السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:27 صباحاً
“البداية الجيدة هي نصف انتهاء” مقولة مأثورة لكنها سيئة، وأحبذ استخدام “لم يبدأ العمل قط حتى انتهى نصفه” بدلًا منها.
- جون كيتس
التفكير الإبداعي والإبداع ليسا الشيء ذاته، فالتفكير الإبداعي يقودك إلى الفكرة الجديدة؛ بينما يتضمن الإبداع جلبها بالفعل إلى حيز الوجود، ويتطلب إعطاء شيء ما شكله – أي تحويل فكرة ما إلى واقع- مجموعة من المهارات والمعرفة تفوق المهارات الدماغية, ويُعتبر الفنان مثالًا واضحًا في هذا الصدد, ربما كان ليوناردو دافينشي مستلقيًا في غرفته المظلمة حين كانت تدور في مخيلته مرارًا وتكرارًا ملاحظاته في اليوم السابق وأفكار مختلفة "صوّرتها تكهنات بارعة" ولكنه عندما استيقظ في صباح اليوم التالي وذهب إلى مَرسَمه، كانت لديه مهارة صنع النماذج والرسم والطلاء بحرفية بارعة اكتسبها طيلة حياته, ربما لم يترجم جميع أفكاره الأصلية إلى واقع – كما في حالات المروحية والغواصة التي كانت تفتقر إليها التكنولوجيا- لكنه استطاع بالتأكيد التعبير عن أفكاره برسومات مفصلة.
هناك علاقة واحدة ممكنة بين مفهومي التفكير الإبداعي والإبداع وذلك عن طريق تقسيمهما إلى مرحلتين بارزتين: التفكير يسبق التنفيذ، لكن في معظم الحالات يكون هذا الفصل اعتباطيًا تمامًا، إذ لا يتوافق مع الحقائق، فهناك بعض الحالات بالفعل تظهر فيها فكرة أو مفهوم ابتداءً في شكلها النهائي والكامل ولكنها استثناءات, فالمعطيات أقل من ذلك، ويجب أن تعمل بها، وفي أثناء العمل، قد تُطور الفكرة أو تُكيف أو تُغير، وتضاف أفكار أو مواد جديدة إلى بوتقة الانصهار كما قال المنتج التلفزيوني الشهير السيد هيو ويلدون ذات مرة في محاضرة تلفزيونية “تصنع البرامج أثناء مرحلة الإعداد”.
قد تبدو هذه المقاربة غير منظمة بل وفوضوية, وهي كذلك لأنها لا تتماشى مع أولئك الذين تعلموا الحصول على أفكار مكتملة قبل أن ينفذوها، لكنها تضيف إلى حد كبير الأهمية والإثارة للعمل إذ أنك لا تعلم ما سيحدث بعد ذلك, قال روبرت فروست: “لم أبدأ قط بكتابة قصيدة وأنا أعرف نهايتها” لا بد أن يكون التفكير الإبداعي مغامرة.
إن معرفة متى تتوقف عن التفكير وتحاول تنفيذ فكرة ما مهمة لاتخاذ القرار, فإذا كنت عجولًا فستهدر الكثير من الوقت في مطاردة أفكار خاطئة دون جدوى، أما إذا كانت لديك أدنى فكرة عن العمل فلا تنتظر طويلًا! كان للجراح البريطاني الشهير وعالم الفسيولوجيا جون هانتر في القرن الثامن عشر تأثيرٌ كبير بصفته معلمًا, وكان أذكى تلاميذه إدوارد جينر، الذي كان يعتقد أنه يستطيع منع الجدري عن طريق التطعيم, نصحه هانتر قائلًا: “لا تفكر, جرب! كن صبورًا، كن دقيقًا!” فقضى التلميذ سنوات عديدة في الملاحظة المضنية, وفي الوقت المناسب كما نعلم جميعًا، اكتشف جينر لقاح الجدري.
حقيقة أن تبدأ الرحلة كما هي بتعليمات غير كافية، تعني أنك حتمًا ستشعر بالحيرة والارتباك بل الإحباط أحيانًا - ولفترات طويلة غالبًا- وستميل للاستسلام، لكن من المشجع أن نعرف أن حتى المفكرين المبدعين والمحترفين يمرون بليلة اليأس المظلمة هذه.
قال المؤلف هاموند إنز أنه بدأ العمل على رواية ليس لها سوى خلفية وموضوع، وربما مشهد افتتاحي، أو ربما فكرة عن العُقدة:
لكن الكتب تختلف، فشيء تتصارع معه وآخر تكافح لأجله، دومًا هناك مرحلة في مكان ما أثناء كتابتها، يبدو حينها كل شيء مُحال, وتقودني لليأس فكرة أنني فقدت لمستي كراوٍ، ولن أكون قادرًا على فعل ذلك مرة أخرى, لكن يقترن اليأس الخاوي بالإثارة والرضا الهائل عندما يصبح كل شيء فجأة في موقعه من تلقاء نفسه، وتبدأ الكلمات في التدفق مرة أخرى، إن الأمر برمته فاتن وممتع حقًا!
يقول هاموند إنز إن العملية تبدو أشبه بمعركة, لا بوصفة للنجاح - فما لا يقل عن 50% من مخرجات كتابته ألقيت في سلة المهملات, وكثيرًا ما سُئل “لماذا لا يوجد لديك مخطط للقصة أولاً؟” فأجاب: “بالتأكيد سيكون ذلك أبسط, حتمًا أبسط, ولكن إن فعلت ذلك، فلن يكون هناك متعة في كتابتها وإذا شعر الكاتب بالملل، فسيصبح القارئ أكثر مللًا. يجب أن تنمو القصة نموًا طبيعيًا وبمحض إرادتها – وهي عملية بطيئة وعشوائية ومثيرة للغضب، لكنها جُل ما أعرفه.”
ليس من المستغرب أن يستغرق هاموند إنز حوالي أربع سنوات لتأليف كتاب, وقد كان الروائي جون فاولز، مؤلف كتاب "امرأة الملازم الفرنسي" بطيئًا بالمثل، فقد كان يعمل على عدة كتب في آن واحد، حيث يعيد صياغة بعض أجزائها وكتابته باستمرار، فيبدأ بأحدها ثم ينتقل إلى آخر. قال ذات مرة: “ربما كنت قد بدأت ما يصل إلى 12 كتاب ولكنني أنهيت ثلاثة فقط”, كما أنه مثل إنز لم يخطط أبدًا لرواية:
“أبدأ بصورة، أو بشبح فكرة، لا أكثر, ولا أعرف إلى أين ستقودني، وبعد حوالي 10000 إلى 15000 كلمة يمكنك معرفة ما إذا كانت تنبض بالحياة، ستشعر بالموجات - الموجات المشعة – الصادرة منها, عادةً أكتب أول 20 ألف كلمة بالتسلسل, لكن بعد ذلك قد أقفز إلى الأمام، وأكتب مشهدًا لاحقًا، ثم أعود وأكمل أو أنتقل إلى شيء آخر.”
عاشت روايات جون فاولز معه يومًا بعد يوم, وربما هذا ما يفسر تردده في نشرها, فقد قال لأحد المحاورين: “هذه هي نقطة الموت, فبمجرد تسليم الكتاب، وإعداده للنشر، تصبح محجوبًا عن نصّك, تكمن البهجة في جمع الاختراع، عندما يكون لديك المعدن المنصهر، البرونز السائل ... عندما يبدو أن مادتك تتمتع بحياة خاصة بها, عندما يلقي ... ”، وهنا توقف وتجاهل، فخلص المحاور إلى أن فاولز لا يعجبه الحديث عن كتبه السابقة، وأنه لن يناقش أبدًا الكتب التي كان لا يزال يعمل عليها، فبينما كان أحدها يحتضر بالنسبة له، كان الآخر يولد.
أثناء عملك بهذه الطريقة تنشأ الأفكار بداخلك، ولا تعرف من أين جاءت, فعقلك كله منهمك في العمل، لذا تفقد الوعي بالزمان والمكان. إن أكثر الأوقات إثارة هي حين تكون خائفًا بشأن النتيجة: لا تعرف ما إذا كان العمل سيؤتي ثماره أم لا, ثمة توتر, حين يقف ويحييّ عقلك، حين ينتهي وتتأمله, ثمة دائمًا لحظات ابتهاج ونوع من الإثارة, ومجرد وجودك هناك مثير.
إذن لا يمكن فصل التفكير الإبداعي عن عملية تنفيذه, ويجب أن يُتم المفكر ذاته هذا العمل, لأنه جزء منه: فلا يمكن تفويضه لغيره، فعلى الكاتب المسرحي أن يكتب السيناريو, وعلى الملحن أن يؤلف المدونة الموسيقية؛ وعلى المخترع أن يبني النموذج؛ وعلى المصمم أن يرسم أو يخطط، كما أن للممثلين والموسيقيين والحرفيين والفنيين أدوارًا مهمة يؤدونها في الدراما الكلية لعملية الإنشاء, فعلى سبيل المثال، بدون فريقٍ مختار من الأشخاص المهرة - المنضد ومصمم الكتب والطابع والموثق وبائع الكتب – لم تكن لتقرأ أبدًا الكلمات التي أكتبها الآن، لكن هذه المساهمات تنبع أساسًا من النشاطات الأساسية المتمثلة في امتلاك الفكرة وتنفيذها.
- النقاط الرئيسية:
"يزدهر الفعل الإبداعي في بيئة من التحفيز المتبادل والتعقيبات والنقد البناء في مجتمع الإبداع."
- آنون