السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 1:10 صباحاً
هل التفكير المنطقي وسيلة للاكتشاف أو المحاورة؟
تُصور لنا الإجابات من علوم الفلسفة والرياضيات المعرفة الإنسانية.
يذكر إيمانويل كانط في كتابه (نقد العقل الخالص) الذي صدر عام ١٧٨١م أن التطور في المنطق توقف منذ عهد أرسطو أي أنه وصل لذروته من الاكتمال في تلك الفترة، ولم يبقَ هنالك أي جانب منه لم يُشرح ويُكتشف بعد. من بعد التطورات الباهرة في القرنين التاسع عشر والعشرين المتمثلة في توجه المفكرين مثل جورج بول وغوتلوب فريجه وبيرتند راسل والفريد تاركسي وكورت قودل نحو تطبيق العمليات الرياضية في المنطق، اتضح أن كانط كان مخطئًا تمامًا، كما أنه أخطأ باعتقاده أنه لم تطرأ أي تطورات في هذا الفرع منذ عصر أرسطو وحتى عصره. استنادًا إلى ما ذكر في كتاب )تاريخ المنطق التقليدي) لجوزيف ماريا بوخنسكي الذي صدر عام ١٩٦١م فقد بلغ المنطق ذروته في ثلاث فترات: عصر الإغريق القدماء، والفلسفة المدرسية1 في العصور الوسطى، وعصر ازدهار الرياضيات في القرنين التاسع عشر والعشرين.
لماذا غض كانط النظرعن أسلوب الفلسفة المدرسية؟ بشكل عام، ما الذي تسبب في "تضاؤل" المنطق بعد عصر الفلسفة المدرسية؟ على الرغم من أن المنطق كان جزءًا مهمًا من المناهج التعليمية في العصر الحديث، إلا أنه لا يوجد أي أفكار أساسية لم يُتطرق لها (نستثني من ذلك بعض الأفكار التي ظهرت في القرن السابع عشر لغوتفريد لايبنتز). في الواقع، ضاعت أغلب إنجازات الفلسفة المدرسية سدىً وأما المنطق الذي تناوله كانط في تلك الفترة فكان في المهد. لا شك أن تضاؤل منطق الفلسفة المدرسية لم يحدث في ليلة وضحاها، بل في بعض المناطق (مثل أسبانيا) استمرت الأفكار البارزة في أسلوب الفلسفة المدرسية في الظهور حتى القرن السادس عشر. لكن عمومًا، أصبح منطق الفلسفة المدرسية أقل شيوعًا بعد نهاية العصور الوسطى، إلا في المناهج الدراسية في الجامعات (المناهج الأقل تأثيرًا).
هناك أسباب عديدة وراء تضاؤل منطق الفلسفة المدرسية، ولربما كان السبب الرئيسي هو نقد مؤلفي عصر النهضة اللاذع مثل لورينزو فالا إذ شجب أولئك المفكرون عدم إمكانية تطبيق منطق الفلسفة المدرسية، فمثلًا يعتقد فالا بأن القياس المنطقي بمثابة نوع متكلف للمنطق وغير مجدٍ للحكماء بوصفه بعيدًا جدًا عن الطريقة العفوية في الحديث والنقاش، إذ يتمثلُ هذا النوع من القياس في استنتاج نتيجة ما استنادًا إلى مسألتين فإذا صحت هذه المسائل لزم عنها قول آخر. كما انتقد أولئك المفكرون وبشدة اللغة اللاتينية المعقدة والمتكلفة التي استخدمها مفكرو الفلسفة المدرسية وأيدوا استخدام اللغة اللاتينية الكلاسيكية التي اعتمدها شيشرون وفيرجل. إلا أن معظم هؤلاء النقاد لم يكونوا معنيين بالنظام التعليمي في الجامعات عندما كانت الفلسفة المدرسية تطغى عليه في القرن الخامس عشر، عوضًا عن ذلك، كان معظمهم من الموظفين المدنيين لذا توجه تركيزهم بصفة عامة نحو السياسة والإدارة والحياة المدنية، وانصب اهتمامهم على علم البلاغة والإقناع بدلًا من المنطق والإثبات.
أحد الأسباب الأخرى التي أفقدت المنطق هيمنته في العصر الحديث هو التخلي عن الأساليب الجدلية السائدة في التساؤلات الفكرية، هنالك مقولة لرينيه ديكارت في كتابه الذي صدر عام ١٦٤٤م بعنوان (مبادئ الفلسفة) إذ يذكر فيه هذه النقلة بأسلوب لاذع حول الأسلوب الذي يجب أن يُتبع في التعليم:
"بعد ذلك، ينبغي عليه أن يتعلم المنطق، ولا أشير إلى منطق المدارس الذي لا يعتمد إلا منهج الجدلية المتمثل في تعليم أساليب لتفسير الأمور التي يدركها المرء مسبقًا أو الإسهاب بشأنها دون التوصل إلى استنتاج حول المسائل التي يجهلها، فمثل هذا المنطق يفسد الإدراك السليم ولا يغذيه. ما أشير إليه على وجه التحديد هو تعلم المنطق الذي يعلمنا توجيه إدراكنا بهدف استكشاف الحقائق التي نجهلها."
يشدد ديكارت على مسألة أن نظام منطق التعليم (منطق الفلسفة المدرسية) ليس منطقًا موجهًا نحو الاكتشاف، بل أن هدفه الأساسي هو التبرير والشرح، وذلك أمرٌ مفيد لا سيما في الممارسات الجدلية التي يشرح فيها المحاورون ويتناقشون فيما يعرفونه مسبقًا، وبالفعل عُد مصطلحي "الجدلية" و"المنطق" في التعاليم الإغريقية القديمة واللغة اللاتينية في القرون الوسطى مترادفين لحقبة طويلة في تاريخ المنطق.
طُبقت نظريات المنطق حتى عصر ديكارت بهدف تعليم الطلاب كيفية التحدث بفصاحة في المناظرات والخلافات، ولصياغة نظريات بشأن الخصائص المنطقية نظرًا إلى أنها عنصر أساسي في النقاشات. في الحقيقة لا يقتنع الجميع في المنطق بهذا الشكل، على سبيل المثال يعد الفيلسوف توماس اكويناس أن هذا المنطق يدور حول "الدلائل الثانوية" والذي نُطلق عليه المفاهيم من الدرجة الثانية أو المفاهيم المستخلصة من المفاهيم، وفي نهاية القرن السادس عشر كتب العالم اللاهوتي الأسباني دومينو دي سوتو مؤكدًا أن "منهج الجدلية هو فن أو علم المجادلة".
تعود العلاقة الوثيقة بين المنطق التقليدي والمناظرات إلى الحقبة الهيلينية الكلاسيكية حيث كان النشاط الفكري في أساسه مسألة حوار كما تناوله أفلاطون في محاوراته فتُصور تلك الحوارات سقراط كشخصية تجادل بكل ما أوتيت من قوة (بأسلوب مجادلة الاعتراض) والذي يتمثل في تبادل الأسئلة والأجوبة إذ يعتمد المحاورون على إجابات خصومهم خلال المُحاورة لجرهم إلى مناقضة ما دافعوا عنه مسبقًا. تناولت النصوص المنطقية في أعمال أرسطو الفلسفية (العبارة) والآخر (المغالطات) بشكل واضح النقاشات الجدلية كما تتضمن هيكلًا لهذه المواضيع من خلال وضع وصف مُبهم لخصائصها الأساسية.
يفيضُ كتاب أرسطو (القياس)، أكثر أعماله المنطقية غموضًا، بمصطلحات اللغة المستخدمة في المُحاورات إضافةً إلى الإيحاءات إلى المُجادلة، مثلًا يبحث أرسطو في مسألة إيجاد الفرضيات الصحيحة للنتيجة التي يرغب المرء بالوصول إليها – أسلوبٌ مشابه "للهندسة العكسية" - تكمنُ فائدة هذه الأساليب تحديدًا في النقاشات؛ إذا أراد المُحاور إقناع مخاطبيه بالعبارة (ب) فإنه يبحث عن عبارات أخرى على الأرجح سيميل لها المخاطبون وتتضمن محتوى العبارة (ب)، وإذا قدم المُحاور العبارتين (ت) و(ق) اللتان تُفيدان العبارة (ب)، حينها سيكون المخاطبون مُلزمين بتأييد العبارة (ب). من الواضح أن ديكارت كان سيتحسر على أقواله؛ فهذا النهج هو الأفضل للمُحاورة مع الآخرين وإقناعهم، وليس لإنارة الحقائق الجديدة.
استمر ظهور المذهب الجدلي حتى أواخر العصر القديم، وبحلول فترة لاتينية العصور الوسطى أصبح التركيز على المناظرات بقدرٍ أكبر عندما وُضعت القواعد بشأنها مع نشأة ما يُعرف بمصطلح "منهج الخلافات المدرسية"، تتمثل الخلافات المدرسية في أسلوب مُنظم للمُجادلة ويتسمُ بالدقة كما يقوم على قوانين صارمة جدًا، ظهر هذا الأسلوب نتيجة للأساليب المُتبعة في المُحاورة للإغريقيين القدماء وتطور أكثر في الأديرة (مسكن الرهبان أو الراهبات) في أوائل العصور الوسطى. بلغ أسلوب المُجادلة المدرسية ذروته في القرن الثاني عشر مع ظهور الجامعات وتوسعها، فأصبح بذلك هو أسلوب التعليم الأساسي بجانب التعليم عن طريق القراءة، كما تعدى تأثير منهج الخلافات المدرسية حرم الجامعات حتى توسع نطاقه ليضمَّ مجالات متعددة في الحياة الثقافية وكان ذلك المنهج أحد المناهج الأساسية للبحث الفكري في أوروبا خلال العصور الوسطى.
يبدأ الخلاف بتقديم عبارة، ثم يتجه المُحاورون في البحث عن حجج توافق وتخالف تلك العبارة، ويعد هذا الأسلوب مشابهًا لمنهج تبادل الأسئلة والأجوبة المشروحة في كتاب أرسطو (العبارة) إذ يمكن قراءة العبارة الأولى بمثابة سؤال: "س، صح أم خطأ؟" يقوم أسلوب التحاور على طرفين يعترضان على فكرة معينة ويقدمان حججًا تدافع عن وجهات نظرهما، حتى إن كان شخص واحد فقط يؤدي دور الطرفين. فقد تهدف المُجادلة ببساطة إلى إقناع خصومك أو جمهورك، لكن عادةً ما تنطوي على بلوغ شيء أعمق مثل الاقتراب من قشع الغشاوة عن مسألة معينة من خلال البحث فيها من زوايا مختلفة.
تحاور مفكرو العصور الوسطى ضمن سياق خلافات عُقدت على 'أرض الميدان' سواءً أكانت خاصة بين أستاذ وتلميذه أم عامة في المحافل الضخمة بحضور كبار الشخصيات من المجتمع التعليمي. ولكن يُستخدم الهيكل العام كذلك على نطاق أوسع في بعض أبرز أعمال كُتاب العصور الوسطى (بعض من تلك الأعمال عبارة عن تقارير مكتوبة عن خلافات حدثت مسبقًا). قدمت الكتب في المنطق التدريب اللازم لإتقان فن الخلاف كما تشتمل على أبوابٍ في المغالطات، والعواقب، والهيكل المنطقي وفحوى العبارات بالمُحاورة، ونظرية الخلافات (أسلوب معين للخلاف يتسم بدرجة عالية من التركيب) إذ تتعلق كافة هذه المحاور مباشرة بفن الخلافات (إلا أنه يمكن تطبيق بعض منها في جوانب أخرى مثل تفسير النص وتحليله). يُشار إلى انتشار الخلافات الواضح وتلك المواضيع ذات الصلة بهذا الفن بمصطلح "بناء التعارض".
تزامن اندثار ثقافة الخلاف مع ظهور تقنيات جديدة للنشر والطباعة في أوروبا.
ارتبطت الخلافات ارتباطًا وثيقًا بالوسط الجامعي في أواخر العصور الوسطى، فيما ذكر سابقًا تناول ديكارت "المنطق المدرسي" وبالتالي انتقد أسلوبًا تعليميًا كاملًا مستندًا إلى الخلافات ومنطقها المضمر، كما انتقد مفكرو عصر النهضة أسلوب الفلسفة المدرسية لأنها لم تتناول الأمور التي ينصبُ عليها اهتمام المجتمع بشكل كافٍ، كما اهتمت بالمتحدث عوضًا عن المُحاور المدرسي كما لو كانوا المفكرين الأساسيين إن المبالغة في صياغة خلافات الفلسفة المدرسية أضحت مدعاة للذم والسخرية فحسب، مثلًا في مسرحية موليير (مريض الوهم) تستخدم شخصية توماس المتحذلق والأحمق مصطلحات لغة الجِدال ليبين وجهة نظره في الحب:
"ديستنغو يا حضرة الآنسة، أما ما يتعلق بالامتلاك فأقول كونسيدو-أي موافق-، وأما ما لا يتعلق به فأقول نيغو -أي أرفض."2
لم يكن اندثار ثقافة الخلافات هو السبب الرئيسي في زوال المنطق المدرسي، ولكن كان يُنظر إليه–سواء بشكل صحيح أو خاطئ- بأنه يتعلق بشكل وثيق بأفكار أرسطو في اللغة والميتافيزيقيا التي انطفأ نورها مع بزوغ فجر العصر الحديث ونشأة نموذج علمي جديد. بالرغم من ذلك كله استمرت الخلافات في سياقات جامعية محددة لفترة، وبالطبع ما زالت تُجرى ضمن إطار مناقشات رسائل درجة الدكتوراه. المغزى من ذلك أنه حدث تحول هائل في الأسلوب الفلسفي في بداية العصر الحديث، فبمقارنة الأعمال الفلسفية البارزة للعصور الوسطى: كتاب (الخلاصة اللاهوتية) الذي صدر بين عامي ١٢٦٥-١٢٧٤م لتوماس اكويناس، فقد كُتِبَ بطابع جدلي بشكل كامل، مع أطروحة رينيه ديكارت (تأملات في الفلسفة الأولى) التي صدرت عام ١٦٤١م، فقد تضمنت مجادلات في فقرات طويلة كُتبت بصيغة المتحدث الأول، بالتالي تجد أن التساؤل الفكري في هذين الكتابين تحول مع اندثار منهج الخلافات.
كما أنها ليست مصادفة أن يتزامن اندثار الثقافة الجدلية بشكل كبير مع ظهور التقنيات الجديدة في الطباعة للمخترع يوهان غوتنبرغ في أوروبا في القرن الرابع عشر. فقبل تلك الابتكارات، كانت الكتب سلعة نادرة وكان التعليم محصورًا على التواصل الشفهي بين المعلم وطلابه عبر عقد محاضرات تُقرأ فيها الكتب جهرًا وتدور النقاشات في مواضيع عدة وتُجرى الاختبارات. بعد قرنين من الزمان في عصر ديكارت تحديدًا أصبح التعلُم الذاتي بواسطة الكتب فكرة رائجة جدًا إذ أن أمرًا كهذا لم يكن معقولًا قبل توفر الكتب المطبوعة.
كما ذُكر في الاستشهاد السابق لديكارت اُستخدم اصطلاح "المنطق" لأمرٍ يختلف عن الذي وضعه الفلاسفة المدرسيين، بل أبرزَ المؤلفون المعاصرون دور الابتكار والاكتشاف الفردي كما يتضح في الكتاب البارز (في منطق بور رويال) الذي صدر عام ١٦٦٢م فهو بمثابة نص منطقي للمنهج الديكارتي3 يقوم على مفهوم ديكارت للعمليات العقلية وأولوية الفكرة قبل اللغة، لكن من منظور القرن الواحد والعشرين فإن المنطق المدرسي للعصور الوسطى أجدر بأن يُطلق عليه مصطلح "المنطق" مقارنة بأي عمل آخر كُتب في هذا المجال في أوائل العصر الحديث، وذلك لأنه يتسم بدرجة مماثلة من التعقيد في التركيب والدقة البالغة التي تميزَّ بها المنطق منذ أواخر القرن التاسع عشر وما بعده.
يرى عدد من الفلاسفة في العصر الحديث أن أساس المنطق يكمن في القوى العقلية. بلا شك تواجدت هذه المسألة أيضًا في الفكر المدرسي للعصور الوسطى (كأعمال المؤلف بيير دالي في القرن الرابع عشر)، ولكن في بداية العصر الحديث أصبحت الفكرة السائدة مما يُفضي بمجرى حديثنا إلى كانط الذي يرى من منظوره أن المنطق يتعلق في المقام الأول بتركيب الفكرة وعمليات العقل كتأويله لمقولات أرسطو. بالنسبة إلى كانط فالمفاهيم المنطقية الجوهرية مثل الإتيان باستنتاج من الافتراضات وصولًا إلى النتيجة النهائية يرتبط بالعمليات الداخلية في العقل عوضًا عن مُجريات الحوار أثناء مُجادلة ما.
بينما استمر تأثير أفكار كانط في المنطق، اتخذ هذا العلم منعطفًا مختلفًا في القرن التاسع عشر نحو علم الرياضيات، استحدث عالم الرياضيات الإنجليزي البارز جورج بول في كتابه (التحليل الرياضي للمنطق) الذي صدر عام ١٨٤٧م توجهًا بحثيًا جديدًا بالكامل، ولهذا المنهج جذور في القرن السابع عشر تعود خاصة وليس حصرًا إلى الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنتز (أيضًا، كان يظن توماس هوبس أن التفكير برمته عملية حسابية بحته)، ولكن على ما يبدو أن بول كان غافلًا عن المستجدات التي حدثت في وقت سابق لأنه تلقى معظم التعليم الابتدائي ذاتيًا بما في ذلك علوم الرياضيات المتقدمة.
استحدث بول طريقة "لحساب" صِحّة الحجة من خطئها رياضيًا، حتى تتناقض تمامًا مع منهج المنطق التقليدي القائم على الكتب، وُلِـدَ عن أعمال بول ما يُعرف بالجبر الرياضي في أساليب المنطق، كما أنه دعا إلى استخدام الرموز الرياضية في سياق المنطق. لقد تأثر بول بموجة الاهتمام المتزايد بالمنطق بين أوساط مجتمع علماء الرياضيات، وفي الغالب اتبع منهج كانط في صياغة أفكاره المنطقية ولكن لا جرمَ أن دراساته تُمثل علامة فارقة في تاريخ المنطق وبزغ في تلك الفترة فجر عصر الرياضيات الذي برز فيه عالم المنطق البولندي جوزيف بوشينسكي إذ تُعد إحدى الفترات الذهبية في مجراه.
أما الشخصية البارزة الأخرى في سياق المنطق للقرن التاسع عشر الفيلسوف الألماني جوتلوب فريجه، بروفيسور في علم الرياضيات في مدينة جينا في ألمانيا، فقد عمل في بداية مسيرته المهنية في الفروع الأساسية من الرياضيات كعلم الهندسة والتحليل، ولكن آل به المطاف إلى ميله نحو المواضيع الفلسفية بغض النظر عن عدم تلقيه أي تعليم رسمي في الفلسفة، فبينما اعتمد بول (الذي انتقده فريجه بشدة) العمليات الرياضية لتحليل المنطق (القياس المنطقي)، تمثل منهج فريجه في استخدام المنطق لتحليل الرياضيات، وبالتحديد أراد فريجه توصيف الرياضيات بأساسات منطقية بحتة إذ عُرف هذا المنطلق لاحقًا بالتوجه المنطقي، كان ينوي استخلاص كل الحقائق الحسابية من مبادئ منطقية بحتة (المسلمات) باستخدام القواعد المنطقية فحسب. ولكن في النهاية اضطر فريجه إلى إضفاء الطابع الرياضي على المنطق لكي يلائم التوجه المنطقي على وجه الخصوص باعتماد المفهوم الرياضي للدالة بوصفه حجر الأساس في بناء نظامه، كما تأثر بشكل جلي بالأسلوب اللغوي المتكلف للقرن السابع عشر (خاصةً، اللغة المستخدمة في أعمال الفيلسوف لايبنتز)، ابتكر فريجه أسلوبًا جديدًا بالكامل لترميز نظامه أطلق عليه اسم "ترميز المفاهيم".
يستهل كتابه (ترميز المفاهيم) الذي صدر عام ١٨٧٩م بتوضيح جليّ حول دواعي استخدامه لهذه اللغة جديدة:
"تتمثلُ المرحلة الأولى في السعي إلى الحد من استخدام مفهوم التسلسل في التالية المنطقية، لكي ننتقل إلى مرحلة مفهوم الأرقام، وبغية التصدي لظهور أي بديهيات في هذا السياق دون أن أفطن لها، اضطررت إلى تكريس كل جهودي للمحافظة على خلو سلسلة الاستدلالات من أي فجوات، ولكي امتثل لهذا الأمر بأكبر قدر ممكن، وجدت أن عجز اللغة هو أحد العوائق، بغض النظر عن مجموعة التعبيرات غير المحدودة التي كنت أعتزم تقبلها وجدت نفسي أقل قدرة مما مضى على تحقيق مستوى الدقة اللازمة لبلوغ ما أصبو إليه كلما أصبحت العلاقات ضمن السلسلة أكثر تعقيدًا. إذ أن عامل قصور اللغة هو ما قادني إلى استحداث نظام ترميز المفاهيم، إذ يتمثلُ هدفه الأول في تزويدنا بأكثر الاختبارات فعالية لإثبات صِحّة سلسلة الاستدلالات ورصد ما يطرأ من افتراضات دخيلة غير ملحوظة بهدف دراسة مصدرها."
أصبحت فكرة العجز الكبير للغة العادية عن الاستنتاج الرياضي (أو حتى المنطقي) أمرًا شائعًا عقب استحداث أسلوب المنطق الرياضي لدرجة أن اصطلاح "المنطق الرمزي" أصبح مُرادفًا لهذا الأسلوب، ببساطة، أصبحت ممارسة المنطق تعني التعامل مع رموز خاصة عوضًا عن الكلمات العادية، ولذلك انتقد المؤلفون في المجالات الإنسانية اللغة اللاتينية لعلماء المنطق المتبعين للفلسفة المدرسية بوصفها "متكلفة جدًا" حتى اللغة اليونانية التي اعتمدها أرسطو في وضع القياس المنطقي أُعيد تنظيمها ولم تعد تُستخدم ضمن الأساليب المعتادة للحديث في ذلك الوقت. بمعنى آخر، ربما ينطوي جوهر المنطق عبر التاريخ على قدرٍ من "التكلف" نظرًا لأنه يؤثر على مستويات التجريد التي تتناقض مع الصياغة اللغوية العادية.
لم يكن فريجه هو الوحيد الذي كان يتعامل مع أساسات الحساب باستخدام أدوات المنطق. في نهاية القرن التاسع عشر ظهرت عدة أعمال مميزة لعلماء بارزين في علم الرياضيات حول تبسيط مجموعات في ذلك الفرع إلى البديهيات، ومن تلك الشخصيات ريتشارد ديدكايند، وجوزيبه بيانو، واوسلاد فيلبن وديفد هيلبرت، إلا أنَّ فريجه كان أول من أدرك أنه لم تكن البديهيات فحسب ما يمكن تعريفه عبر استخدام مصطلحات في المنطق، فقد كانت قوانين الاستدلال بحد ذاتها بداية بالبديهيات حتى الإتيان بحقائق أخرى تتطلب معاملة دقيقة.
يُفضي بنا تاريخ المنطق إلى التساؤل حول المفهوم الفردي للمعرفة والتعاليم المعرفية التي تلقيناها من ديكارت.
من المؤسف أن نظرية فريجه المهمة بُنيت على أسس واهية، فقد أثبت الفيلسوف برتراند راسل التناقض فيها بابتكاره للمفارقة التي سُميت تيمنًا به، إذ يُقدم نظام منطق فريجه مجموعة تنتمي ولا تنتمي لذاتها في آنٍ واحد- قمة في التناقض! (تمثيل بديهي للفكرة الرئيسية في مفارقة راسل الذي يُعرف كذلك بمفارقة الحلاق: للتوضيح تخيل أن هناك حلاقًا يحلق فقط لكل أولئك الأشخاص الذين لا يحلقون لأنفسهم. فالسؤال هو: هل يحلق الحلاق نفسه؟ فإذا كان يحلق لنفسه فذلك يعني أنه لا يحلق لكل الأشخاص الذين لا يحلقون لأنفسهم، وإذا كان لا يحلق لنفسه فإنه يحلق لكل أولئك الذين لا يحلقون لأنفسهم). بغية إصلاح التوجه المنطقي وتطويره، استحدث راسل بالتعاون مع ألفريد نورث وايتهيد نظامًا ضخمًا (والذي يُعد تقريبًا نظامًا غير منظم) طُرِحَ في كتابهما (أصول الرياضيات) الذي صدر عام ١٩١٠م، إذ تستند جميع التطورات الضخمة التي حدثت في علم المنطق في القرن العشرين أساسًا على ذلك الكتاب بشكل مباشر أو غير مباشر.
بالعودة إلى الحديث عن توصيف بوشينسكي للفترات الثلاثة الذهبية في تاريخ المنطق، فإن الفترة القديمة وفترة الفلسفة المدرسية في القرون الوسطى كانت ضالعة بشكل كبير في فكرة أن الاستخدام الرئيسي للمنطق يكمنُ في إجراء المحاورات كالخلافات الجدلية. وعلى العكس تمامًا، تُمثل الفترة الثالثة تفسيرًا مختلفًا تمامًا للمنطق بوصفه فرعًا أساسيًا من علم الرياضيات وليس مرتبطًا بأي شكل كان باللغة العادية التي تُستخدم في المناظرات الاعتيادية، ويمكن تفسير الفجوة بين الفترتين الثانية والثالثة بوجه خاص بسبب انهيار المنهج المدرسي للخلافات، وبوجه عام بسبب انهيار مذهب أرسطو بوصفه الرأي السائد على نطاق واسع.
ولكن ما تزال آثار الجذور الحوارية في المنطق ممتدة في التطورات الأخيرة في هذا العلم، مما يعني أن النظر في المنظور الحواري أو الجدلي يُعد عنصرًا جوهريًا لفهم طبيعة المنطق بشكل وافٍ حتى في حالة تمثيله بالعمليات الرياضية كما أصبح مؤخرًا، وأيضًا لأن الرياضيات بحد ذاتها مسألة حوارية بشكل كبير. في النهاية، يُفضي بنا تاريخ المنطق إلى التساؤل عمومًا عن المفهوم الفردي للمعرفة والتعاليم المعرفية التي تلقيناها من ديكارت وغيره وقد يحثنا كذلك على إيلاء مزيد من التقدير خاصةً للطبيعة الاجتماعية للإدراك البشري.