السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 1:16 صباحاً
أثار النزاع القانوني بين دور حفظِ الوثائق الألمانية والدور الإسرائيلية لأعمال كافكا التساؤلات الأدبية والقانونية معًا.
عندما قدم أحد المعجبين لكافكا مجلداً مكرساً لقصصه الثلاث كانت ردة فعل كافكا قوية فقال: "إن خربشاتي ... ليست سوى تجسيد لمخاوفي أنا، لم يكن من المفترض نشرها من الأساس، بل ينبغي حرقها." ومع ذلك كان يظن كافكا أن لا غاية له في الحياة سوى الكتابة: "خُلقت من الأدب، ولن أصبح إلا كاتباً"؛ من الواضح أن تناقض كافكا حيال أعماله كان ناتجاً عن شك متأصل بشأن نفسه، فهل كان يحق له أن يفرض خيالاته المخيفة على العالم؟ كان يقول: "إن لم يكن بوسع المرء أن يداوي، فليلتزم الصمت. فلا ينبغي للمرء أن يسمح لليأس الذي يُخيم على نفسه بأن يدهور حالة العليل."
والعجيب أن عنصر اليأس في أعمال كافكا المتجلي في شخصياته هو ما جعل من أعماله بارزة في قلب أدب القرن العشرين، فمثلاً شخصية غريغور سامسا الذي يستيقظ ذات صباح فيجد نفسه ممسوخ إلى حشرة، وشخصية جوزيف الذي يُدان في محكمة غير رسمية لجريمة يجهلها، حيثُ أصبحت من الشخصيات المعاصرة المتكررة. إذ يرى ويستن هيو أودن أن كافكا نجح في تصوير جوهر القرن العشرين المنفر والغريب في أعماله كما فعل دانتي وشكسبير في عصريهما.
لو كان بإمكان كافكا أن يقرأ كتاب بنجامين بالنت الدرامي والتثقيفي الجديد بعنوان محاكمة كافكا الأخيرة الذي يتحدث عن مصير أعماله سيندهش بلا شك إذا عَلِمَ بأن "خربشاته" آل بها المآل بأن أصبحت ذات قيمة، ليس من الناحية الأدبية فحسب بل ومن الناحية المادية والجغرافية السياسية كذلك. يطرح الكتاب في لُبهِ قضية الحقوق الملكية لبعض من أعمال كافكا التي نجت من الضياع وأصبحت ملكية خاصة في حوزة أحد الأشخاص في مدينة تل أبيب، إذ تناولت أيدي النظام القضائي الاسرائيلي هذه القضية لسنين عدة، وبسبب انتشار هذه القضية بشكل واسع في وقتها انتهى المطاف بأن تؤخذ تلك الكتابات من المرأة المسنة إيفا هوف التي كانت تمتلكها وتُمنح إلى المكتبة الوطنية العبرية في عام 2016م.
ويذكر بالنت أن القضية تتعلق بما هو أكثر بكثير من تفرعات الإرث والقانون، وتثير تساؤلات مهمة في جوانب تخص الجنسية والدين والأدب وكذلك حادثة محرقة اليهود -التي أُحرقت فيها أخواته الثلاث والذي كاد أن يكون مصيره فيها لولا أنه توفي قبلها في شبابه بمرض السل- فقد ورثت السيدة هوفي المخطوطات من أمها استير حيثُ منحها إياها صديق كافكا المقرب ماكس برود وهو من وكّله كافكا ليُنفذ وصيته المتعلقة بأعماله الأدبية، إذ خططت السيدة هوفي لبيع هذه المخطوطات إلى أرشيف ألمانيا الأدبي في مارباخ حيثُ ستُضم تلك الأعمال بجانب أعمال كبار الأدب الألماني، وكانت تلك الخطوة ستقود إلى ثورة في الثقافة الألمانية وتأييد ضمني بأن كافكا يُعتبر كاتباً ألمانياً بالرغم أنه لم يكن مواطناً ألمانياً قط بل يهودياً ولد في مدينة براغ وترعرع فيها، لذلك احتجت المكتبة الوطنية العبرية لاسترداد مخطوطاته بحكم أن كتاباته تعد جزءاً من التراث الثقافي اليهودي. (وبالتالي فهي تنتمي إلى الكنف اليهودي)
لم يكن من المحتمل أن يحظى كافكا بسمعة واسعة عند وفاته عام 1924 م وهو في عامه الأربعين، كانت سمعته بسيطة في الأوساط الأدبية في ألمانيا ولم يكن كاتباً محترفاً قط، فقد كان يعمل كمحامي لدى شركة تأمين وقد كان يكره هذه الوظيفة بالرغم من أنه كان محامياً جيداً، فقد نشر بعض القصص في المجلات كمؤلفات قصيرة، وبالرغم من أنها تضمنت بعض روائعه مثل: المسخ و في مستعمرة العقاب و فنان جوعب إلا أنها لم تحظَ بالتفاتة كبيرة عندما نشرت، بينما رواياته المهمة المحاكمة والقلعة ظلت على هيئة مخطوطات دون أن تنُقح أو تُنشر للعلن.
عُرف عن كافكا أنه كان يسعى إلى عدم نشر كتاباته، فبعد وفاته كان يوظب برود مكتب كافكا، فوجد رسالة كتبها له قبل أن توافيه المنية يوصيه فيها بحرق جميع مخطوطاته من ضمنها رسائله ويومياته، ولكن برود كان شديد الإعجاب بكافكا، ورفض تنفيذ رغبة صديقه، وبدلاً عن تنفيذ الوصية كرّس بقية حياته لتنقيح أعماله ونشرها وتسويقها، بل وأنه كتب رواية عنه حيثُ كان كافكا مُخبئاً خلف ستار أحد شخصياتها باسم ريتشارد غارتا، وبهذه الطريقة لم يُخلّد برود كافكا فحسب في تاريخ الأدب بل خلد نفسه كذلك، وعلى الرغم من كونه كاتباً ناجحاً إلا أنه تقريباً لا يُذكر اليوم إلا بدوره في قصة كافكا.
فقد كان النقاش حول تصرف برود بالوصية ما إذا كان أخلاقياً أم لا بتجاهله لرغبات كافكا الأخيرة أحد أهم النقاشات على مدار التاريخ الأدبي وكما أنه المحور الأساسي في كتاب بالنت حيث قال فيه: "لم يكن برود هو الشخص الوحيد الذي يواجه مثل هذه المعضلة"، فقد رغب فيرجيل أن تُحرق ملحمته الأنيادة بعد وفاته وكان مصير هذه الوصية هو التجاهل كذلك. إن الاحتفاظ بأعمال المؤلف خلافاً لرغبته يعني أن الفن مُلك للجمهور لا الفنان، وبالتحدث من جانب المنفعة البحتة فإن برود بلا شك قد اتخذ الخيار الصائب، فنشر أعمال كافكا بعث المتعة وثقف عدد لا يُحصى من القراء (ووفر فرص العمل لمئات من المتخصصين في أعماله)؛ في حين أن حرق تلك الأعمال كان سيُلبي رغبة رجل ميت فحسب.
قد يتساءل المرء هل كان كافكا الرجل الذي يظن أنه خُلق من الأدب يود فعلاً أن تختفي كتاباته؟ ففي الحقيقة إذا قرأت وصية كافكا بتعمق ستجد بأن طلبه غامض وله تفسيرات عدة كأي شيء آخر كتبه، لا سيما أنه في وصيته فرقَّ بين أعماله غير المنشورة وتلك التي نُشر منها إذ أشار إليها تحديدًا بقوله: "أعمالي الجيدة" وكما أضاف: "لا أعني بأني أود أن تُعاد طباعتها،" ولكن "لا أمانع بأن يحتفظ بها أي شخص يريد ذلك". بدا كافكا في رسالته وكأنه يؤمل بأن يجد قراء لكتاباته، ولابد أنه اختار برود كمنفذ لهذه الوصية بالذات لمعرفته بأنه لن يتخلى عن مخطوطاته ولن ينفذ توجيهاته، بدا الأمر وكأن كافكا يود أن يورث كتاباته للأجيال القادمة ولكنه لم يرغب بتحمل مسؤولية ذلك. يذكر بالنت في كتابه: "كان كافكا يعاني من التردد حتى في تخليه عن ذاته."
من جانب برود لم يشك في أهمية كتابات صديقه نجح في إيجاد دور نشر للعملين المحاكمة والقلعة في العشرينات من القرن التاسع عشر، إلا أن هذين العملين لم يجدا قبولاً كبيراً من القُراء إلا في الثلاثينيات. وفي نهضة الحركة النازية تيقن القراء بأنهم يعيشون في عالم كافكا بما فيه من القوانين الباطلة والعنف الذي لا تفسير له، حتى أن النازية المعادية للسامية حرمت نشر هذه الكتب في ألمانيا.
هرب برود من تشيكوسلوفاكيا في الليلة التي أعلن النازيون استيلائهم عليها وانضمامها لدولتهم في عام 1939م من شهر مارس، حيثُ وصل إلى تل أبيب ومعه مخطوطات كافكا وعاش فيها حتى نهاية حياته عام 1968م وقد كان صهيونياً ملتزماً. يشير بالنت بأن برود عانى كأي مهاجر من ألمانيا لكي يقف على قدميه مجدداً في فلسطين، حيثُ تجاهله المجتمع المحلي وذلك لاهتمامهم بالأدب العبري فقط، الأمر الذي أضاف على معاناته هناك. وكما ذكر بالنت أن أعمال كافكا لم تلقَ رواجاً في اسرائيل كما لاقت في أوروبا والولايات المتحدة.
كان العلماء الألمان خلال تناول القضية يحاجون أنه من الأجدر جلب مخطوطات كافكا لألمانيا حيث ستُدرس بشكل مكثف عوضاً عن أن تترك حبيسة الرفوف في القدس. فمن إحدى الآراء المُعارضة التي دحضت حجتهم بأنه سيكون مخلاً بالأدب أن ينتهي المطاف بما تبقى من كافكا في الدولة التي أبادت عائلته، ويقتبس بالنت عن عالم إسرائيلي الذي ذكر في تصريحٍ جارح: "لا يُذكر بأن للألمان سوابق مُشرفة في تولي ما يخصُ كافكا، فلم يتولوا حياة أخواته بصفة كريمة." ولكن قضية الاحتفاظ بما ترك كافكا في اسرائيل أخذت مساراً معقداً وتضمنت حكماً أدبياً بجانب الحكم التشريعي، ويذكر بالنت: "أكد القضاة بأن كافكا كان كاتباً يهودياً،" عندما مُنحت مخطوطاته للمكتبة الوطنية العبرية ولكن السؤال الحقيقي الذي يتمحور حوله كتاب محاكمة كافكا الأخيرة: هل كان كافكا كاتباً يهودياً؟ وما الذي قد نستفيده أو نخسره إذا قرأنا أعماله بمنظور يهودي؟
بالنظر إلى حياة كافكا نجد أن اتباعه للديانة اليهودية واضح، فقد ولد في عائلة يهودية وعاش في مجتمع يهودي محاطاً بالمعادين للعرق السامي الذين اتسموا بالعنف في بعض الأحيان وبالرغم من أنه كان قد نشأ بخلفية يسيرة عن اليهودية إلا أنه لاحقاً أبحر في اهتمامه بالثقافة اليهودية. كان تأثير مسرح الايديش والقصص الحسيدية الشعبية عميقاً في أعماله، وفي آخر سنواته كان يحلم بالانتقال إلى فلسطين حتى أنه كان يعتدّ لذلك بتعلم اللغة العبرية. (كان دفتره الذي يتعلم فيه اللغة العبرية أحد الأشياء التي ورثتها ايفا هوفي)
ولكن إن لم تكن تعلم مسبقاً أن كافكا كان يهودياً فلن تجد في أعماله أي تلميح على ذلك، فلم يكتب كلمة "يهودي" قط في رواياته وكانت تتمتع شخصياته بصفات عامة فمثلاً يمكن لأي شخص بأي مجتمع متحضر أن يكون مثل شخصية جوزيف. وعلى الرغم من ذلك فإن كثيرًا من القراء اليهود -من ضمنهم الناقد والتر بينجامين وهارلود بلوم- يجدون أن أعماله نابعة ومتأثرة بحياته بين اليهود في المنطقة الوسطى من أوروبا، فقد كان كافكا من جيل يهودي منفصل عن الجهة الشرقية من أوروبا التي كان يتحدث أهلها اللغة اليديشية، ولذلك لم يتمكن من الاندماج في الثقافة الألمانية تماماً التي كانت تعادي اليهود وتزدريهم. كتب كافكا إلى برود رسالة يذكر فيها أن الكاتب الألماني اليهودي -في تشبيهه بذات الأربعة قوائم- كأنه: "عالقٌ بقدميه الخلفيتين الصغيرتين في موطئ ديانة أسلافه، بينما يتحسّسُ بقدميه الأماميتين بحثاً عن درب جديد، دون أن يعثر عليه قط."
وعندما تتمعن في الشخصيات بروايات كافكا ستجد أنها شخصيات متكررة في العالم الواقعي، كالقرد المقيد في قصته تقرير لأكاديمية الذي كابد ليتعلم كيف يتعايش في عالم البشر، وكذلك بطلة قصة جوزيفينه المغنية، أو شعب الفئران التي يساهم غناؤها ذو الطبقة الصوتية الحادة في التخفيف من تعاسة جماعتها المضطهدين، وكذلك جوزيف في المحاكمة الذي يُحكم عليه بقوانين غريبة لا يفهمها، إذ يستدل من كل تلك الشخصيات على معاناة كافكا كشخص يتبع الديانة اليهودية. وتبعاً لما ذُكر نقول أن هوس كافكا بفكرة القانون وارتباكه أمام الأنظمة القانونية التي تُطبق بشكل غامض هو نتاج إحساسه بأن القانون اليهودي قد تلاشى بلا أمل.
إلا أن عبقرية كافكا تكمن في تصوير تلك التجارب من الحياة اليهودية من خلال نصوصه أو ما يسميه بالنت إحساس "التشرد وعدم الانتماء الجموح" وكأنها شبيهة بالتجارب في العصر الحديث كذلك، ففي القرن العشرين أصبح الانسلاخ من التقاليد والتلاعب بها من جانب جهات معادية والتعرض لوطأة العنف المفاجئ أمرًا يحدث في كافة ارجاء العالم تقريباً. إذ تحول اسم كافكا إلى صفة بمعنى الرسول الذي يتكهن بتلك التجارب التي يُخبئها القدر للناس، وكانت أعماله في نظر برتولت بريشت عبارة عن تنبؤات داخلية يصف بها: "معسكرات الاعتقال في المستقبل والتنبؤات حول عدم الاستقرار القانوني ... وحياة كثير من الناس بما فيها من تخبط وإحباط دونما دافع." وفي الختام لا يُهم ما إن كانت أعمال كافكا موجودة في ألمانيا أو إسرائيل، ما يُهم هو أننا جميعاً نعيش في عالم كافكا.