السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:50 صباحاً
ما هي وظيفتك؟ أنا ميكانيكي.. وفلاح، عادةً هو أول سؤال نطرحه على الآخرين، فالطريقة الأولى التي نُعرِّف بها أنفسنا تنطوي على أفعالنا لكسب المعيشة.
طُلب من مجموعة طلاب يدرسون بروضة أطفال بأن يعرّفوا عن أنفسهم، بإكمال الجملة التالية: "أنا ..." فأشار أكثر من نصف أولئك الطلاب، الذين لم يتجاوزوا الخامسة من عمرهم، إلى أنفسهم بمهن مختلفة: أنا شرطي، طيار، مصفف شعر، سائق حافلة، اثنان من بقية الأطفال عرّفّا نفسيهما بالحيوانات؛ كالأفعى والكلب. والأغرب من بينهم أن أحدهم عرّف نفسه بكاميرا مراقبة سرعة السيارات، وعرّف عدد قليل من الأطفال أنفسهم كما هم ببساطة: أنا طفلة صغيرة، وأنا لوكا، وأنا إيثان.
هل نحن ما نفعله؟ وهل هُوّيتنا مرتبطة بدعمنا للمستوطنات البشريّة، ما إذا كانت على حساب ارتفاع الأرقام، أو تشييد العُمران، أو حفر الأراضي، أو قيادة الطائرات؟ وإذا لم نكن ما نعمله، فمن نحن حقًا؟
كان صامويل سمايلز المُصلح الحكومي البريطاني أحد أوائل محفزي "المعونة الذاتية" في كتابه الذي يحمل نفس العنوان في منتصف القرن الثامن عشر، وقد استخدم هذا المفهوم تحديدًا "من الفقر للغنى" من أجل تسخير الطبقة العاملة والمتوسطة لدعم الصناعة. فقد كان هذا الكتاب مليء بالأمثلة لفقراء من أصول معدمة سعوا إلى النجاح بانخراطهم في العمل الشاق والتزامهم بأخلاقيات العمل.
لقد كانت نصيحة سمايلز مُجدية لأولئك الذين يسعون إلى الارتقاء في السلم الاجتماعي: استيقظ مبكرًا، وركز على ما بين يديك، واعمل ثمّ اعمل ثمّ اعمل.
يعلق المؤرخ بيتر ستيرنز على الكمية الهائلة من المقالات في الصحف والكتب والمجلات والمنشورات في أهميّة العمل الشاق التي نُشرت منذ بداية القرن الثامن عشر فصاعدًا، قصة يتبعها قصة عن أولئك الذين بنوا حياتهم الناجحة بالعمل مثل: روبرت دوجلاس الذي بدأ تجارته في صنع الحلوى وعُرف في كل الأنحاء بكفاءته. يقول ستيرنز في كتابه "من النفور إلى الإدمان": "خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر أصبحت الترانيم في تمجيد العمل الشاق شيئًا مألوفًا، وقد كانت فضائل العمل تُغرس في نفوس الأطفال حتى آل إلى إيمان الجميع بأن بذل المرء أقصى جهده يجعله خالقًا لمصيره... حتى أصبح من الصعب أن يُفلت المجتمع من تأثير هذا الفكر."
أشار سمايلز -الناشط في المعونة الذاتية- إلى العمال بأنهم جنود نبلاء ويساهم عملهم -سواء كانوا يعملون في مصانع أو أي مكان آخر- في سَعَة عيش الأمة ورفاهيتها كما فعل العظماء في التاريخ، ويقول: "إن التطور الوطني هو نِتَاجُ الصّناعة الفردية والطّاقة والإخلاص، بينما يكون التّدهور الوطني هو نِتَاجُ الكسل الفردي والأنانّية والفساد"، كما صورَّ الصّناعة بأنها صلاح وأن الكسل شرٌ واستغلال، ومن هنا انطلقت منزلة الصّناعة والعمل الجديدة.
لم يجتهد سمايلز وحده في تقديس منزلة العمل، فكانت الصحف تؤيد تلك الأفكار كذلك في نفس الفترة التي نُشر فيها كتابه، إذ أعربت إحدى صحف ماساتشوستس بأن الرجال والنساء العاطلين هم سبب هلاك الأمة: "وببساطة فإنهم لا يدهنون سير عجلة المجتمع بل يجعلونه عرضة لحوادث الجرائم والفقر عاجلًا أم آجلًا ... ويجب أن يكون شعار كل عائلة في المجتمع هو: كن شيئًا يُذكر، وافعل شيئًا ذا قيمة، واكفِ الناس من أعبائك."
كانت وجهة نظر سمايلز والصحافيين الآخرين في الأيام الأولى من الثورة الصناعية (الفترة التي كان فيها حاجة ماسة إلى العاملين في المصانع) تناقض وبشكل واضح للفلسفة الإغريقية والرومانية والتي كانت تدعو إلى تجنب العمل بشتى الوسائل، فقد كان فلاسفة الإغريق يؤمنون بفضل البطالة لا العمل، وأن الهدف من الحياة هو شغل وقت الفراغ في أنشطة تطوير الذات مثل: التعلم والفنون والأنشطة السياسية. وبالفعل تشير مفردة "الفراغ" باللغة الإغريقية "skholē" وهي جذر الكلمة الإنجليزية "school" والتي تعني المدرسة؛ فوقت الفراغ آنذاك كان وقتًا لتبادل الآراء وللتعلم.
اتفق العالم الإنجليزي على أن الاجتهاد في العمل قد يرفع من مكانة المرء الاجتماعية، أما في العالم الأوروبي فلم يكونوا على اقتناع تام بذلك، فيقول ستيرن في كتابه: "في نهاية القرن التاسع عشر وحتى الآن يُغالي الأمريكان في رفع مكانة المرء الاجتماعية حسب اجتهاده وكفاءته أكثر من الأوروبيين، فلا يزال الكثير من الأوروبيين يظنون أنه لا يمكن التغلب على حدود الطبقات الاجتماعية بالجهد الفردي."
على الرغم من أن تمضية ساعات طويلة من وقتك في المصنع أو المعمل أو المكتب أو الاستوديو قد لا يضمن لك سلطة اجتماعية بأي شكل - كالتأثير على قيم المجتمع والحروب والبنية التحتية والتعليم وغيره - ولكنها تًهٍبُكَ نوعًا من السلطة أو المكانة الاجتماعية الوهمية عندما تشتري مختلف السِلع من مالك الذي اكتسبته من العمل؛ فقضاء وقت أطول في العمل يعني شراء مزيد من السلع، وقد "تصور" بعض المشتريات - كالسيارات الفارهة أو المناطق السكنية في وسط المدينة - المرء بأنه ذو سلطة اجتماعية وإن كان في الواقع لا يملك أي سلطة. إذ يعتقد أغلب الناس في المجتمع الحديث بأن هذا المقابل جيدٌ بما يكفي.
يُطلق مصطلح "الفلسفة الذرائعية" عندما يصبح العمل أداة لبلوغ مستوى معيشي أفضل بدلًا من أن يكون وسيلة لاكتشاف الحياة، وحينها قد لا يكون للعمل مغزى ولا يطورك على الصعيد الشخصي ولا فائدة منه، ومن المحتمل ألا تعرف ما الذي تفعله بالضبط ولكن لا يهم ذلك، فالعمل يعني الحصول على المال الذي نشتري به الأشياء. فتجد كثيرًا من الناس اليوم لا يشغلون الوظائف بالنظر بعناية إلى وصف العمل (ما الذي سأفعله بالتحديد؟) بل تبعًا للراتب ونظام المكافآت، فاعتدنا على سماع هذه الجملة:"كنت سأقبل بالوظيفة إلا أن الراتب لن يكون أعلى مما أتقاضاه الآن".
ينبغي أن نحظى بالأوقات الرائعة في ساعات فراغنا وذلك بسبب هوسنا بتحقيق مستوى "معيشي أفضل" من خلال العمل، فهي العلاج الشافي من ذلك الكدح، فتجدنا أكثر من أي وقت مضى نهربُ من الواقع بغمر أنفسنا بمشاهدة الأفلام ونسابق الزمن ونختار أفخم الفنادق وأكثرها رفاهية وراحة، أصبحنا نحتاج إلى شرب أغلى أنواع المشروبات وأن نأكل في المطاعم (على الأقل مرتين أسبوعياً) من أجل أن ننجو من وحل العمل، وأن نتعايش مع وضعنا. يذكر العالم النفسي الألماني والمحلل النفسي إريك فروم في محاضرته بعنوان معضلة الفائض في عام (1970م): "إذا سألت أولئك الأشخاص الذين يستهلكون الآن الخمور ويسافرون في العطلات ما إن كانوا تعساء أو يشعرون بالضجر من حياتهم فسيجيبون: "لا أبداً، نحن في أتم السعادة ما دمنا نسافر ونأكل الطعام ونمشي في الأسواق ونشتري لأنفسنا أكثر فأكثر، كيف يسأم المرء من ذلك!" ويوضح العالم النفسي أن هذا النوع من الناس شخص سلبي، وفارغ ومنعزل، ويشير إليهم بـ"الرُضع للأبد"، فهم لا ينتظرون قنينة الحليب فحسب بل يرون أن كل شيء يتمثل في هذه القنينة." الشخص المهووس بهذا النظام المعيشي شخصٌ مستهلك، والشخص الذي يغريه الاستهلاك يكون مهووسًا ويتحول إلى شخص غير فعّال يأخذ ما هو أمامه ولا يعطي لنفسه فرصة تجربة كل شيء في الحياة".
صحيح أن العمل غالبًا ما يكون كريهًا ومملًا وروتينيًا وغير ملهم، ولكن هل هذه "مهمة" العمل فعلاً بالنسبة لنا؟ ألا يمكن للغايات تبرير الوسائل؟
أما ويليام موريس مصمم الأنسجة البريطاني والمؤلف له رأي مختلف، إذ يعتقد بأن العمل من أجل توفير موارد المعيشة لا يزكيه ولا يجعله بتلك الأهمية، "لقد أصبح متأصّلاً في فلسفة الأخلاق الحديثة بأن العمل خير في ذاته، وإنها لفكرة سارّة لأولئك الذين يعملون في كنف الآخرين، أما أولئك الذين يستمتعون بحياتهم، فنصيحتي لهم ألا يثقوا فيها، وأن يتفكّروا في الأمر كثيرًا."