الأحد , 10 نوفمبر 2024 - 8 جمادي الأول 1446 هـ 5:48 مساءً
إميل سيوران: الفيلسوف المُعادي للحياة والموت
هل تنهزم الفلسفة أمام الموت؟ يتناول كارل وايت تأملات الفيلسوف الروماني إميل سيوران التي لطالما كانت تدور حول الولادة والوجود والفناء، ويتساءل ما إن كان بإمكان الفلسفة أن تنقذنا من يأس ساعتنا الأخيرة من الحياة، أو ما إذا كانت تصل ذروتها عند مشارف فنائنا.
ركزت المؤسسة الفلسفية منذ نشأتها على الموت. فكما قال سقراط، تعلمنا الفلسفة كيف نموت، ووفقًا لمقولته فإننا ندّعي الحكمة عندما نهاب الموت لجهلنا به تمامًا، ولكن قد يكون الموت نعمة تناقض جميع غرائزنا. حرصت الفلسفة كذلك على تهدئة مخاوفنا عبر تذكيرنا مِرارًا وتكرارًا بفنائنا: حيثُ تسعى الفلسفة إلى أخذنا إلى ما وراء المألوف متخذةً من وفاتنا أمرًا غير استثنائي، وتحثنا على نوع من الزهد في الحياة حيث نتذكر أن مصيرنا الموت، فتذكر دائمًا أنك ستموت. هل ستنجح الفلسفة في تحقيق أي من هذين الهدفين؟ فوفقًا للمُفكر الروماني سيوران فإن الإجابة على ذلك نفي الأمر نفيًا مدويًا وحاسمًا، فهو يظن أن "الطبيعة متعاطفة فقط مع أولئك الذين أعفتهم من التفكير بشأن الموت." وأمام كارثة الموت يمكن للفلسفة ألا تكون سوى تأملات في فشلها وضعفها بحد ذاتها في مواجهة واقع الفناء.
يُعتبر سيوران فيلسوفًا مُعاديًا للفلسفة، فيستنكر ويسخر من محاولات كبار الفلاسفة في تقييد قسوة تجربة الحياة وشكوكها بتقسيمها ضمن فئات وتعاريف وضرورات أخلاقية. فعوضًا عن ذلك دوَّنَ سيوران تقلبات أحاسيسه ومنعطفاتها وغيظه وخيباته بأسلوب فريد وبتهكّم سوداويّ، والأهم من ذلك أنه دوَّنَ فشل المنطق والفلسفة في التعامل مع قوة الموت غير المرئية وغير المحدودة واحتوائها. تسعى الفلسفة بصفتها فرعًا من فروع العلم إلى احتواء الوجود من خلال توظيف المنطق بحكمة، الأمر الذي من منظور سيوران لا يُمثل إلا السخرية على كبرياء البشر والاستخفاف به، وكذلك يرى الإنسان كدمية في أيدي المصير والقوى الخارجة عن سلطته. ففي النهاية سوف يكون القرار الأخير بيد الموت والصمت.
"إذا وجدت الفلسفة صعوبة في إعطاء معنى للحياة، إذًا ماذا بيدها أن تُقدم بشأن مسألة الموت؟"
بدأ سيوران مسيرته الفلسفية كناشط متحمس يتبع منهج نيتشه ويتبنى مجموعة من الأخلاقيات المساندة للحياة كما ولى قدرًا قليلًا من الاهتمام للمناقشة الشكلية أو المنطقية، ومع ذلك فعوضًا عن انشغاله بفلسفة مسألة الموت، ظلَّ منشغلًا بالفلاسفة التقليديين الذين سخر منهم. ولكن بينما وصف سقراط الفلسفة بأنها شكل من أشكال التدريب ليموت المرء ويلقى حتفه بهدوءٍ وشرف، فقد وجد سيوران عجز المنطق والحكمة عن وصف الفناء، وغالبًا ما يكون ذلك بدافع الأسباب نفسها التي ألهمت معظم الأفكار المُعادية للفكر التأسيسي في القرن التاسع عشر، وهي: أولوية الطبيعة، وزعزعة اللغة والنزعة التاريخية في جميع الأنظمة الأخلاقية.
يبدو المنطق بالنسبة إلى سيوران مفهومًا ضعيفًا بُنيَ على قوة الحياة اللاعقلانية، ومن أجل تعريف المجهول اُستحدث منهج حتمية الموت والفناء. إذا وجدت الفلسفة صعوبة في إعطاء معنى للحياة، فماذا بيدها أن تُقدم بشأن الموت؟ حيثُ دفعت مثل هذه الأفكار المُعادية للتنوير سيوران إلى الشعور بالانفصال عن الإنسانية المشتركة بسبب وعيه الشديد بحتمية الفناء: "عندما يصبح الوعي مستقلًا عن الحياة يكون الكشف عن الموت واضحًا لدرجة أن وجوده يحطم السذاجة والحماس البهيج والشهوانية الطبيعية بالكامل... ويبيّن تفاهة جميع مشاريع الإنسان المنجزة بلا استثناء وأوهامه اللاهوتية." ببساطة كان هناك تلك التجربة المعتادة في الحياة ومحاولات العقل البشري الضعيفة والفاشلة لتفسير معناها في ضوء الحقيقة المتمثلة في انعدام الحياة، والعقول والأفكار عن الوجود يومًا ما.
فبينما نحاول الحفاظ على موقف كريم أمام الموت فإن لسيوران تأمل واقعي وصريح بأن مسألة الموت تقتلُ فينا الحافز والمعنى، لم تحظ تلك الفكرة بقبول لدى مذهب الطبيعة اليوناني ولا الرُّواقية الرومانية، ولم تتلق ترحيبًا لدى المذهب النيتشي كذلك. غيّر سيوران توجههِ بعد الحرب فأصبح حكيمًا بالشؤون الإنسانية ومُفسرًا لها ومتهكمًا بها. إذ أصبح مُعاديًا لأفكار الفيلسوف سارتر بطرق شتى. فبينما كان سارتر يعظ في شؤون الحرية والإمكانية والتحرر، أصدر سيوران مجلدًا تِلو الآخر محصورة بالحديث عن مسائل العبودية البشرية والمكائد والمحدودية، جميع الأيديولوجيات قد أجدبت، والحرية ما هي إلا كذبة، وساد العنف والحقد وأصبحا الحالة الإنسانية الطبيعية، وفي نهاية المطاف فإن حتفنا هو الموت. وجدَ سيوران مُسبقًا أن جميع المحاولات المبذولة لاحتواء حقيقة فنائنا وتحييدها يشوبها الشك إلى حدٍ بعيد، إلا أنه الآن قد يُعيد تكرار حقيقة ضعف العقل أمام الفناء بلا هوادة.
"لا يمكن للفكر الرُّواقي أن يتأقلم مع حقيقة أن جميع الخلق سيموتون يومًا ما."
يميل سيوران في بعض الأحيان إلى استخدام أحد مناهج الفيلسوف إبيقور للتعامل مع فكرة الموت مصرحًا بقوله: "أفكر في كثيرٍ من الموتى وأشفق عليهم، ومع ذلك فهم لا يستحقون كثيرًا من الشفقة، لأنهم وجدوا حلًا لكل مشكلة ابتداءً بمشكلة الموت." ومع ذلك سُرعان ما تلاشى تصريحه المتبجح، فقد حاول سيوران بقدر الإمكان أن يثبت موقفه إلا أنه لم يسعه سوى الاعتراف بالواقع الميؤوس منه. تحاول الفلسفة تحييد قوة تجربة الموت بتقديم المسائل العامة، ولكن إنكارها لحقيقة حتمية موت كل فرد بلا إرشاد يجعلها محطًا للسخرية. "إنها لم تعني لي شيئًا على الإطلاق، وبعد عدة سنوات أدركت فجأة أنه مهما يحدث لن أتمكن من رؤيتها مجددًا، كدت أن انهار، سنفهم ما يعنيه الموت فقط عندما نتذكر فجأة وجه المتوفى الذي لم يكن يعني لنا شيئًا." لا يمكن للفكر الرُّواقي أن يتأقلم مع حقيقة أن جميع الخلق سيموتون يومًا ما.
ارتبط فشل الفلسفة أمام مسألة الموت ارتباطًا وثيقًا باعتقاد سيوران الأساسي القائل: بما أن الموت كارثة مخيفة، إذًا فالمأساة الحتمية الأعظم هي أن يُولد المرء في الأصل. فالحياة بذاتها عابرة وغامضة، ومليئة بالإحباطات والخيبات. لا نعلم ما الذي يتوجب علينا فعله ولماذا ينبغي أن نفعله. يُعتبر الموت أحد الحقائق المحتومة، "نحن لا نندفع نحو الموت، بل نفرّ من كارثة الولادة التي يعاني الأحياء من تناسيها، إذ يُعتبر الخوف من الموت مجرد إسقاط مستقبلي لذلك الخوف الذي بدأ في أول لحظة في حياتنا." فلا وجود للموت ما لم يُولد المرء.
"نحن لا نندفع نحو الموت، بل نفرّ من كارثة الولادة التي يعاني الأحياء من تناسيها."
كان سيوران يزور المقابر بانتظام حيثُ مرّ هناك بلحظة إدراك مفاجئة صورت السلسلة الساخرة للولادة والفناء، فيقول: "كنت وحيدًا في تلك المقبرة المُطلة على القرية فدخلت امرأة حامل، لذا غادرتُ على الفور لكيلا أنظر إلى حامل الجثة هذه (المرأة وجنينها الجثة) عن كثب، وحتى لا اتأمّل التباين بين رحم ظالم ومقابر هدّها الزمان، ولا بين الوعد الكاذب ونهاية كل الوعود." إن سلسلة الولادة، والحياة والموت وِحدة لا يمكن نفضها ولا الفرار منها، فيعود سيوران إلى فكرة الكاتب الإغريقي سوفوكليس بأن أفضل ما قد يكون هو ألا يُولد المرء من الأساس.
في محاولة سيوران للتعامل مع الموت تعمق في الديانة البوذية لعقود حيثُ وجد أن محاولتهم لنكران الذات ما هي إلا وسيلة للتعامل مع كارثة الحياة والفزع من الموت، ولكن نكران الذات هذا كان غريبًا على مزاج سيوران المفعم بالحيوية دائمًا بالرغم من هوسه بالموت وانعدام الوجود. علاوة على ذلك كان سيوران يعلم أنه جزء لا يتجزأ من ثقافة الفلسفة الغربية، مؤيدًا للفردية الفاوستينية التي وضعت الأنا الفلسفية في مركز كل شيء، وكانت البوذية ضربًا غريبًا جدًا من الخيال لتكون مخرجًا بالنسبة إلى شخص غربي مُعادٍ لفلسفة الموت والحياة.
حصر سيوران هذا الشعور في صيغة منطقية أكثر وصُمّمت كذلك من أجل دحض الحُجة التي قدمتها الفلسفة الأبيقورية بصفة حاسمة، وهو: "لماذا نخشى مصير العدم، بينما هو لا يختلفُ عما وُلدنا منه في الأصل، فحُجة القدماء المُعادية للخوف من الموت غير مقبولة لتكون بمثابة ترضية للمرتابين منه، حالفنا الحظ في السابق بألا نكون موجودين في هذه الحياة، أما الآن فنحن هنا، ولأننا ذرة في الوجود فهذا الأمر يجعلُنا نتوجس خيفةً من محنة الموت. كلمة ذرة ليست بالكلمة المناسبة بما أن كل منا يُفضل نفسه على الكون ويساوي نفسه به في كل حال من الأحوال." الذين لم يولدوا من الأساس ليسوا كالذين فنوا بعد الحياة والموت، إذ تختلف الحالتان في النوع بغض النظر عن الكم فيهما من العدم. نحن مرتبطون بأنفسنا وبحياتنا الفوضوية بغض النظر عن مدى الإحباطات والخيبات التي قد نواجهها، فليس سهلًا أن تساعدنا الفلسفة في التخلي عن شبح الخوف من الموت، كما لن يكون الموت مُرحبًا به أبدًا.
"لا تُتيح الميتافيزيقا مجالًا للموتى".
لم يُفلح القدماء باعتقاداتهم في هذا الشأن كذلك، إذ أن التفكير بالموت ليس كتجربته، وأن يعتقد الفرد بأنه لا يخاف منه يعني أنه لم يمُت بعد: "يتقبل المرء الموت ولكن لا يتقبل ساعة موته، ويتقبل أنه سيموت في أي لحظة، إلا عندما تحين لحظة موته!" وبمتابعة ما بحث فيه سيوران من أعمال الفلاسفة والمتصوفين والحكماء، نجد أنه يختصر المسألة على مضض بقوله: "لا تُتيح الميتافيزيقا مجالًا للموتى". تعتبر الفلسفة بكل ما فيها من ضعف وهشاشة بمثابة لعبة للأحياء. فالموتى لا يتفلسفون ولا يمكنهم سماع تفاهات أولئك الفلاسفة الذين لا يزالون على قيد الحياة.
لم يجد سيوران السلوى في تأملاته، بل كانت مجرد تأملات لا محدودة في الموضوع ذاته: "في كل مرة أفكر في الموت أشعر وكأنني أخون شخصًا ما وأخدعه في داخلي." وبعد عقود من تفكير سيوران في الموت والتأمل الكئيب فيه والكتابة عنه، اضطر أن يعترف بالهزيمة، فقد كان يظنُ في بداية رحلته الفلسفية بأن العقل عاجز أمام الموت، وبعد تفكير دام طوال حياته تأكّدت ظنونه: "أن تمضي سنين من عمرك، بل حياة كاملة في التأمل بشأن اللحظات الأخيرة من عمرك، لكي تكتشف عندما تحين لحظة وفاتك أن ذلك لا يُجدي نفعًا، فالتفكير في الموت مفيد في كل شيء إلا في الموت نفسه!".