السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:04 صباحاً
"حتى تكون إنساناً صالحاً، لا بد أن تكون منفتحًا على العالم، وقادرًا على الوثوق بأمور مبهمة تتعدّى سيطرتك"
بقلم : ماريا بوبوفا.
أنتج الصحافي بيل مويرز عام ١٩٨٨ سلسلةً من الحوارات التلفازية المثيرة والملهمة والذكية مع كوكبة من الأيقونات الثقافية بدءاً من إسحاق عظيموف ونعوم تشومسكي إلى تشينوا أتشيبي . ولم تكن تلك كأي حوارات عامة كانت قد حظيت بها موجات البث التلفزيوني من قبل . جُمعت تلك الحوارات ودُوِّنت في مجلدٍ ضخم لبيل مويرز بعنوان " عالم من الأفكار " في المكتبة العامة عام ١٩٨٩. ومن بين كل تلك الحوارات المتألقة برزت إحداها وتفردت بعمقها وأبعادها وغزارة محتواها وخلودها للفيلسوفة مارثا نوسباوم ، أحد أبرز العقول الفذة والبارزة في زماننا ، حيث أجرى مويرز مقابلة معها فوراً بعد نشر كتابها الشيق" هشاشة الخير : الحظ والأخلاقيات في التراجيديا الإغريقية والفلسفة ".
بدأ مويرز حواره بصياغة منهج نوسباوم الفريد في الفلسفة إلى طريقتها في العيش.
مويرز :
" إن التصور الشائع عن الفيلسوف أنه مفكر ذو أفكار مجردة، إلا أن للقصص والخرافات أهمية لفلسفتك. مارثا : " مهمة جداً، باعتقادي أن لغة الفلسفة يجب أن تأتي من ذروة الأفكار المجردة إلى ثرائها ألسنة البشر اليومية، إذ يجب على الفلسفة أن تصغي للطرق التي يتحدث بها البشر عن أنفسهم وما يثير اهتمامهم. وأحد الطرق الفعالة لذلك هي الاستماع للقصص . وبالتأمل في الحكمة الخالدة للأساطير الإغريقية ومسرحياتها المأساوية وتحديداً مسرحية "هيكوبيديه" للروائي المسرحي يوربيديس ، فإن نوسباوم تعتبر أن الكينونة البشرية تستلزم تقبُّل مشاعر القلق الوجودية واحتواء دهاليز الشك. تقول لمويرز :
" حتى تكون في حالة نفسية مستقرة، لا بد أن تتوقع بأنك معرض للانهيار معنوياً بسبب أمر عجزت عن ردعه. معنى أن تكون إنسانًا صالحاً يعني أن تكون منفتحًا على العالم ، وقادرًا على الوثوق بأمور مبهمة تتعدّى سيطرتك، و قد تؤدي بك الى الانهيار في ظروف قاسية لا تلام عليها .وهذا يقودنا إلى شيءٍ مهم جدًا بحالة الإنسان النفسية في الحياة الأخلاقية وهي أنها قائمة على مبدأي الاعتماد على الشك والاستعداد لأن تكون عرضة لأي شيء، كأن تكون النبتة أكثر من أن تكون الجوهرة، أن تبدو مثل شيء هش؛ جماله جزء من هشاشته . "تذكرنا نوسباوم بالمفارقة المبهمة لحالة الإنسان ، فهي تعتبر قابليتنا للانهيار وقدرتنا على الثقة بالآخرين، هي ما يجعلنا عرضة للحزن، وتكمن المأساة العظمى في محاولتنا للتصدي للألم، بكبح تلك الرقة الجوهرية للروح، و ذلك إنكارٌ لإنسانيتنا. " أن تكون إنساناً يعني أن تقبل الوعود من الآخرين وتحسن الظن بهم . وعندما يشقُّ عليك ذلك ، فإنه من الممكن دائما أن تُسلّم نفسك للصوت الداخلي " سأعيش لنفسي، لأجل انتقامي، لأجل غضبي، ولن أكون فرداً من المجتمع بعد الآن ." وهذا بالفعل يعني" لن أكون انساناً بعد الآن ". تلاحظ بعض الأشخاص اليوم يحدثون أنفسهم بذلك حينما يشعرون أن المجتمع قد خيب آمالهم فلا يلتمسون الحاجة منه ولا يمكنهم تعليق آمالهم سوى على أنفسهم . هم بالفعل يسلمون انفسهم لحياة تشعرهم بالاكتفاء الذاتي وربما يكون ذلك إشباعاً لرغباتهم في الانتقام من المجتمع. لكن الحياة التي لا يمكن للمرء فيها المرء أن يثق بالآخرين ولا يُشكّل أية روابط مع المجتمع السياسي، ليست حياة ملائمة للبشر بعد الآن .
صورة توضيحية لأليس ومارتن بروفينسين " للإلياذة والأوديسا : الكتاب الذهبي العملاق .
تصبح الأمور أكثر تعقيداً عندما تجبرنا الأزمات التي تورث الأحزان على اتخاذ قرارات مستحيلة للاختيار بين العديد من الأمور الثمينة لنا . تصور نوسباوم ذلك الشعور بالإشارة إلى مسرحية "أجاممنون" لأسخيلوس ، عندما يجد الملك نفسه في صراع بين إنقاذ جيشه أو إنقاذ ابنته . وعلى نطاق أصغر فإن هذا النوع من الصراعات يحدث بشكل يومي في حياتنا، كأن توفق بين عملك وتربية الأبناء. وكلا الخيارين يثري بعضه الآخر ويجعل الحياة لكل منهما أفضل في معظم الأوقات. لكن في بعض الأحيان تطرح الظروف الخاصة تحديات صعبة كحضور اجتماع مهم في العمل أو حضور مسرحية لطفلك في مدرسته، وبلا شك فإن إحدى هاتين الأولويتين لابد أن تعاني الإهمال، لا لأنك مديراً متقاعساً عن العمل ولا والداً مقصراً ، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. هناك حيث تكمن معضلة الإنسان، فكلما سعينا لنعيش حياةً أفضل حسب أولوياتنا وارتباطاتنا؛ رحبنا بالمزيد من المشاكل. ومع هذا فإن الحل لا يعني عدم السعي لذلك.
تقول نوسباوم لمويرز : " تتكالب علينا الأحزان فقط عندما نحاول أن نعيش بشكل أفضل ، لكن بالنسبة لشخص مستهتر لا يعي أهمية روابطه و أولوياته ، فإن صراع أجاممنون لا يمثل شيئا . إذا فالدرس المأخوذ من ذلك كله لا يعني أن تحاول تضخيم المشكلة أو تصوّر الصراع والمعاناة برومانسية، بل أولى لك أن تهتم بالأمور بطريقةٍ تجعل من الأحزان نتيجة محتملة. إن كنت تؤدّي التزاماتك بيسر وسهولة، يمكنك بتلك الطريقة انتزاع نفسك منها أو من أحدها حين تتصادم فيما بينها، وعندها لن تتعرض للألم إن ساءت الأمور . لكنك تريد من الناس أن يعيشوا حياتهم بروابط حقيقة عميقة ، لا أن يكيفوا رغباتهم سيراً مع التيار العالمي، بل أن ينتزعوا من العالم الحياة الكريمة التي يرغبون بها . وقد يقودهم ذلك أحياناً إلى الحزن . "
ربما كان آلان واتس محقاً عندما أرشدنا إلى عدم مصارعة تناقضات العالم بل أن نفهم الكون كنظام متناغم من الصراعات المكبوحة .