مجرد افتراض، ففي إحدى التجارب المنشورة في إحدى المجلات الأكاديمية المهتمة بعلم النفس (The Psychological Bulletin)، قدّم ليرنر وزميلته كارولاين سايمونز الأدلة التي تدعم هذا التوضيح المتعلق بلومِ الضحية. وقد شملت مجريات التجربة الطلب من عدد كبير من النساء أن يشاهِدن امرأة أخرى تتلقى عددًا من الصدمات الكهربائية المؤلمة عبر شاشة فيديو. وقد اعتقدت المُشارِكات أنهن كُن يراقبن تجربة عن كيفية تعلم الإنسان إذ أن المرأة التي ظهرت على الشاشة تتعرض لتلك الصدمات الكهربائية كنوعٍ من العقاب جرّاء الأخطاء التي ارتكبتها في مهمة حفظ الكلمات المرتبطة بالتجربة. بالرغم من أنهن أوهِمن بأن الضحية كانت ضمن المشاركات، إلا أنها في الواقع كانت مُمثلة، لذا لم يتأذَ أحدٌ فعليًا أثناء التجربة. لا عجب أن كل المشاركات شعرن بالضيق مبدئيًا بفعل معاناة ضحية الصعق الكهربائي، إلا أنّه بهذه النقطة تُصبح التجربة أكثر تعقيدًا وذلك أن بعض المشاركات أُتيحت لهن الفرصة لإنقاذ ضحية الصعق عبر التصويت بالكف عن معاقبتها على ما ترتكبه من أخطاء بتوجيه الصدمات الكهربائية لها، بل عوضًا عن ذلك ستُكافأُ بمكافأة مالية عند تقديمها إجابات صحيحة. بمعنى أنه أُتيحت لهن فرصة إعادة معادلة كفتي ميزان العدل، لكي يجعلن من العالم مكانًا يعمّهُ الصلاح مرة أخرى. بينما المجموعة الأخرى من المُشاركات لم تُتح لهن هذه الفرصة؛ وإنما طُلِب منهن ببساطة الجلوس ومشاهدة الضحية وهي تتعرض للصعق الكهربائي مرارًا وتِكرارًا، دون أيّة وسيلة لإنقاذ الموقف.
بعد ذلك، طُلِبَ من كافة المُشاركات أن يُبدين رأيهن بشأن ضحية الصعق الكهربائي؛ وقد كشفت النتائج وجود اختلافات مذهلة بين المجموعتين؛ فاللاتي أُتيحت لهن الفرصة لإنصاف الضحية ذكرن بأن الضحية من منظورهن شخص طيب. بينما اللاتي أُجبرن فقط على مشاهدة تطور ذاك الوضع المُجحف، آل بهن الأمر للانتقاص من شأن الضحية، فمن منظورهن هي تستحقُ ما أصابها من سوء القدر؛ أي أنه بسبب عدم قدرة المُشاركات على تحقيق العدالة فعليًا، جنحن لحماية منظورهن بأن العالم مكان يعمّهُ الإنصاف عبر الاعتقاد بأن الضحية لابد وأنها بطريقة ما لم تكن شخصًا صالحًا، أي أنّها كانت تستحق تلك الصدمات الكهربائية، فبإمكانهن أن يقلن لأنفسهن، بأنَّ العالم لا يزال مُنصفًا.
لذا، فإن ميلنا نحو إلقاء اللوم على الضحية يتعلق بدرجة كبيرة بحماية الذات. فهو يتيح لنا الحِفاظ على منظورنا الوردي للعالم ويبثُ الاطمئنان في نفوسنا بأنه لن يصيبنا شر القدر. إلا أن المشكلة تكمنُ في التضحية بسلامة شخص آخر في سبيل الحفاظ على سلامتنا. فهو بذلك أمرٌ يغفل حقيقة أنّ الجُناة هم من ينبغي إلقاء اللوم عليهم لارتكابهم أشكال الجريمة والعنف، وليس الضحايا.
من حسن الحظ أن لوم الضحية ليس أمرًا حتميًا. فبحسب البحث العلمي الذي أُجرِاه ديفيد أديرمان وشارون بيرم ولورنس كاتز فإن الترياق لهذا اللوم ربما يتمثلُ في أمرٍ في غاية البساطة: ألا وهو التعاطف، فقد أعادوا إجراء تجربة ليرنر وسيمونز وذلك بإضافة تغييرات طفيفة على الإرشادات المُقدمة للمشاركات. فعوضًا عن توجيههن إلى مشاهدة الضحية وهي تتعرض للصعق الكهربائي فقط، طلبوا منهن تخيّل شعورهن إذا تعرضن لتجربة الصعق ذاتها. وقد كان هذا التغيير البسيط كافيًا لبث استجابة تنبع من روح التعاطف، مستبعدًا بذلك ميول المشاركات لإلقاء اللوم على الضحية. وهذا لم يكن البحث الوحيد من نوعه الذي يوضح قوة التعاطف. ففي دراسة أُجريت مؤخرًا، أُعطيَ مجموعة من الطلاب بالمرحلة الجامعية سلسلة من الاختبارات النفسية بالإضافة إلى أشياء أخرى من شأنها قياس مستوى التعاطف لديهم؛ وقد أشارت النتائج إلى أن الأشخاص الذين لديهم مستوى تعاطف مرتفع يميلون إلى رؤية ضحايا جريمة الاغتصاب بمنظور أكثر إيجابية، بينما يميلُ أولئك ممن يقلُ لديهم مستوى التعاطف إلى رؤية الضحايا بمنظورٍ أكثر سلبية.
بالتالي إذا ما خُضنا في ماهية هذا اللوم، فحاجتنا للشعور بأننا نعيش في عالم يعمّهُ الأمان والإنصاف قد يضطرنا إلى استنتاجات لا نفتخر بها؛ إذ لا يرغبُ أحدٌ منا في إلقاء اللوم على من لا يستحقه. ولا يريدُ أحدٌ منا أن يُحيي تجربة الصدمة مرة أخرى في نفوس الضحايا الأبرياء. ولا يُريدُ أحدٌ منا كذلك أن يعذر الجناة على ما اقترفته أيديهم من جرائم.
وفي المرة القادمة التي تسولُّ لنا أنفسنا بالتساؤل عمّا إذا كانت الضحية تستحق اللوم على ما حدث لها من سوء، فلنلتزم بطرح هذا السؤال على أنفسنا: كيف سأشعر إذا كنتُ أنا في مكان ذاك الشخص؟ فعبر إبداء مشاعر التعاطف مع الضحية بدلًا من لومها سنستطيع حقًا أن نصنع عالمًا يسودهُ العدل.