الجمعة , 20 سبتمبر 2024 - 16 ربيع الأول 1446 هـ 5:37 مساءً
لقد أثبت عالمنا الغني بالتقنية أنه نعمة ونقمة على حدٍ سواء، ففي الوقت الذي نتمكن فيه من الوصول إلى المعلومات أو الأشخاص في أي مكان وفي أي وقت_ نجد من ناحية أخرى أن البيئات التقنية الغنية والمتعددة الحواس تسترعي انتباهنا باستمرار، فجميعها بدأت بواجهة المستخدم الرسومية التي أخذتنا من البيئة المسطحة والمبنية على النصوص ثنائية الأبعاد التي تعمل على أساس سطر تلو الآخر على غرار الآلة الكاتبة إلى صورة صغيرة تصور عملية أو برنامجًا، ومن ثم كانت تلك قفزة قصيرة إلى عالم متعدد الحواس، يجتذب كل حواسنا البصرية أو السمعية أو اللمسية أو الحركية، حيث نرى الآن مقاطع فيديو بدقة عالية وغالبًا ما تكون ثلاثية الأبعاد، ونسمع أصواتًا مسجلة عالية الوضوح تبدو جلية كالأصوات في العالم الحقيقي, وتهتز أجهزتنا وترتج وتخشخش وتتدحرج فتأسر انتباهنا, فليس من قبيل الصدفة أننا الآن نخصص نغمات واهتزازات معينة لأناس بعينهم لجذب انتباهنا.
عندما يسمع الدكتور لاري روزن نغمة البيانو من هاتفه المحمول يعرف أنه لابد أن تكون إما خطيبته أو أحد أطفاله الأربعة؛ لذا يمسك الهاتف قبل نهاية النغمات القليلة الأولى، وكما يقول سكينر لطالما كان ذلك داعمًا له بصورة منتظمة وإيجابية، حيث أن التحدث مع أي منهم دائمًا ما إيجابيًا، وفي المقابل للعديد من الأشخاص في قائمة جهات الاتصال لديه نغمة رنين "إنذار" والتي تسبب ردة فعل عميقة معاكسة تمامًا لذا يتناول زر تجاهل المكالمة.
لا يمكن للطلاب التركيز لأكثر
من ثلاث إلى خمس دقائق.
تواصل تقنيتنا إيجاد طرق لجذب انتباهنا؛ لأن هذا هو ما يجلب "المشاهدين" حيث تقول الحكمة التسويقية الشائعة أن المشاهدين يجلبون المال, فعندما تلقي نظرة على هاتفك ترى دوائر حمراء صغيرة ذات أرقام بيضاء، تشير إلى أن ثمة شيء ما في انتظارك: أربعة رسائل بريد إلكتروني غير مقروءة، وعشرة إخطارات على الفيسبوك، والعديد من التذكيرات، مما يجعل ذهنك ينوء بالتفكير في أي أيقونة يضغط عليها أولًا, ويفعل آيبادك الشيء نفسه وكذلك حاسوبك المحمول الذي يزعجك تحديدًا بالإشعارات الرقمية للرسائل غير المقروءة، والرموز الوامضة التي تخبرك بحاجتك إلى نسخ ملفات الحاسوب احتياطًا، وما إلى ذلك.
التواصل الاجتماعي؟
الغالبية العظمى من الشباب يتفقدون هواتفهم الذكية كل 15 دقيقة أو أقل وفقًا للدكتور روزن.
إن تعدد المهام الإعلامية – الذي ينجزه دماغك لا بأداء مهمتين في آن واحد بل بالانتقال السريع من مهمة إلى أخرى – يحدث في كل مجال من عالمنا، في المنزل والمدرسة ومكان العمل وأوقات الفراغ, ولا يقتصر هذا على الجيل الشاب، حيث تتبعت دراسة حديثة مجموعة من الشباب ومجموعة من المسنين، الذين ارتدوا أحزمة حيوية ذات كاميرات بنظارات مدمجة، لأكثر من 300 ساعة من أوقات الفراغ, وفي حين انتقل الشباب من مهمة إلى أخرى 27 مرة في الساعة – مرة كل دقيقتين – لم يكن الكبار أفضل بكثير في الحفاظ على انتباههم حيث بدلوا مهامهم 17 مرة في الساعة أو مرة كل ثلاث إلى أربع دقائق, وقد أسمت ليندا ستون ــ المديرة التنفيذية السابقة لشركة مايكروسوفت ــ تعدد المهام المستمر هذا "بالانتباه الجزئي المستمر", فالتبديل المتكرر للمهام أمر جميعنا يفعله، وكلما ازداد تنقلنا كان ذلك أكثر ضررًا على أدائنا في العالم الحقيقي.
ما لم تقم بمراقبة جهاز الحاسوب لشخص ما بالإضافة إلى هاتفه الذكي وجميع أجهزته الأخرى فمن الصعب معرفة مقدار تبديل المهام الذي يحدث بالفعل، إلا أن العديد من الدراسات استخدمت أدوات بحث مختلفة لمحاولة تقييم تبديل المهام في العالم الحقيقي, فعلى سبيل المثال: لاحظت دراسة حديثة في مختبر الدكتور روزن طلاب – تتراوح أعمارهم بين سن المدرسة المتوسطة وسن الجامعة – يدرسون لمدة 15 دقيقة في مكان عادة ما يدرسون فيه، ومن الصادم أن الطلاب لم يتمكنوا من التركيز لأكثر من ثلاث إلى خمس دقائق، حتى عندما طلب منهم دراسة شيء مهم جدًا, كررت عمل هذه الدراسة: الدكتورة غلوريا مارك وزملاؤها في جامعة كاليفورنيا في إرفاين الذين لاحظوا أن العاملين في تقنية المعلومات كانوا أيضًا ينقطعون عن العمل بسهولة وباستمرار.
يبدو أننا فقدنا القدرة على أن ننفرد بأفكارنا فحسب.
طلب باحثون آخرون من أشخاص الاحتفاظ بمذكرات مفصلة عن استخدامهم اليومي لوسائل الإعلام والتقنية؛ فوجدت إحدى الدراسات ل3048 مراهقًا وبالغًا هولنديًا تتراوح أعمارهم بين 13 و 65 عامًا _ أن الناس من مختلف الأعمار يؤدون مهامًا متعددة لمدة ربع الوقت على الأقل؛ حيث يؤدي المراهقون مهامًا مزدوجة بنسبة 31% من يومهم – على الرغم من أن توليفاتهم الأكثر شيوعًا كانت مختلفة, ففي حين فضّل الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و 16 عامًا الجمع بين الاستماع إلى الموسيقى مع الاتصال بالإنترنت أو الانخراط في وسائل التواصل الاجتماعي أو مشاهدة مقاطع الفيديو على الإنترنت – فضل الشباب (25 إلى 29) الجمع بين البريد الإلكتروني ومشاهدة التلفزيون وزيارة المواقع الالكترونية، وفضّل كبار السن (من 50 إلى 65) الجمع بين المزيد من الأنشطة الإعلامية التقليدية مثل: البريد الإلكتروني والمذياع والتلفزيون وزيارة المواقع الالكترونية، وقد أقرت دراسات أخرى هذه النتائج ووسعت نطاقها؛ فأظهر بحث من مختبر الدكتور روزن: أن أفرادًا من الأجيال الشابة حين سئلوا عن مدى سهولة أو صعوبة الإقران بين مجموعة متنوعة من المهام – أفادوا بأنهم وجدوا أنه من السهل الإقران بين أغلب المهام، في حين شعر أولئك المنتمون إلى الأجيال الأكبر سنًا أنه يمكن بسهولة جمع المهام الأكثر مزاولة فقط.
أحد الجوانب الشيقة لهذا الميل للجمع بين المهام: هو أننا فقدنا القدرة على أداء مهمة واحدة. ألق نظرة على مطعم وانظر إلى الناس وهم يسيرون في أحد شوارع المدينة، وراقب أناس ينتظرون دورهم لفيلم أو في المسرح، وسوف ترى أصابع مشغولة بالنقر، فنحن نتصرف كما لو أننا لم نعد مهتمين أو قادرين على البقاء خاملين دون أن نفعل شيئًا، يبدو أننا نهتم أكثر بالأشخاص المتاحين عبر أجهزتنا أكثر من أولئك الماثلين أمامنا مباشرة، وربما بدقة أكثر: يبدو أننا فقدنا القدرة على أن ننفرد بأفكارنا فحسب.
كان مختبر الدكتور روزن يدرس هذه الظاهرة على مدار العقد الماضي، ولاحظ زيادة مستمرة عبر الأجيال في عدد المرات التي يتفقد فيها الأشخاص أجهزتهم, فالغالبية العظمى من الشباب يتفقدون هواتفهم الذكية كل 15 دقيقة أو أقل وينام 3 من كل 4 بالغين وهواتفهم بجوارهم في وضع الرنين أو الاهتزاز؛ حتى لا يفوتهم أي تنبيه ليلي, أما الطالب العادي فيمتلك في المتوسط سبعة أجهزة تقنية وأما كبار السن فليسوا بعيدين عن هذا كثيرًا، كنا نقرأ فقد وأصبحنا الآن نتصفح، كنا نكتب وقد أصبحنا الآن نستخدم الاختصارات لنقل أفكارنا، أما لكتابة خطاب فمن الأسهل بكثير أن تنطلق من نص موجز أو رسالة بريد إلكتروني، وعندما ظهر تويتر للمرة الأولى كنا نهز رؤوسنا لاستحالة صياغة أفكارنا في 140 حرفًا "فقط", أما الآن فيبدو هذا طبيعيًا وملائمًا لأسلوب حياتنا ذا المهام المتبدلة، فمتى كانت آخر مرة قرأت فيها كتابًا أو مقالة طويلة أو أي شيء أكثر من صفحة أو اثنتين دون إلقاء نظرة سريعة على هاتفك أو متصفح الويب أو بدون تشغيل التلفزيون في الخلفية؟ تظهر دراسات تتبع العين: أنه عندما نقرأ صفحة ويب أو أي نص على الشاشة فإننا لا نقرأه بالطريقة نفسها التي نقرأ فيها كتابًا, فبدلاً من التنقل بأعيننا من كلمة إلى أخرى على كل سطر متتابع في النص، نميل إلى القراءة بنمط "F" حيث نقرأ الجانب العلوي والأيسر من الصفحة مع غزوة قصيرة إلى النص في مكان ما في المنتصف، بدلًا من استكمال الصفحة سطرًا سطرًا, أضف إلى ذلك: الارتباطات التشعبية، والإعلانات، ومقاطع الفيديو متعددة الوسائط، وأشرطة التمرير، وجميع الملهيات المغرية الأخرى على صفحة الويب، فلا غرابة في أن نجد صعوبة في حضور أي شيء لأكثر من بضع دقائق.
إننا قطعًا نفقد صبرنا! ويمكنك التحقق من ذلك من خلال مشاهدة مجموعة من الأشخاص يتفقدون جميعهم هواتفهم كل ثلاث إلى خمس دقائق، بغض النظر عما يفعلونه في ذلك الوقت أو مع من هم، حيث أظهرت دراسة حديثة من جامعة ماساتشوستس في أمهرست وشبكة Akamai Technologies نفاد صبرنا الجماعي، من خلال جمع بيانات الخادم من 23 مليون مشاهدة فيديو عبر الإنترنت؛ وقد أظهرت البيانات أن المشاهدين في المتوسط يبدأون في مغادرة أي فيديو إذا استغرق التخزين المؤقت أكثر من ثانيتين، كما أن 6% من المشاهدين ينقرون على شيء آخر كل ثانية إضافية من التخزين المؤقت, ومن خلال هذه البيانات فإن تأخرًا بسيطًا لمدة 10 ثوانٍ في بدء تشغيل أي فيديو - يتسبب في انتقال ما يقرب من ثلثي المشاهدين من تلك الشاشة إلى مصدر آخر للمعلومات, هذه البيانات الكمية التي جُمعت دون علم المشاهدين، والدراسة الاستقصائية للشركات، والبيانات التجريبية؛ سلطت الضوء على ما كان يُطلق عليه في الأصل: "قاعدة الأربع ثوان" في إشارة إلى الوقت الذي يُرجح فيه أن يغادر المتسوق العادي عبر الإنترنت موقعًا إلكترونيًا وينتقل إلى آخر إذا لم يُحمّل, بل وأشار أحد الأعمال مؤخرًا إلى أن قاعدة الأربع ثوان قد تكون في الواقع أقرب إلى "قاعدة الثانيتين" أو حتى "قاعدة 400 جزء من الثانية" (أقل من نصف ثانية) مما يشير إلى أننا جميعًا غير صبورين فعلًا وعرضة إلى صرف انتباهنا بسرعة من شاشة إلى أخرى إذا لم تُلبَّ احتياجاتنا على الفور.
- آدم غزالي أستاذ في قسم الأمراض العصبية والفسيولوجية والطب النفسي في جامعة كاليفورنيا بسان فرانسيسكو، وهو أيضًا المدير المؤسس لمركز التصوير العصبي، ومختبر Neuroscape ومختبر الغزالي, حصل على جائزة جمعية 2015 لمعلمي العلوم العصبية، كما كتب واستضاف برنامج- PBS المذاع تلفزيونيًا على الصعيد الوطني بعنوان: الذهن المشتت مع الدكتور آدم غزالي.
- لاري روزن أستاذ فخري في علم النفس بجامعة ولاية كاليفورنيا Dominguez Hills وهو مدون في مجلة Psychology Today ومؤلف iDisorder: Understanding Our Obsession with Technology and Overcoming Its Hold on Us وستة كتب أخرى.
من كتاب: الذهن المشتت لآدم غزالي، ولاري روزن، الذي نشرته مطبعة MIT.