السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:15 صباحاً
لماذا قراءة "المحاكمة" لكافكا تريح مرضى السرطان وتثري عمل أطباء الأورام؟
"موعد التشخيص؟ هل تقصد يومًا محددًا؟"
تنهّد العجوز البشوش المصاب بسرطان الرئة المتقدم، وتوقّف قليلًا، نزع نظارته، وخلّل بأصابعه شَعره ولحيته، ورمقني كمن يود معرفة أيمكنني متابعة أفكاره.
"كافكا المرعب!، هذا كل شيء إذًا!".
لقد كان سروره واضحًا من هتافه على أنه لم يساعدني كثيرًا. حدق في عيني، وشعر بارتباكي وحيرتي، تنهّد ثانية، لكنه لم يكن عبوسًا ولا متغطرسًا هذه المرة، بل ربما شعر بخيبة لأنني لم أستطع مشاركته لحظته الهانئة في العثور على تعبير مناسب.
إن القيام ببعض المهام أكبر تحدٍ من إلقاء الأخبار السيئة لاسيّما إذا تردد المريض عن الخوض في الكلام، لكنها فرصة مناسبة للابتداء معه في الحديث عندما يسألك سؤالًا، ولعلّ ما صعّب حالنا أن سؤاله كان عن وقت التشخيص فقط.
أشار العجوز المحبوب والمولع بالقراءة إلى أسلوب محددٍ من أعمال كافكا: "إلى ... بعض الحالات التي تتغلب فيها البيروقراطيات على الناس، وغالبًا في بيئة خيالية سريالية تثير الخشونة والارتباك والعجز". وأردف يقول: "لا شكّ أنك تعرف أن عديدًا من الفحوصات والمعلومات المربكة في الأسابيع الأخيرة تذكرني بكلمات كافكا في عمله الشهير "المحاكمة" وأخصّ كلماته :"إنّ الحكم لا يصدر فجأة، بل تستمر المحاكمة شيئًا فشيئًا حتى يتوصّلون إليه".
وأخذ يقصّ عليّ: "بداية؛ كنت أعاني من السّعال، ولم يكن شيئًا غريبًا علي، ولكنه زاد في الأشهر الأخيرة. وفي يومٍ ما، بعد أن تعثرت وكُسِرت إحدى أضلعي، استشرتُ الطبيب العام، وأظن أن "المحاكمة" بدأت عندما سطعت تلك الأشعة السينية على إضاءة غرفة الطبيب العام الخلفية.
كان "الأثر" واضحًا، وطُلبت الأشعة المقطعية في ذلك الأسبوع نفسه، وتحدد "الورم" أسفل الرئة اليمنى.
"نصحني الطبيب بتجاهل الأمر قبل أن تتوفر نتائج أشعة الخلية؛ فالعينات ستؤخذ في اليوم التالي. لقد عشتُ أوهامًا مفزعة حقًا، بما فيها الموت المريع. كيف يمكنني تجنب هذه الأوهام بعد فقدان الأصدقاء الذين بدأت الأشباح والأورام "بمحاكمتهم" حتى الإعدام؟ - ها هي محاكمتي بدأت – وأرهقت أيامي وأفكاري".
"…وبلا اقترافه أية خطأ، قُبض عليه في صباحٍ ما".
" لقد حاول طبيب آخر أن يسرّع "محاكمتي" بعد أن أخذ عيناتٍ من هذه الخلايا ووضعها في أنبوب أدخله في ممراتي الهوائية حتى يتثبّت من مكان الورم أو يستبعده. كنت أتعلم مصطلحات جديدة كل يوم، وبعد يومين أخبروني بالنتائج: ليست هناك خلايا خبيثة."
"هل توقف رأسي عن الدوران الآن؟ هل انتهت المحاكمة؟ هل أُفرج عني؟ أظن بأنها الراحة."
"لم يشعر هذا الطبيب بأن الحال قد انتهى، فقد أخبرني بأنه: "في بعض الحالات، يندر الوثوق بعلم الخلايا، ولكي نتأكد منها نحتاج إلى خِزعة"، ثمّ حجزوا موعدًا في اليوم التالي.
"ليست ضرورة قبول الأشياء وكأنها حقيقة، حريّ قبولها وكأنها أمور ضرورية".
"كان النسيج السرطاني تحت مجهر الطبيب الشرعي، والذي شخّص حالتي -حاكمني- بطريقة يصعب النّظر فيها مرة أخرى"، _وبعينيه الممتلئتين بالدموع قال: "كان الإحساس الأول الذي انتابني إحساس الراحة، ولم تكن بسبب جهلي تأثير هذا المرض الخطير، بل لأنني أنتظر صدور الحكم أخيرًا.
حوّلوني إلى هذا المستشفى، وشعرتُ بأن محاكمتي ستستمرّ هنا أيضًا، شرح لي الطاقم الطبي ضرورة أن يتحلّى المريض بالصبر، وأن عددًا من الأطباء يتابعون حالتي، ليتأكدوا من أن المحاكمة تسير في مسارها الصحيح.
"كنت أدخن قبل التقاعد سنوات طويلة، ومشاعر اللوم تعتريني الآن من يوم لآخر، وعلى أنّ أفكاري مشوشّة، ومحنة الأسبوع الماضي أحبطتني؛ فلم أعد أشعر بالفرح أو الحزن، إلا أن الأطباء هنا يعرفون الحال، ولكن كما هو في "محاكمة" كافكا؛ لا أحد يخبرني بالحكم."
"جوزيف: نحن هنا بشر، وكلّنا متشابهون"
الكاهن: نعم صحيح، ولكن هذه طريقة المذنب في الكلام!
جوزيف: "هل تظنّ أني مذنب؟"
الكاهن: "لا أستطيع الظّن فيك."
جوزيف: شكرًا لك، ولكن كل واحد في هذه المحاكمة يحمل شيئًا ما ضدّي ويتصوّرني مذنبًا. إنهم يؤثّرون حتى على من ليس معني بها، إن حالتي تزداد سوءا.
الكاهن: لعلّ الحقائق بعيدة عنك، فالحكم لا يصدر فجأة، بل تستمر المحاكمة شيئًا فشيئًا حتى نصل إليه.
جوزيف يهز رأسه موافقًا.
يُشخّص مرض السّرطان غالبًا على أنه خطير ومرعب، ويصف بعض المرضى أتعس أوقاتهم وقت معاناتهم منه. لم تخف صدمة تشخيص المرض فحسب، بل تفاقمت بتجاهل الأطباء الذين صعب عليهم إدراك تحوّل الإنسان الصحيح السليم إلى إنسان آخر مصاب بالسّرطان، إن تواصل الأطباء بهذه الطريقة المفزعة قد يحوّل المستشفيات إلى بيروقراطية لا إنسانية فيها عبر من يمثّلون العلاج.
تجاوزت العملية الكابوسية المرعبة والمخيفة قدرة تحمّل البطل الذي اشتكى من كوابيسه المفزعة وضعف حيلته. ربما لم يكن يعاني من اضطراب حاد بسبب صدمته تلك، ولكنه بطريقة ما كان يعاني من ضيقة شديدة.
إن القسوة والجلافة في التعامل مع المرضى قد تتعب الأورام أيضًا، فعدم احتواء مخاوف المرضى، أكان ذلك بسبب ضيق في الوقت أو افتقارٍ للجرأة والتعاطف، يقلل من قيمة الأطباء ويحوّلهم إلى مجرد عناصر وعملياتٍ غير مجدية، وعرضة للانهماك والإرهاق، تلك الأعراض التي ذكرها قرابة نصف الأطباء في الولايات المتحدة.
إن محاولة تقدير قصّة المريض ووضعها فيما يناسبها من إطار لهي مهمّة ومجدية للمريض وللطبيب ولما بينهما، فالابتعاد عن التواصل الكابوسي (ستعرفه بعد قراءة محاكمة كافكا) قد يريح المرضى المحبَطين ويثري عمل أطباء الأورام القاسين، وهكذا سينزاح الضغط عن المرضى ويقل الإجهاد على الأطباء، يشرح كيركيغارد (1855-1813) أهمية فهم الحالة الصحية للمريض بدقة في قوله: "إذا كان الإنسان يعنيه النجاح حقًا أثناء توجيهه أحدهم إلى مكان معين، فيجب عليه أولًا، وقبل كلّ شيء، أن يعتني بالعثور على ذاته أين تكون، ثمّ من هناك يبدأ، هذا هو جوهر فنّ المساعدة".