السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 1:14 صباحاً
سأقصرُ إجابتي على تناول أحد الجوانب الأساسية لهذا السؤال، وسأشير هنا إلى مبدأ واحد فقط، وهو مبدأ يناقض الفكرة السائدة اليوم والمسؤولة عن انتشار الشر في العالم، ويتمثل في: "أن على المرء ألا يتوقف أبدًا عن إصدار الأحكام الأخلاقية".
لا شيء يمكنه أن يتسبب في فساد شخصية الإنسان أو انهيار ثقافتهِ تمامًا مثلما يفعل مبدأ "اللاأدرية الأخلاقية"، وهي فكرة مُفادها أنه يجب على الإنسان ألّا يصدر أحكامًا أخلاقية على الآخرين أبدًا، وأن عليه أن يكون متسامحًا أخلاقيًا مع أي شيء، وأن الخير يكمن في عدم التمييز بين الخير والشر.
معرفة الخاسر من الرابح عند تطبيق مبدأ كهذا هو أمر جلي، فعندما تمتنع عن مدح فضائل الناس وعن ذم رذائلهم على حد سواء، فأنت بذلك لا تمنحهم معاملة عادلة أو منصفة، وهو ما يحدث أيضًا عندما يَظهر موقفك المحايد أنه لن يكون لديك في الواقع أي ردة فعل باتجاه الخير أوالشر، أي من تؤيد أومن تعارض؟
لكن إصدار الأحكام الأخلاقية يُعد مسؤولية عظيمة، فمن أجل أن يكون المرء حَكيمًا، عليه أن يتمتع بشخصية موثوقة، ولا أعني بذلك أنه يتعين عليه أن يتصفَ بالعلم الكلي أو أن يكون معصومًا من الخطأ، كما أنها ليست بمسألة أخطاء معرفية، بل يحتاج المرء إلى التسلحِ بنزاهة لا يمكن انتهاكها، أي عدم وجود أي انغماس في الشر عمدًا وعن وعي، ومثلما قد يخطئ قاضي محكمة عند عدم توفر أدلةٍ قاطعة، لكن دون أن يتفادى الأدلة المتاحة، وألا يقبل الرِشا، ولا يسمح لأي مشاعر أو عواطف أو رغبات أو مخاوف شخصية أن تعطّل تقييمه الذهني لحقائق الواقع، فإنه يجب أيضًا على كل شخص عقلاني أن يتمسك بنزاهة دقيقة ورصينة بالمثل داخل محكمة ذهنه، حيثما تعظم مسؤوليته عن مسؤولية قاضٍ في محكمة عامة؛ حيث أن القاضي هو فقط من يعرف متى يكون متهمًا.
مع ذلك، توجد محكمة استئناف يُرَاجع من خلالها المرء الأحكام التي يصدرها، وتتمثل في "الواقع الموضوعي"، إذ يقدم القاضي نفسه إلى المحاكمة في كل مرة يصدر فيها حكمًا ما، وفقط في ظل المذهب التعصبي والكلبي والذاتي اللاأخلاقي اليوم قد يتخيل الإنسان أن له مطلق الحرية في إصدار أي نوع من الأحكام غير العقلانية، ودون أن يتحمل عواقب ذلك، غير أنه في الواقع، يُحكم على المرء من خلال الأحكام التي يصدرها، فالأشياء التي يدينها أو يشيد بها موجودة في الواقع الموضوعي وهي مفتوحة أمام التقييمات المستقلة للآخرين، فهو يكشف عن شخصيته ومعاييره الأخلاقية عندما يلوم أو يمدح، فإن كان يشجب أمريكا ويمجد روسيا السوفييتية، أو إن كان يهاجم رجال الأعمال ويدافع عن الأحداث الجانحين، أو يذم عملًا فنيًا عظيمًا ويمدح ما هو رديء، فهو بذلك يعترف بطبيعة روحه.
ما يدفع معظم الناس نحو تبني موقف الحياد الأخلاقي العشوائي هو خوفهم من هذه المسؤولية، إنه الخوف الذي يمكن التعبير عنه بوضوح في مبدأ "لا تحكم حتى لا يُحكم عليك", لكن إتباع المرء لذلك المبدأ يعد في الحقيقة تخليًا عن المسؤولية الأخلاقية، أي بمثابة منح الآخرين حرية التصرف الأخلاقي في مقابل التمتع بحرية مماثلة.
ولا يسعنا أن نتهرب من حقيقة أن على الإنسان اتخاذ خيارات، وطالما أن عليه اتخاذ خيارات فلا مفر من الرجوع للقيم الأخلاقية، وطالما أن القيم الأخلاقية معرضة للخطر فمن المستحيل أن يكون هناك وجود لأي حياد أخلاقي، فالامتناع عن إدانة مُعذِّب، يجعل منك شريكًا في تعذيب ضحايا هذا المذنب وقتلهم.
فالمبدأ الأخلاقي الذي يجب تبنيه في هذه المسألة هو: "كن قاضيًا واستعد لأن تكون محكومًا عليه"، وإن ما يعاكس الحياد الأخلاقي ليس الإدانة العمياء والتعسفية والمتعالية لأي فكرة أو فعل أو شخص لا يتناسب مع مزاج المرء أو شعاراته المحفوظة عن ظهر قلب أو حُكمِه المتسرع في اللحظةِ الراهنة، كما أن التسامح العشوائي والإدانة العشوائية ليسا نقيضين، وإنما شكلين مختلفين لعملية التهرب من المسؤولية الأخلاقية ذاتها، فلأن يقول المرء " الجميع بيض" أو "الجميع سود" أو "الجميع ليسوا ببيض ولا سود، بل رماديون" لا يُعَدُ حكمًا أخلاقيًا، بل هروبًا من مسؤولية إصدار الأحكام الأخلاقية.
"أن تحكم" تعني أن تقيّم شيئًا واقعيًا مُعينًا على أساسِ مبدأ أو معيار تجريدي، وفعل ذلك ليس بمهمة سهلة، وليس بمهمة يمكن تنفيذها تلقائيًا من خلال مشاعر الشخص أو غرائزه أو حدسه، بل هي مهمة تتطلب عملية تفكير موضوعية وعقلانية تتمتع بأقصى قدر من الدقة والصرامة والعناية، وحيث أنه من السهل نسبيًا استيعاب المبادئ الأخلاقية المجردة، إلا أنه قد يكون من الصعب جدًا تطبيقها في حالة معينة، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالشخصية الأخلاقية لفرد آخر، فعندما يُدلي المرء بحكمٍ أخلاقي، سواءً أكان مدحًا أو ذمًا، عليه أن يكون مستعدًا للإجابة على سؤال "لماذا"، وأن يكون مستعدًا أيضًا لأن يثبت دعواه لنفسه ولأي سائل عاقل آخر.
إن انتهاج سياسة الاستمرارية في إصدارالأحكام الأخلاقية لا يعني أنه يجب على الإنسان اعتبار نفسه مُبشّرًا تقع على عاتقه مسؤولية "إنقاذ أرواح البشرية جمعاء"، ولا يعني أنه يجب عليه أن يقدم تقييمات أخلاقية تطفلية لكل أولئك الذين يلتقي بهم، وإنما يعني ذلك: (أ) أنه يجب على المرء أن يعرف بوضوح وبشكل كامل ومحدد لفظيًا تقييمه الأخلاقي لكل واقعة وشخص ومسألة يتعامل معها، والتصرف وفقًا لذلك، (ب) يجب على المرء أن يُعرّف الآخرين بتقييمه الأخلاقي حين يكون من المناسب منطقيًا القيام بذلك.
وتعني هذه النقطة الأخيرة أن المرء لا يحتاج إلى الشروع في اتهامات أو نقاشات أخلاقية دون مبرر، لكن عليه أن يعزف عن صمته في المواقف التي قد يُفسر فيها الصمت موضوعيًا بالموافقة على الشر أو إقراره، وعندما يتعامل المرء مع أشخاص غير عقلانيين، بحيث يكون خوض نقاش معهم أمر عديم الجدوى، فإن مجرد قول: "لا أتفق معك" يُعد كافيًا لنفي أي معنى من معاني التأييد الأخلاقي، بينما إذا تعامل المرء مع أشخاص أكثر عقلانية، فقد يكون من اللازم أخلاقيًا أن يقدم بيانًا كاملًا عن آرائه، ولكن قد لا يسمح المرء للآخرين في أي حال من الأحوال ولا في أي موقف من المواقف بالطعن في قيمه الخاصة وإدانتها ويظل ملتزمًا الصمت إزاء ذلك.
تعتبر القيم الأخلاقية للمرء هي القوة المحركة لأفعاله، ومن خلال إفصاح المرء عن أحكامه الأخلاقية فهو يحافظ على وضوح تصوره وعلى عقلانية المسار الذي اختار اتباعه، فثمة فارق بين أن يعتقد المرء أن ما يتعامل معه هو مجرد أخطاء بشرية في المعرفة أو أنه شر بشري.
لاحظ كم من الناس يراوغون ويبررون بل ويقودون عقولهم إلى حالةٍ من السبات العميق خشية أن يكتشفوا أن أولئك الذين يتعاملون معهم -أحباءهم أو أصدقاءهم أو زملاءهم في العمل أو قادتهم السياسيين- ليسوا مجرد مخطئين بل أشرار، ولاحظ أن هذا الخوف يقودهم إلى تقبل ذات الشر الذي يخشون الاعتراف به ومساندته وإشاعته.
ولو لم ينخرط الناس في مثلِ هذا النوع من التهربات الأخلاقية البائسة مثل: الادعاء بأن الكاذب الوضيع "يقصد بفعلته الخير"، وأن المتسكع المتسول "ليس بيده حيلة"، وأن الحدث الجانح "يحتاج إلى الحب"، وأن المجرم "لا يفقه شيئًا"، وأن السياسي الذي يسعى إلى السلطة لا تثيره إلا الحمية الوطنية تجاه "المصلحة العامة"، وأن الشيوعيين ينادون فقط "بالإصلاح الزراعي" لاختلاف تاريخ العقود أو حتى القرون القليلة الماضية.
واسأل نفسك: لماذا ترى الأنظمة الديكتاتورية الاستبدادية أن هناكَ ضرورة لإنفاق الكثير من المال والجهد في حملاتٍ دعائية موجهة نحو عبيدهم المكبلين والمكممين والعاجزين، والذين لا يمتلكون أي وسيلة من وسائل الدفاع أو الاحتجاج؟ الإجابة هي أنه حتى أكثر الفلاحين بساطة أو أكثر الهمجيين سذاجة قد يقومون بعمليات تمرد أعمى في اللحظة التي يدركون فيها أنهم مجرد ضحايا "لا لغرض نبيل مبهم"، بل "لشر بشري صريح ومكشوف".
لاحِظ أيضًا أن الحياد الأخلاقي يستوجب تعاطفًا تدريجيًا مع الرذيلة وبغضًا تدريجيًا للفضيلة، فالإنسان الذي لا يكافح من أجل الاعتراف بأن الشر شرٌ، يواجه خطورة متزايدة في الاعتراف بأن الخير خيرٌ، بل وينظر أيضًا إلى الشخص الذي يتمتع بالفضائل باعتبارهِ تهديدًا يمكن أن يطيح بكل محاولات هروبه من المسؤولية الأخلاقية، ولاسيما عندما يتعلق الأمر بقضية تتطلب تحقيق العدالة وتستلزم منه اتخاذ موقف، ومن ثم فإن مثل هذه الأقوال المتداولة "ما من أحد على صواب تام أو خطأ تام" و قول: "من أنا لأحكم على الناس؟" سيتبعها عواقب مهلكة، فالشخص الذي كان يقول: " أنه ما يزال هناك بعض الخير في أشرنا"، يصبح قوله: "أن هناك بعض الشر في أخيارنا"، ثم يتبعه بعد ذلك بقول:" لابد من أن يكون هناك بعض الشر في أخيارنا"، ومن ثم ينتهي بقول: "أن هؤلاء الأخيار منّا هم من يصعبون الحياة علينا، لم لا يلزمون الصمت فقط؟ ومن هم ليحكموا علينا؟"
وبعد ذلك، وفي ذات صباح كئيب من أيام منتصف عمر هذا الإنسان، سيدرك فجأة أنّه قد خان كل القيم التي أحبها في أيام ريعانة البعيدة، وسيتساءل كيف حدث ذلك؟، ليغلق حينها على عقله باب الإجابة قائلًا لنفسه بسرعة بأن الخوف الذي شعرَ به في أسوأ لحظاته وأكثرها خزيًا كان شعورًا صحيحًا، وأن القيم ليس لديها أي فرصة للبقاء في هذا العالم.
إن المجتمع غير العقلاني هو مجتمع من الجبناء أخلاقيًا من أشخاص مشلولين بسبب فقدان المعايير والمبادئ والأهداف الأخلاقية، ولكن بما أن على البشر أن يتصرفوا ما داموا أحياء، فإن هذا المجتمع مهيأ لأن يخضع لسيطرة أي أحد يرغب في تحديد اتجاهه، وقد تأتي هذه المبادرة من نوعين فقط من الناس: إما أن تأتي من شخص راغب في تحمل مسؤولية إقرار القيم العقلانية، أو أن تأتي من مجرم لا تشغله المسائل المتعلقة بالمسؤولية.
ومهما اشتد الصراع، إلا أنه لا يوجد سوى خيار واحد يمكن للإنسان العقلاني اتخاذه أمام بديل كهذا.