الجمعة , 20 سبتمبر 2024 - 16 ربيع الأول 1446 هـ 4:46 مساءً
ماذا يمكننا أن نتعلم من الرياضيات حول إيجاد النظام في فوضى حياتنا؟
هل هي مجرد مصادفة أن تلتقي بذلك الشخص العزيز في حياتك، أم هناك أسباب أخرى أعمق من ذلك؟ ماذا عن الحلم الغريب الذي راودك في الليلة الماضية؟ هل كان مجرد تشوشًا عشوائيًا أنتجته خلايا مخك العصبية، أم أنه يكشف أمرًا عميقًا عن عقلك الباطني؟ ربما كان الحلم إشارة تنبئك عن مستقبلك وربما لا. هل حقيقةَ أن أحد أقاربك أُصيب بنوع خبيث منv السرطان لها معنى عميق، أو كانت ببساطة نتيجة طفرة عشوائية حدثت في حمضه النووي؟
نقضي حياتنا في التفكير بأنماط سير الأحداث التي تمر من حولنا. ونتساءل ما إذا كانت هذه الأنماط عشوائية أم أن لها بعض الأسباب الحقيقية والعميقة بشكل فريد. وبصفتي عالم رياضيات، غالبًا ما ألجأ للأرقام والنظريات كي ترشدني إلى نظرة ثاقبة لمثل هذه التساؤلات، عندها أتعلم شيئًا عن السعي نحو المعنى بين الأنماط في الحياة من وجهة نظر إحدى أعمق النظريات في المنطق الرياضي. وتُبيّن تلك النظرية ببساطة أن من المستحيل معرفة، حتى من حيث المبدأ، ما إذا كان تفسير أي نمط أعمق من التفسيرات الواردة أو أكثرها إثارة للاهتمام. وكما هو الحال في الحياة، فإن السعي نحو المعنى في الرياضيات لا حدَّ له.
في البداية، نُجري بعض التمهيدات. انظر إلى السلاسل الثلاثة للرموز الآتية:
100100100100100100100100100100100
100100100100100100100100100100100100
2, 3, 5, 7, 11, 13, 17, 19, 23, 29, 31, 37,
41, 43, 47, 53, 59, 61, 67, 71, 73, 79, 83, 89, 97
383862748687832547357968018346829
18987459817087106701409581980418.
كيف يمكننا وصف هذه السلاسل؟ يمكننا وصفها بسهولة فقط بكتابتها كما فعلنا للتو. على أي حال، كما هو واضح جدًا، فإن هنالك وصف أقصر لأول سلسلتين؛ إذ يمكننا ببساطة التعبير عن السلسلة الأولى على أنها وتيرة للنمط 100، بينما السلسلة الثانية تمثل قائمة لأول الأعداد الأولية القليلة. وماذا عن السلسلة الثالثة؟ يمكننا وصفها من خلال طباعتها فقط. ولكن هل لها وصف أفضل وأقصر؟
إن العشوائية أمرٌ مُثيرٌ للغضب، لذلك نبحث عن نمط يزيل بعض الفوضى.
في مطلع الستينات، وضع -بشكل مستقل- كلٌ من غريغوري تشايتين، المراهق الأمريكي، وأندريه كولموغوروف، عالم الرياضيات الروسي المشهور، وراي سولومونوف، الرائد في علوم الكمبيوتر، طريقة لقياس تعقيد سلاسل الرموز. وأصبحت تسمى أفكارهم نظرية تعقيد كولموغوروف (Kolmogorov Complexity) أو نظرية المعلومات الخوارزمية Algorithmic Information)). فقد افترض هؤلاء الثلاثة أنه يمكن وصف أي سلسلة بأنها معقدة حالها حال مقدار أقصر برنامج في الكمبيوتر ينتج تلك السلسلة. بمعنى آخر، خذ سلسلة ما وابحث عن برنامج كمبيوتر قصير ينتج تلك السلسلة؛ فالبرنامج نوع من الوصف للسلسلة، وإذا كان الوصف في ذلك البرنامج قصيرًا جدًا، عندها يكون للسلسلة نمطًا بسيطًا ليس معقدًا بذلك القدر، وحينها نقول إن للسلسلة "محتوى خوارزمي قليل". وفي المقابل، إذا تطلب برنامج طويل لإنتاج السلسلة، عندها تكون السلسلة معقدة ولها "محتوى خوارزمي عالي". ويجب على الفرد في كل سلسلة أن يبحث عن أقصر برنامج ينتجها. ويُطلق على مقدار ذلك البرنامج "تعقيد كلوموغروف" للسلسلة.
دعونا ننظر للسلاسل الثلاثة أعلاه، يمكن لبرامج الكمبيوتر القصيرة نسبيًا أن تصف أول سلسلتين كالآتِ:
يتضح أن تعقيد كلوموغروف للسلسلة الأولى أقل من تعقيد كلوموغروف للسلسلة الثانية؛ وذلك لأن البرنامج الأول أقصر من البرنامج الثاني. وماذا عن السلسلة الثالثة؟ لا يوجد نمط واضح لها. ومع هذا، يوجد هناك برنامج سخيف يطبع هذا التسلسل.
“383862748687832547357968018346829
18987459817087106701409581980418”.
رغم أن هذا البرنامج سيؤدي المهمة، إلا أن النتيجة لن تكون مُرضية تمامًا؛ إذ أنه قد يوجد برنامج أقصر يوضح أن للسلسلة نمطًا معيَّنًا. وعندما ينص البرنامج الأقصر الذي ينتج سلسلة ما، ببساطة "اطبع السلسلة"، نقول إن السلسلة معقدة للغاية لدرجة أن ليس لها أي نمط يصفها. وتُسمى السلسلة التي لا يوجد لديها أي نمط بـ "العشوائية". وفي حين أننا لا نرى أي نمط، قد يوجد هناك واحد؛ إذ في الرياضيات، كما هو الحال في الحياة، نواجه العديد من الأنماط العشوائية.
قد نجرب استخدام القوى الهائلة للحواسيب الحديثة لإيجاد أي نمط وأي البرامج أقصرها. ألن يكون رائعًا لو كان هناك حاسوب ما يحسب ببساطة مستوى تعقيد كلوموغروف لأي سلسلة؟ لكان هذا الحاسوب يتقبل السلسلة على أنها مدخل ويُظهر مقدار أقصر برنامج يمكنه إنتاج تلك السلسلة. وبكل تأكيد، مع الاستعانة بكافة أدوات الحاسوب المتجددة كالذكاء الاصطناعي والتعلم العميق والبيانات الضخمة والحساب الكمي وغيرها، سيكون من السهل صناعة مثل هذا الحاسوب.
مع الأسف، لا يمكن وجود مثل هذا الحاسوب! فمهما بلغت قوة الحواسيب الحديثة، لا يمكن إنجاز هذه المهمة. وهذا محتوى إحدى أقوى النظريات في المنطق الرياضي؛ إذ تنص النظرية، في الأساس، على أنه لا يمكن حساب مستوى تعقيد كلوموغروف للسلاسل، وذلك بسبب أنه لا يوجد جهاز ميكانيكي لتحديد حجم أصغر برنامج ينتج سلسلة معينة. فالأمر ليس متعلق بمدى كفاءة المستوى الحالي لتقنية الحاسوب في إنجاز المهمة المطروحة ولا بمدى مهاراتنا في الكتابة الخوارزمية، بل أُثبت أن الفكرة ذاتها من الوصف والحوسبة أظهرت أنه من المستحيل لأي من الحواسيب أداء هذه المهمة لكل سلسلة. ورغم أن أي حاسوب قد يجد أنماط عديدة في السلسلة الواحدة، إلا أنه لا يمكنه إيجاد أفضل نمط لها. وكذلك قد نجد بعض البرامج القصيرة تنتج نمطًا معينًا ولكن يمكن أن يوجد برنامج آخر أقصر منها، فالحقيقة أننا لن نملك إجابة ثابتة أبدًا.
يمكننا وصف إثبات أن تعقيد كلوموغروف لتسلسل ما غير قابل للحساب بأنه تقني نوعًا ما. وعلى أي حال، هذا دليل على التناقض ويمكننا أن نفهم كيف استنتجنا ذلك من خلال النظر إلى مفارقتين صغيرتين لطيفتين.
تدور فكرة مفارقة الرقم المهم حول حجّة أن كل الأرقام الطبيعية تثير الاهتمام. فعلى سبيل المثال، يمثل الرقم 1 "أول الأعداد"، لذلك هو مثير للاهتمام. والرقم 2 "أول الأعداد الزوجية"، والرقم 3 "أول الأعداد الأولية الفردية"، والرقم 4 مثير للاهتمام أيضًا؛ لأن 4=2 2×و4=2+2. ويمكننا الاستمرار على هذا النَسَق لنرى أن العديد من الأرقام تمتلك خواصًا مميزة ومثيرة للاهتمام. وفي المقابل، قد نجد في مرحلة ما أن بعض الأرقام لا يبدو عليها أيَّ خاصية تدعو للاهتمام، ويمكننا أن نطلق على ذلك الرقم "أول عدد غير مهم"، وهي -بحد ذاتها- خاصية مميزة. لذلك نستنتج أن الرقم غير المهم يُعدُّ -في الحقيقة- رقمًا مثيرًا للاهتمام!
ببساطه، لن نعرف أبدًا إذا النمط الذي وجدناه هو الأفضل من بين الأنماط
إن الأفكار الكامنة في إثبات كلموغروف تتشابه أيضًا مع مفارقة بيري التي تُعنى بوصف الأعداد الكبيرة. ولاحِظ أن كلما استخدمتَ كلمات أكثر، زادت قيمة العدد الذي يمكن التعبير عنه. فعلى سبيل المثال، يمكنك وصف "ترليون ترليون ترليون" في ثلاث كلمات، بينما يمكنك وصف "ترليون ترليون ترليون ترليون ترليون" في خمس كلمات وهو عدد أكبر بكثير من سابقه. والآن ركِّز في العدد الموصوف في العبارة الآتية:
"العدد الأصغر الذي لا يمكن التعبير عنه في أقل من 15 كلمة"
إذن يحتاج هذا العدد إلى 15 أو 16 كلمة أو حتى أكثر للتعبير عنه، فلا يمكن وصفه في 12 أو 13 أو 14 كلمة. ومع هذا توجد مشكلة أساسية: أن العبارة أعلاه وصفت العدد في 12 كلمة فقط؛ أي أن وصفنا للعدد خالف وصف العدد ذاته، وهذا يُعدُّ تناقضًا.
في كل من مقاربة الرقم المهم ومقاربة بيري، وصلنا إلى فكرة التناقضات من خلال الافتراض أن هنالك طريقة معيّنة للتعبير عن أمر ما. وبالمثل، فإن الدليل على أن تعقيد كولموغوروف غير قابل للحساب ينبع من حقيقة أنه إذا كان التعقيد قابلًا للحساب، فسوف نجد تناقضًا.
تمثل حقيقة أن تعقيد كلموغروف غير قابل للحساب، إحدى النتائج في الرياضيات البحتة، ويجب علينا ألَّا نخلط ذلك المجال الأصيل مع العالم الواقعي الأشد تعقيدًا وفوضوية. ومع هذا، هنالك بعض المواضيع المشتركة عن نظرية تعقيد كلموغروف التي قد تصاحبنا عند التفكير بالعالم الواقعي.
في العديد من الأوقات، نواجه أمرًا في حياتنا يبدو عشوائيًا تمامًا. ولأن هذه العشوائية مثيرة للغضب، فإننا نبحث عن نمط يزيل بعضًا من هذه الفوضى. وإذا وجدنا أي نمط، فإنه ليس واضحًا ما إن كان أفضل نمط يفسّر ما واجهنا. فقد نسأل أنفسنا إذا كانت توجد طريقة أكثر عمقًا تمنحنا تفسيرًا أفضل. وما تعلمناه من نظرية تعقيد كلوموغروف أنه، وفي مستوى أعمق، لا توجد أي طريقة مؤكدة لتحديد النمط الأفضل. فببساطة لن نعرف أبدًا ما إذا كان النمط الذي عثرنا عليه هو الأفضل من بين الأنماط.
على كلٍّ، هذا ما يجعل استمرار عملية البحث ممتعٌ إلى الأبد. وبحكم التعريف، فإنه ممكن وصف الأمر على أنه مثير للاهتمام، إذا أجهدك في التفكير، بينما لو كانت الحقيقة واضحة ومفهومة بالكامل فلن تتطلب منك تفكيرًا كثيرًا. فمثلًا، تعد حقيقة أن "مضاعفات الرقم 7 ست مرات يساوي 42" مفهومة تمامًا لذلك هي لا تدعو للاهتمام. إنما المثير حقًّا للاهتمام هو عندما نشك بأفكار معينة نحتاج أن نؤكدها ونفكر بها. لذلك، سيكون البحث عن أنماط أفضل متعة دائمة.
نرغب بمعرفة أن هناك بعض المعنى والمغزى والأهمية لما يدور حولنا من العالم.
هنالك تعقيد مضاعف في العالم الواقعي؛ إذ يمكن أن نرتكب الأخطاء، بل نفعلها حقًّا في عالمنا، بينما في عالم السلاسل وبرامج الحاسوب فتخلو الأخطاء. فيمكننا بسهولة أن نرى ما إذا طبع برنامج معين سلسلة ما أم لا. وعلى الرغم أنه قد لا يمكننا تحديد البرنامج الأمثل ليطبع سلسلة معينة، إلا أنه يمكننا معرفة إذا قد طبع البرنامج السلسلة المطلوبة. وفي المقابل، فإن العالم الواقعي أكثر تعقيدًا بكثير؛ إذ نعتقد أننا ندرك نمطًا ما عندما نُخطئ في الواقع.
الآن يبدأ يتجمع فهمنا للبحث عن معنى. وفي الحقيقة، نحن نمقت العشوائية ونحب الأنماط؛ بُرمجنا بيولوجيًا على البحث عن بعض الأنماط التي تفسّر ما نحيط به، بيد أننا لن نستطيع أن نثق تمامًا أن النمط الذي حددناه هو الأنسب. وحتى لو كنا متأكدين، نوعًا ما، من أننا لم نقترف أي خطأ، ونُبدي مثالية تشبه مثالية الحواسيب، ستبقى هنالك دائمًا حقيقة عميقة تدعونا لاكتشافها. وإن هذا التوتر الناتج عن جهدنا في التفكير يحفّز حبنا للأدب والمسرح والسينما، فعندما نقرأ رواية أو نشاهد مسرحية، يعرض لنا المؤلف أو المُخرج تسلسلًا من الأحداث المشتركة في الموضوع أو النمط أو العبرة. لذا، تمنحنا الآداب والمسرحيات والسينما مُتَنَفّسًا مُفعمًا بالمتعة بعيدًا عن الفوضى الفارغة والمُبهمة المعتادة فيما يحيط بنا في العالم الواقعي. ويمكن القول إن الأدب الناجح حقًّا هو الذي يذهب بنا إلى العمق ويترك لنا إمكانية التأويل لعدة تفسيرات، عندها نواجه حتمًا حقيقة انعدام القابلية الحسابية في تعقيد كلموغروف.
كما أن هذا التوتر يحدد كيف ننخرط مع حياتنا. وبينما نرتحل في أحداث الحياة التي تبدو لنا عشوائية، نستمر في البحث عن أنماط ونظام. فإن الحياة مليئة بالتقلبات؛ في كفَّةٍ هنالك المسرّات كوقوعنا في الحب وقهقهاتنا مع فلذات أكبادنا وشعورنا بإحساس الإنجاز العظيم عند انتهائنا من عمل شاق، وفي الكفّة الأخرى أيضًا المضرّات كالألم بعد انهيار علاقة ما أو الضِيْق بعد الفشل في مهمة بذلت لها جهدًا كبيرًا أو المعاناة عند فقدان شخص عزيز. ونحن نحاول أن نفهم كل هذه الأحداث بحلوها ومرّها؛ لأننا نبغض شعور العشوائية التامّة وفكرة أننا نتبع فقط قوانين فوضوية معتادة في الفيزياء. لذا، نرغب بمعرفة أن هناك بعض المعنى والمغزى والأهمية لما يدور من حولنا في العالم. ونريد قصص سحرية للحياة من أجل أن نحكيها لأنفسنا.
بعض الأحيان، تكون هذه القصص زائفة؛ فأحيانًا نخدع أنفسنا ومن حولنا. وأحيان أخرى تكون الأنماط التي نحددها صحيحة. وحتى لو كانت القصة صحيحة، قد لا تكون بالضرورة هي الأفضل. فلن نستطيع أبدًا معرفة ما إذا كانت توجد قصة أعمق وأكثر دقة. ومع تقدمنا في العمر ومعاناتنا من الضَجَر، نحصل على بعض الأفكار حول الكون الذي لم نره سابقًا، ونجد أنماطًا أفضل، وربما نرى الأمور أوضح وربما لا؛ فلن نتوصل لفهم ذلك إطلاقًا. ومع هذا، نعلم حقًّا أن البحث مضمونًا حتى لا ينتهي أبدًا.