الأحد , 10 نوفمبر 2024 - 8 جمادي الأول 1446 هـ 6:40 مساءً
الحياة كما المسرحيات جوهرها الخيال
يقول البطل بروسبيرو العبارة الشهيرة في نهاية مسرحية العاصفة: "لأننا كسائر الحالمين يسيطرُ الخيال على حياتنا القصيرة كأننا غاطّون في نوم عميق يشلّ حركاتنا."، يمكننا أن نقول بأن فلسفة شكسبير تتمحور حول الشعور بوهمية الحياة وارتباط الخيال بالواقع ارتباطًا وثيقًا، أو كما يذكر كولين ماكغين مؤلف كتاب شكسبير والفلسفة: "إن مذهب الشكوكية هو المحور الرئيس لأعمال شكسبير"، في تصوير "احتمالية ورود الزلة بأي شكل كانت من البشر والكون"، إذ يصورُ شكسبير في أعماله الخيال جوهر الحياة كما في المسرحيات، وأن مهمة الفرد فيها أن يسير على هدي ذلك الإدراك.
بالطبع لم يكن شكسبير فيلسوفًا حاذقًا بل كانت مهمته دائمًا هي كتابة التمثيليات. في عام (1817م) ذكر الكاتب والناقد الإنجليزي ويليام هازلت بأن شكسبير كان "فيلسوفًا جيدًا وشاعرًا عظيمًا في آنٍ واحد." ولعلَّ واجبنا خاصة بعد وفاته بأربع مئة سنة أن نستبصر في الطرق التي نقل فيها المؤلف الفريد والعبقري منظوره الفلسفي باستمرار.
بوسعنا أن نقول بأن مسألة التناقض بين الخيال والواقع هو الهدف الرئيس لدراسة الميتافيريقيا، وقد حثت هذه المسألة الفيلسوف كانت، وديكارت، وبيركلي، وهيوم وعدد من الفلاسفة الذين سبقوا سقراط مثل: بارمينيدس، وفيثاغورس وأفلاطون، كما قال ألفريد نورث وايت هيد بشأنهم: "كافة الأعمال الفلسفية الغربية ليست سوى حبر على ورق." فإذا كان ألفريد على حق، فإن شكسبير قد سلط الضوء على هذه المسألة بأسلوب تنويري أكثر من غيره وشرح المسألة في أعماله وكتب النقد فيها، ففي مسرحية (سيمبلين) تمرُ إيموجين بلحظة أفلاطونية ساخرة وحزينة عندما تستيقظ بجانب جثة مقطوعة الرأس، وتقول: "أتمنى أنني في حُلم، ظننت بأنني أسكنُ في كهف" وهمهمت في كهفها الواقعي- الأفلاطوني: "توهم عقلي بأنها لم تكن إلا صاعقة انبعثت من العدم أصابت لا شيء. يُختم بعض الأحيان على أبصارنا بغشاوة تعمينا كما تُعمى بصائرنا."
وصُورت ذات الفكرة في الحوار الذي ألفه أفلاطون بعنوان "الجمهورية". ففي مَثلِ: الكهف الذي ضربه أفلاطون يُقارن فيه الفيلسوف واقعنا بالظلال على الحائط، إلا أن هناك معضلة لأي فنان يود أن يعبر عن هذا المنظور، فإذا كانت الحياة البشرية مجرد زيف، فممَ يُصنع العمل الفني؟ يتفقان أفلاطون وشكسبير إلى حدٍ ما أن الأدب عبارة عن منظومة من الأكاذيب، ولكن يظن الإغريق بأن هناك "نزاع قديم بين الفلسفة والشعر." إذ تناول شكسبير في مسرحياته الستة والثلاثين تساؤلات حول الخديعة والواقع والوهم والحياة والخيال من أجل تجسيد التناقض الجوهري بين الحياة وصورتها.
فعندما تناول مكغوين عالم الهلوسة في مسرحية "حلم ليلة منتصف الصيف" بشخصياتها من العمال قليلي الخبرة وبحسها الرقيق، لاحظ أن هذه المسرحية بمجملها تدور حول "صعوبة التمييز بين الحلُم واليقظة، الوهم والواقع، ما يُتَخيل وما يُنظَر إليه عياناً." ويُعتبر هذا المحور الرئيس لعدة أعمال شكسبير، حيثُ يتمثل في وجود الشبح الغامض في مسرحية "هاملت"، وتمثال هرميون في خاتمة مسرحية "حكاية الشتاء" وغابة آردن المسحورة في مسرحية كما تشاء (يوحي عنوان هذه المسرحية بصلتها بموضوعنا). وفي ذات المسرحية يقول جاك: " إن العالم مسرح والناس فيه ممثلون – كل واحد فيه." ويمكننا أن نربط كلامه بالأدوار الاجتماعية التي نتخذها وأن نفسره بشكل أكثر تعمقًا، فيقول أنثوني نوتال في كتابه (شكسبير المفكر): "تظهر بوادر الأفلاطونية ضمن الفن الدرامي".
وبالرغم من ذلك فإن هذه الأفلاطونية يشوبها بعض الشكوكية، كما في قول ماكبيث الشهير: "ما الحياة إلا شبح يمرّ، أو هي كمثل شبحٍ رديء يخطر ساعة أو بعض ساعة على خشبة المسرح مزهوًا بنفسه، يرغي ويزبد، ثم يختفي للأبد." كان أفلاطون قلقًا من أن يكون الأدب مجرد نسخة باهتة للحياة، وفي الواقع لم يكن إلا كذلك لنظرية المُثُل، أما بالنسبة لشكسبير فيختلف معه بشكل بسيط، فيظن أن المسرح لا يصورُ حياتنا بل إن حياتنا شبيهةٌ بالمسرح، فكما يقول ماكبيث: بأن مسرحية حياتنا لا تعني شيئًا، فنحن الممثلون نملك القدرة على أن نضفي مغزى على أدوارنا، حتى وإن كانت أدوارنا لا تعني شيئاً بحدِ ذاتها.
يخالف شكسبير أفلاطون في شهادته على الفن والشعر ليثبت بأن القصص الخيالية أقرب للحقيقة من الحكايات الواقعية، وكما يقول مكغوين: "يمتدُ تأثير الخيال لفترة زمنية أطول من الماديات، فستُخلد مسرحيات شكسبير لفترة أطول من أي بناية شُيّدت في عهده؛ فإذا كان للخلود وجود فهو يُصاحب الشخصيات الخيالية لا الواقعية." وهذه هي المناقشة الرئيسة لميتافيزيقيا شكسبير، حيثُ لم ينشأ هذا المفهوم عن المؤلف المسرحي على الرغم من أن مسرحيته تضمنت أقصى قدر من الجانب الدرامي، قبل عدة عقود من بلوغ شكسبير ذروة مسيرته، وقد قال الناقد الأدبي سيدني فيلب المعروف من العصر الإيليزابيثي ما يشابه ذلك: "لا يؤكد الشاعر بشعره شيئًا ولا يأفكُ به."
وجود مثل هذا الرأي في أعمال نُقاد العصر الإيليزابيثي ليس أمرًا مُستغربًا من الناحية التاريخية، بل وينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار خشية أن يعتقد المرء بأن هذا المنظور تفرّدَ به شكسبير. لقد كان عصر النهضة في إنجلترا موطنًا لمجموعة متنوعة من الآراء الفلسفية التي لم تنعكس في مسرحيات شكسبير فحسب بل وكذلك في مجالات الأدب ككل في تلك الفترة.
عمدت المدرسة الأفلاطونية المحدثة القارّية والتي تعتبر أساس المشروع الإنساني القارّي على وضع سماتها بأسلوب الأفلاطونيين المحدثين في كامبرج، كما ظهرت الشكوكية بصفة مُذهلة في بعض أعمال الكُتاب مثل: مونتين وكذلك تناولها الأُدباء بصفة واسعة في أعمالهم، لم تكن التساؤلات حول الواقع، والخيال، والحقيقة والخديعة مرتبطة بالثقافة فحسب بل وجدت كذلك في المسرحيات الشهيرة، وتظل جهود شكسبير في اتباع هذا العرف هي الراسخة ثقافيًا.
يقول أنطونيو في رواية تاجر البندقية: "إنما آخذ الدنيا يا جراشيانو كما ينبغي أن تؤخذ الدنيا باعتبارها مسرحًا يلعب عليه كل إنسان دوره." وبالرغم من أنه تعبير مجازي إلا أنها فكرة صائبة وتوضح جهود شكسبير في تصوير محور "الأحلام ضد الواقع" المتجسد في مسرحياته، مثل: مسرحية العاصفة، وهذا هو جزء من سبب تميّز شكسبير عن غيره. وفسرَ مكغوين ذلك الأمر وصدق بقوله أن شكسبير كان: "متفردًا في اعتباره الشك كجزءٍ من الحياة وليس مسألة نظرية فلسفيةً فحسب تتعلقُ بعقول الآخرين."
أما بالنسبة لتنوع الأديب في المواضيع السردية، فما كان يفتأ شكسبير عن ربط أعماله ببراعة بمسألة الطبيعة الوهمية للواقع الملموس باستمرار، ففي نفس المشهد المسرحي المُقتبس مُسبقاً، في البداية يُحطم بروبيرسو الحاجز الوهمي بينه وبين الجمهور بقوله: "وهؤلاء الممثلون، كما قلت لك، ليسوا سوى أرواح وقد تفرقوا أيدي سبأ في مهب الرياح." ويقول دوق ميلان مشيرًا إلى موقع تمثيل المسرحية عندما تنتهي الخدعة السحرية في المسرحية: "والكرة الأرضية العظيمة، مثل كل ميراث تذوب وتضمحل كالملح في الماء" وبلا شك إن "الكرة الأرضية العظيمة" قد تشير إلى العالم برمته.
تعكس ميتافيزيقيا شكسبير آراء (ميتافيزيقيا بيكاسو) الذي كان يدّعي بدوره أن "الفن هو الكذبة التي تكشف لنا الحقيقة." ولكن بالنسبة إلى شكسبير فإن الحياة بذاتها نوع من التضليل. لا تعد قصيدة "ارس بويتكا" مجرد تصوير الكاتب المسرحي لخدعة واقعنا الماكرة بل وكذلك قريحته في اختلاقِ مثل هذه القصص المؤثرة تأثيرًا عميقاً، رغم أنها تُعتبرُ خيالية، وتصور مسرحيات شكسبير الستة والثلاثين مختلف التجارب البشرية والشخصيات، فيخلقُ عوالمًا جديدة ومذهلة بالكلمات وحدها حيثُ تجلت براعته في شخصية بروسبيرو، وتُعد مسرحياته بُرهانًا قاطعًا أنهى حُجته حول الخيال والواقع.