السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:36 صباحاً
عزيزنا القارئ: النص أدناه هو جزء مأخوذ من كتاب Strangers to Ourselves ولطوله سيُنشر تباعًا.
عبقرية فرويد ورؤيته المحدودة
احترام الذات، والمعرفة الذاتية، وضبط النفس، هذه الثلاثة مبادئ وحدها تمنح الحياة قوة حاسمة.
– ألفريد لورد تنيسون 1833
ما الذي يمكن أن تفوق أهمّيته أمور القلب؟ أو يكون أكثر صعوبة من فكّ شفرته؟ من الناس من هو محظوظ لأنه يعرف جيدًا ما الذي يريده قلبه، ولكنه مستاء لأنه يجهل كيف يمكنه تحقيق ذلك، ومنهم من يتعثر في أمورٍ تتصادم مع قلبه وعقله كالملك لير، وبسبب غطرسته وعناده وافتقاره إلى معرفة ذاته تظل أهدافه بعيدة المنال.
ولكن مثل هؤلاء الناس يعرفون على الأقل ما الذي يريدونه، سواء أكان ذلك إخلاصًا من أطفالهم أم عناقًا مع أحبتهم أم صفاء أذهانهم، لأن أسوأ مصير هو ألا نعرف أهواء قلوبنا، لقد جاء في رواية "البحث عن الزمن المفقود" أنّ مارسيل حينما شعر بأنه لم يعد يحب ألبرتن؛ فأخذ يفكّر كثيرًا ويخطط ويبحث عن طريقة للتخّلي عنها؛ حتى ساق له خادم منزله خبر أن ألبرتن قد رحلت عنه. وفي الوقت الذي سمع فيه هذه الكلمات: "لقد رحلت السيّدة ألبرتن"، أدرك مارسيل بأنه مازال يحبّها قائلًا: "لقد كشفت هذه الكلمات عما في قلبي ووضعتُه في صورة من العذاب، كنت متيقنًا من عدم مقدرتي على تحمّله في أي وقت، فما افترضت أنه لا يعني لي شيئا، كان هو الشيء الوحيد في حياتي برمّتها، كم يجهل الإنسان نفسه!".
إن مارسيل يجهل مشاعره دائمًا، ولنذكر حال صديقتي سوزان أيضًا التي كانت تربطها علاقة بشخص اسمه ستيفن، كان لطيفًا جدًا وكريمًا ومكترثًا ومخلصًا كثيرًا في محبّته لسوزان، كلاهما كانا موظّفين في الخدمة الاجتماعية ويتشاركان العديد من الاهتمامات، استمرت علاقتهما أكثر من سنة وكانا خلالها يلتقيان ببعضهما حتى أصبحت بينهما علاقة قويّة، إلا أن هناك مشكلة كان يلحظها أصدقاء سوزان عليها بأنها لا تحب ستيفن، على الرغم من اعتقادها بأنها تحبّه! ولكننا نلاحظ بأن سوزان كانت مقتنعة بأنها تشعر بشيء لا تشعر به أصلًا، لقد كان ستيفن بكل تأكيد صديقًا عزيزًا، ولكن هل كان كشخص تحبّه راغبة في قضاء بقية حياتها معه؟ لا يبدو ذلك! وحين أدركت سوزان في آخر العلاقة أنها كانت مخطئة؛ انتهت علاقتهما.
لعل ما حدث لمارسيل وسوزان استثناء، خاصة فيما يتعلق ببعض الناس الذين تعمى أبصارهم عن قلوبهم وعقولهم، ولكني أعتقد بأن معظمنا يمكنه التفكير في عدد المرات التي شعر فيها بحالة مماثلة من الحيرة، كما هي إليزابيث في رواية كبرياء وهوى، التي شعرت أن مشاعرها ناحية السيد دارسي لا يمكن تحديدها بدقّة:
"إنها تحترمه وتقدّره ومدينة له، لقد شعرتْ باهتمامٍ حقيقي أثناء رعايته، إنها تريد أن تعرف إلى أي مدى يمكنها أن تتخذ تلك الرعاية بنفسها، وإلى أي مدى ستكون السعادة لكليهما إذا استخدمت كيد مشاعرها الذي يخبرها مرارًا بأن دارسي مولعٌ بها، وأنها تستطيع أن تحظى بمحبّته فترة أطول".
تخيل أننا في مثل هذه الأوقات من الحيرة نوصل جهازًا بأنفسنا نسميه كاشف النفس، وبعد توصيل الأقطاب الكهربائية برقابنا وضبط المؤشّر باتجاهه الصحيح، نسأل السؤال التالي: كيف يمكنني أن أشعر بـالسيد ستيفن أو دارسي؟ وبعد عدد محدد من الطنين والضغط، يعرض الجهاز الجواب على شاشة المراقبة (بوصفه نسخة متطورة من الناحية التكنولوجية، مثل لعبة الكرة 8 السحرية (The Magic 8-Ball) التي يستخدمها بعض الأطفال في حفلاتهم للتكهّن عن مستقبلهم).
ولمعرفة كيف يمكن للناس الاستفادة من جهاز كاشف النفس، سألتُ الطلاب مرة في إحدى محاضرات الجامعة بأن يسألوا ما يرغبون به؛ ومثل إليزابيث في رواية كبرياء وهوى، فقد رغب بعض الطلاب أن يعرفوا ماهية شعورهم حقًا ناحية شخص ما؛ قالت إحدى الطالبات مثلًا بأن سؤالها الأول سيكون: "ما الذي أكنّه فعلًا لبعض الأشخاص في حياتي؟" كم هو رائع أن يكون هناك جهازٌ يجيبنا عن أسئلة كهذه!
وكان لدى الطلاب أسئلة حول طبيعة شخصياتهم وصفاتهم وقدراتهم (على سبيل المثال: "ما الهدف أو الدافع الرئيس في الحياة؟" - "لماذا لا أصلح في بعض المناسبات الاجتماعية؟" "لماذا يعوزني الدافع للقيام بالواجبات المنزلية؟"). إن بعضًا من هذه الأسئلة حول الأداء الأكاديمي والمهني، هي بلا شك متّصلة في مرحلة البلوغ المبكر بما هو مجهول، حتى الكبار المحنكون يتساءلون في بعض الأحيان عن شخصياتهم وقدراتهم، لأنّ تجاهل المرء لشخصيته قد يؤدي به إلى خيارات خاطئة، كالرجل الذي يفترض أن لديه ما يلزم ليعيش حياة هانئة لو أنه أصبح محاميًا، في حين أن الأنسب له أن يبقى معلّمًا، أو المرأة التي رفضت عرضَ إلقاء خطابٍ مهم؛ بسبب اعتقادها الخاطئ أنها لا يمكن أن تلقيه بنجاح.
أراد بعض الطلاب أيضا معرفة السبب الذي قادهم للشعور والتصرف بنفس ما شعروا وتصرفوا به في الماضي، مثلًا: ما ذلك الشيء الذي جعلهم سعداء؟ إن فهم أسباب استجابتنا لهو أمر حاسم يجنبنا الأحاسيس غير المرغوبة التي تسيطر على مشاعرنا وسلوكنا، ومن المناسب هنا ذكر قصة لمحامية: حيث تقدم أمريكي من أصول أفريقية راغبًا بالعمل معها مساعدًا في شركتها الخاصة، فرأت أن هذا المتقدم ليس مناسبًا للوظيفة، إذ يبدو باردًا وغير ودودٍ ويعلوه شيءٌ من العدوانية، بالرغم من أنها إنسانة عادلة وتؤمن أن الانطباعات السلبية لا تمتّ بصلة لأعراق المتقدمين للوظيفة، ولكن ماذا لو كانت مخطئة، وأنّ عنصريّتها أثرّت في انطباعها عنه من غير معرفتها؟ إنها لن تستطيع مواجهة تلك العنصرية؛ إذا لم تكن مدركة من الأساس أنها محفوفة بها وتؤثر في قرارتها.
يتناول هذا الكتاب سؤالين رئيسين: الأول: لماذا في أحايين كثيرة لا يعرف الناس أنفسهم جيدًا؟ (ما يتعلق بطبيعتهم مثلًا، لماذا يشعرون بما يشعرون به؟ أو ما هو سبب مشاعرهم تجاه أنفسهم؟). والسؤال الثاني: كيف يمكنهم تنمية معرفتهم الذاتية؟ مما لا شك فيه أن هناك أسبابًا عديدة لافتقار الناس إلى رؤية ذاتية؛ فقد يتجاهل بعضهم ذاته بسبب غطرسته أو حيرته أو حتى بسبب عدم إعطاء نفسه الوقت الكافي لاكتشاف حياته بوضوح، ولعل السبب الذي يقودني للحديث عن هذا الموضوع - وهو السبب الأكثر شيوعًا- أن كثيرًا ممّا نريد معرفته عن أنفسنا يكمن بمنأى عن الإدراك الواعي.
إنّ فكرة أن هناك جزءًا كبيرًا غير واعٍ من العقل البشري ليست جديدة، وهي من أهم الأفكار التي عرضها عالم النفس فرويد، فعلم النفس الحديث يدين كثيرًا لفرويد على قدرته السديدة من تجاوز ممرات الوعي الضيقة، إلا أن طبيعة العقل اللاواعي أحدثت ثورة كبيرة في علم النفس التجريبي وكشفت محدودية أفكار فرويد.
في البدء كان الباحثون في علم النفس يخشون الحديث حتى عن ذكر عمليات العقل اللاواعي، وفي النصف الأول من القرن العشرين، استنكر علماء السلوك النفسي بالحجّة المنطوية على العقل والمنطق وجادلوا بعدم جدوى الاهتمام بما يجري في أذهان الناس، سواء أكان ذلك بوعي منهم أم بدونه، وفي أواخر 1950م، أخذ الاتجاه السائد لعلم النفس الخطوة الرئيسة لرفض منهج السلوكية والشروع في دراسة منهجية للعقل، ولكن علماء النفس التجريبي في بدايته تجاوزوا مسار السلوكية وقالوا شيئًا يسيرًا عن بعض أجزاء العقل التي درسوها، وما إذا كانت في إطار الوعي أو اللاوعي. لقد كان هذا السؤال سؤالًا محظورًا، إلا أن قلّة من علماء النفس فضّلوا المخاطرة بتقديرهم الحديث للعقل بوصفه موضوعًا علميًا بقولهم: "إنّ الأمر لا يتوقّف على دراسة ما يفكر فيه الناس فحسب، بل يمكننا أيضًا دراسة ما يجري في أذهانهم من غير أن يلاحظوه"، وفي مختبرات النفس بين الأوساط الأكاديمية، كان ثلّة من الأطباء المميزين في علم النفس يفضّلون المخاطرة بقولهم إنهم من أتباع فرويد.
ولكن مع تقدّم علم النفس المعرفي والاجتماعي حدث ما هو مثير للضحك، فقد أصبح واضحًا أن الناس لا يستطيعون شرح العديد من العمليات الإدراكية التي يعتقد علماء النفس أنها تحدث داخل أذهانهم، فعلى سبيل المثال: طوّر علماء النفس الاجتماعي نماذج للطريقة التي يجهّز فيها الناس معلوماتهم وأفكارهم عن العالم الاجتماعي، بما في ذلك كيفية صياغة الأفكار الشائعة حول بعض الأشخاص واستمراريتها، أو إصدار الحكم على شخصية الآخرين، أو إضفاء بعض الأوصاف على أسباب تصرفاتهم وأفعالهم. وكلما درس الباحثون العديد من العمليات العقلية، يتّضح كثيرًا أن الناس لم يكونوا على دراية بحدوثها، وعندما استجوب الباحثون بعض الأشخاص المشاركين ما كانوا يفكرون فيه خلال تجاربهم، كان يحيّرهم أنهم يكتفون بهز رؤوسهم قائلين: "إنها طريقة مثيرة جدًا للاهتمام، لكنني أخاف من عدم قدرتي على استذكار أفكار نائية كهذه"، لقد تبيّن أن معظم العمليات العقلية التي درسها علماء النفس المعرفي والاجتماعي تحدث بعيدًا عن إدراك الناس لها، وأصبح مستحيلًا تجاهل هذه الحقيقة، وبدأت النظريات حول سبر اللاوعي تقترب من علم النفس التجريبي.
ومع ذلك فقد كان العديد من علماء النفس رافضين استخدام مصطلح "العقل اللاواعي"؛ خوفًا من اعتقاد بعض زملائهم بأنهم معتوهون، وقد صيغت عدة مصطلحات أخرى لوصف عمليات العقل التي تحدث بمنأى عن الإدراك، مثل "تلقائي" و "ضمني" و "لا اكتراثي" و "إجرائي"، ولا شك أن مثل هذه المصطلحات تؤدي غرضها في بعض الأحيان لوصف نوع خاص من العمليات العقلية أفضل من مصطلح "اللاوعي" في منظوره العام، وقد ازدهرت -على سبيل المثال- دراسة العمليات العقلية التلقائية، وصعوبة إدراك هذه العمليات ليس إلا واحدًا من خصائصها الواضحة.
ولكنّ اليوم مصطلح "العقل اللاواعي" أو "اللاوعي" يُستخدم كثيرًا وبتزايدٍ في الصحف الرئيسة، وظهرت صورٌ من العمليات العقلية الدارجة والمتكيفة والمعقدة خارج حدود الإدراك، وفي الواقع صرّح بعض الباحثين بأن العقل اللاواعي يؤدّي جميع المهام فعليًا، وأن العقل الواعي ليس إلا مجرد أوهام. على الرغم من أن الجميع ليسوا على استعدادٍ لإقصاء تفكيرهم الواعي إلى مجموعة السلوكيات المرفوضة التي تصاحب العقل اللاواعي، إلا أن هناك اتفاقًا أكثر من السابق على أهمية التفكير والشعور والدوافع اللاواعية.
إن الفجوة بين علماء النفس والمحللين النفسيين قد تقلّصت إلى حد كبير، وأصبحت اهتمامات علم النفس العلمي منطوية على دراسة العقل اللاواعي، ومع ذلك لم تُسد هذه الفجوة تمامًا، إذ يبدو جليًا أن العقل اللاواعي المتكيف الحديث ليس هو نفسه في التحليل النفسي.
العقل اللاواعي المتكيف مقابل العقل اللاواعي الفرويدي.
كثيرًا ما غير فرويد وجهة نظره ولا سيما من نموذجه الطوبولوجي للعقل إلى النظرية الهيكلية عندما نشر كتابه (الأنا والهُوَ) في عام 1923م. إن العديد من مدارس الفكر التحليلي الحديث تركّز بتفاوت على دوافع العقل اللاواعي والعلاقات العاطفية ووظيفة الأنا، ولعلّ مقارنة الرؤية الحديثة من العقل اللاواعي المتكيف مع العقل اللاواعي الفرويدي ما هي إلا محاولة لإصابة أهداف غير ثابتة؛ لما بينهما من اختلافاتٍ واضحة في الآراء.
ما طبيعة العقل اللاواعي؟
ميّز نموذج فرويد الطوبوغرافي للعقل نوعين من العمليات العقلية اللاواعية. الأول: أن الناس يحملون العديد من الأفكار التي لا تكون هي محور اهتماماتهم الحالية، كاسم معلم الرياضيات في المرحلة الابتدائية، وهذا النوع من المعلومات يكمن في "العقل الباطن" كما يشير له فرويد، وبمجرّد إيلائه نوعًا من الاهتمام ينتقل إلى مرحلة الوعي. ولاحظ فرويد ما هو أهم من ذلك النوع، وهو وجود مخزن كبير من الأفكار البدائية والناشئة والتي تبقى خارج نطاق الوعي وتكون هي مصدر المعاناة النفسية، إذ يصيب هذه الأفكار نوع من الكبت لسبب ما، بصرف النّظر عن أن تفكيرنا قد انشغل عنها بشيء آخر. أما نموذج فرويد الهيكلي للعقل والذي جاء بعد ذلك فقد كان معقدًا جدًا، لأنه خصص عمليات العقل اللاواعية للأنا والأنا العليا والهُوَ، وركّز على التفكير اللاواعي بصفته بدائيًا وحيوانيًا، وميّز الفكر الواعي بأنه أكثر عقلانية ورقيًا.
وفقًا للمنظور الحديث، فقد كانت رؤية فرويد للعقل اللاواعي محدودة جدًا عندما ذكر (بعد غوستاف فيشنر وهو من أوائل علماء النفس التجريبي): بأن الوعي ما هو إلا قطرة صغيرة من بحر العقل، ولم يصب ولو شيئًا يسيرًا من الحقيقة في مقولته تلك، لأن الوعي أكبر من ذلك، فالعقل يعمل بفعالية عالية عندما نُسقط قدرًا كبيرًا من التفكير السامي والرفيع إلى العقل اللاواعي، تمامًا مثلما يمكن لطائرة جامبو الحديثة أن تحلّق بلا طيار، مع مساهمة ضئيلة أو ربما تكون معدومة حتى من التدخل الإنساني "الواعي" - كالطيار مثلًا- إذ يعمل العقل اللاواعي المتكيف ببراعة في إصدار الأحكام على العالم، وتحذير الناس من الوقوع في الخطر، ومساعدتهم في تحديد أهدافهم والشروع في العمل بطريقة ناجحة وفعّالة، بل إنه جزء ضروري يمتد من العقل ذي الفعالية العالية، وليس مجرد طفل كثير المطالب من عائلة العقل الذي قد طُوّرت لأجله بعض وسائل الدفاع ليبقى تحت الضّغط والسيطرة.
ليس العقل اللاواعي كيانًا واحدًا من روح وإرادة خاصّة به، إنه يمثّل مجموعة من الأنماط التي تطورت عبر الزمان عند البشر وتعمل خارج الوعي، على الرغم من أنني سأشير غالبًا إلى العقل اللاواعي المتكيف باعتباره اختصارًا مناسبًا، ولا أقصد وصفه بالكيان الواحد كما هو موصوف في العقل اللاواعي الفرويدي. نملك -على سبيل المثال- معالج اللغة اللاواعي الذي يمكّننا من تعلم اللغة واستخدامها بسهولة، ولكن هذا النموذج العقلي منفصل نوعًا ما عن قدرتنا على تمييز الوجوه بسرعة وإتقان أو تقدير الأحداث البيئية من حولنا بيُسر ودقّة جيدة كانت أم سيئة، إنه من الأفضل حينئذ أن ننظر إلى العقل اللاواعي المتكيف كمجموعة من الكواكب المترابطة في فضاء العقل البشري، وليس كذلك الكائن الغريب من فيلم ساحر مدينة الأوز الذي يثير الرعب من خلف السّتار.
ما سبب وجود العقل اللاواعي؟
جادل فرويد بأن دوافعنا الغريزية لا تصل في الغالب إلى مرحلة الوعي؛ لأن أنفسنا العقلانية والواعية لا تقبلها ولا المجتمع أيضًا، المجتمع الذي مازال يردد "واحدة من خرافات الأساطير القديمة، والمتأثر بها منذ العصور الأولى بأن الآلهة المنتصرة ألقت عليهم أحجامًا كبيرة من الحجارة". لقد تمكّن الناس من تقوية عددٍ لا يحصى من الدفاعات النّفسية التي تجنبهم معرفة دوافعهم ومشاعرهم اللاواعية، ومن هذه الدفاعات ما يُعرف بـ (التسامي) وهو في الحقيقة أجدى من دفاعاتٍ أخرى غيره (كالكبت أو التظاهر برد الفعل وما إلى ذلك)، إذ تشتمل المراحل العلاجية على توضيح الأفكار الدفاعية غير الصحية، وإمكانية التحايل عليها، والتي يبدو أنها مشكلة معقدة؛ لأن الناس يميلون في الغالب إلى إخفاء دوافعهم ومشاعرهم اللاواعية.
تشير الرؤية الحديثة إلى أن هناك سبب أبسط لوجود مثل هذه العمليات العقلية اللاواعية، وهو تعذّر مراقبة عدد الأجزاء التي تعمل في عقول النّاس، خصوصًا بعض وظائفها الأساسية: كالإدراك والتذكر واستيعاب اللغة، وليس القلق الناتج أثناء مراقبتها هو سبب صعوبتها ، بل لأن هذه الأجزاء من العقل يتعذّر الوصول إليها من طريق الوعي، ومن المحتمل جدًا أنها تشكلت قبل أن يتشكّل الوعي نفسه. عندما نطلب من الناس أن يصفوا لنا بدقة نظرتهم إلى العالم ثلاثي الأبعاد، أو كيف تستطيع عقولهم تفسير تلك البلبلة من شخص يهذر بجوارهم إلى كلام مفهوم؛ فإن ألسنتهم ستنعقد تمامًا. إن الوعي عبارة عن نظام ذي سَعة محدودة، ولكي يعيش الناس في هذا العالم، يجب أن يكونوا قادرين على تفسير قدر كبير من المعلومات خارج الوعي، وقد اعترف كارل يونغ بهذه الحقيقة في 1920 م:
"هناك جانب آخر من جوانب العقل اللاواعي، إن نطاقه لا يقتصر على الشعور المكبوت فقط، بل يمتد ويصل إلى كل تلك الاحتياجات النفسية التي يصعب وصولها إلى عتبة الوعي، إنه لمن المستحيل أن تُفَسّر طبيعة الاحتياجات النفسية قبل مرحلة هذه العتبة بمبدأ الكبت، وإلا فإن المرء عندما يتحرر من الكبت، سيملك حينئذٍ ذاكرة فائقة لا تنسى شيئًا".
لا شكّ أن فرويد كان سيتفق مع يونغ، وربما سيقول: "أوه نعم، ولكن هذا النوع من التفكير اللاواعي هو جزء صغير من الاحتياجات النفسية، كمجموعة من المسامير أو حبّات البندق، وذلك التفكير الأدنى هو قليل الأهمية مقارنة بقضايا العقل والقلب، كالحب والعمل واللعب، فلا يمكن أن نصل بوعينا الكامل إلى تصوّر مثل هذه الأشياء الدقيقة، كعدم استطاعتنا أن نصل بذلك الوعي إلى معرفة كيفية عمل الجهاز الهضمي بدواخلنا، والحقيقة تشير إلى أن الكبت هو سبب حدوث عمليات العقل العليا بلا وعي، فالناس قد يصلون مباشرة إلى رغباتهم ودوافعهم الفطرية إذا استطاعوا تجاهل ذلك الكبت والمقاومة النفسية، لكنهم يبذلون قصارى جهدهم لتبقى هذه الأفكار والمشاعر خارج حدود الإدراك".
أما النظرة الحديثة إلى العقل اللاواعي المتكيّف بخلاف ذلك، فهي تنطوي على أن العديد من القضايا المثيرة حول ماهية العقل البشري – كإصدار الأحكام وطبيعة المشاعر والدوافع – تحدث خارج حدود الإدراك بسبب كفاءته لا بسبب الكبت، فكما أن بنية العقل تمنع عمليات العقل الدنيا (مثل الوظائف الإدراكية) من الوصول إلى الوعي، فإن العديد من عمليات العقل العليا لا يمكن الوصول إليها كذلك. إن العقل نظامٌ عالي التصميم وباستطاعته تحقيق مهام عديدة بدرجة متوازية، وذلك بقدرته على تحليل مجريات العالم والتفكير فيه خارج حدود الإدراك بينما الجزء الواعي منه يفكّر في شيء آخر، وهذا لا ينفي أن هناك بعض الأفكار تجلب كثيرًا من الخوف وأن بعض الناس يصرّون على تجنب معرفتها أو التفكير فيها، وقد لا يكون الكبت على أية حال هو أهمّ الأسباب؛ لافتقار الناس إلى طريقة مباشرة للوصول بوعي إلى أفكارهم ومشاعرهم ورغباتهم، ولا يمكن التقليل من العواقب الناتجة عن كيفية الوصول إلى العقل اللاواعي التي تشكّل موضوعًا رئيسًا في هذا الكتاب.
العقل اللاواعي غير الفرويدي
لتوضيح كيف يختلف العقل اللاواعي المتكيف عن الفرويدي، دعونا نلقي نظرة مختلفة على التاريخ ونتصوّر كيف يمكن أن تتطور أفكار العقل اللاواعي لو أن فرويد لم يقترح نظريته للتحليل النفسي، وكي نفعل ذلك، سيكون من الضروري النظر بإيجاز في أحوال التفكير ما قبل فرويد، حول عمليات العقل اللاواعي.
في القرن التاسع عشر، أثّرت فكرة ديكارت حول التفكير في طبيعة العقل اللاواعي لفترة طويلة، إن ديكارت يشتهر بتقسيمه الواضح للعقل والجسد وهو ما يسمى "بالثنائية الديكارتية"، أو مشكلة "العقل والجسد" التي كثيرًا ما أشغلت الفلاسفة وعلماء النفس منذ ذلك الحين، وقد اعترض الكثيرون على فكرة أن العقل والجسد كيانان منفصلان يطيعان قوانين مختلفة، والقليل من الفلاسفة أو علماء النفس اليوم يعّرفون أنفسهم بأنهم ثنائيون؛ إلا أن أنطونيو داماسيو اعتبر فكرة "الانفصال الكامل بين الجسد والعقل" بأنها "خطأ ديكارت".
لقد ارتكب ديكارت خطأ شبيهًا آخر، أقل شيوعًا ولكنه لا يقل فظاعة، فهو لم يقتصر على أنه منح العقل مركزًا خاصًا لا علاقة له بالقوانين المادية، بل ذهب إلى تقييد العقل بالوعي، ويصر بأن العقل يتشكّل من تفكير الناس الواعي وليس من شيء آخر، إن هذه المعادلة من التفكير والوعي تلغي في وهلةٍ سريعة أي احتمال للتفكير اللاواعي - وهي الخطوة التي كان يسمّيها آرثر كويستلر "المأساة الديكارتية" ويعتبرها لانسلوت وايت: "أنها واحدة من الأخطاء الأساسية التي ارتكبها العقل البشري" ويشير كويستلر إلى أن هذه الفكرة أدت إلى "إفقار علم النفس الذي استغرق الحال ثلاثة قرون لعلاجه".
وعلى الرغم من خطأ ديكارت، إلا أن عددًا من المنظرين الأوروبيين في القرن التاسع عشر أمثال باسكال وليبنيز وشيلينغ وهربارت، قد افترضوا بوجود الإدراك والعقل اللاواعي. ولعلّه جديرٌ بالذكر الإشارة هنا تحديدًا إلى أن هناك مجموعة من الأطباء والفلاسفة البريطانيين قد طوروا بعض الأفكار حول العمليات اللاواعية، والتي كانت علنًا معادية للديكارتية، وهي أشبه بالتفكير الحالي حول العقل اللاواعي المتكيف، ويجدر النظر إلى هؤلاء المنظرين العلماء، ولا سيما ويليام هاميلتون وتوماس لايكوك وويليام كاربنتر - بأن لهم السبق في أن يكونوا آباءً للنظرية الحديثة للعقل اللاواعي المتكيف؛ لقد لاحظ هؤلاء العلماء أن هناك أجزاءً كبيرة من الإدراك البشري والذاكرة والأفعال تحدث دون قصد واعٍ أو إرادة، وخلصوا للقول بأنه يجب أن يكون هناك "قصور ذهني" (مفهوم لهاميلتون، مقتبس من ليبنيز) أو "عملية التفكير اللاواعي" (مفهوم لكاربتنر) أو "إعادة عمل الدماغ السابق" (مفهوم للايكوك) إن أوصافهم هذه لعمليات اللاوعي أشبه بوجهات النظر الحديثة، إلا أن بعض الاقتباسات من كتاباتهم يمكن أن تكون خاطئة لإقحامها في مقالات علم النفس التحليلي الحديثة.
عمليات العقل الدنيا تحدث خارج الوعي: لاحظ هاميلتون، وكاربنتر، ولايكوك، أن النظام البشري الإدراكي يعمل أكثر غالبًا خارج العقل الواعي، وهي الملاحظة التي أشار إليها هيرمان هلمهولتز أيضًا، على الرغم من أن هذا الرأي يبدو مقبولًا وواضحًا اليوم، إلا أنه لم ينتشر كثيرًا في ذلك الوقت؛ بسبب نظرية الثنائية الديكارتية، ولم يكن هذا مقبولًا أيضًا عند علماء النفس الحديث حتى الثورة المعرفية في 1950م.
الانتباه المشتت: لاحظ وليام هاميلتون بأن الناس يمكنهم التركيز بوعيٍ في شيء ما بينما يتشتت تركيزهم بلا وعي في شيء آخر، وقد أعطى مثالًا لشخص يقرأ بصوت عالٍ، في حين يلاحظ أفكاره تسرح في موضوع آخر تمامًا: "إذا كانت الفكرة مثلًا غير مثيرة للانتباه، فإن أفكارك وأنت مسترسل في أداء مهمة القراءة هذه، مُستنبطة بأكملها من محتوى الكتاب وموضوعه، وربما كنت مستغرقًا بعمق في حالة تأمل عميقة، إن عملية القراءة حينذاك تحدث دون انقطاع، ومع قوّة التركيز الشديدة في الوقت نفسه، فإن عملية التأمل تحدث أيضًا دون تشتت أو إجهاد". لقد تنبأ هاملتون بالنظريات المستمدة من الاهتمام الانتقائي التي تطوّرت على مر الزمان.
تلقائية الأفكار: جادل منظرو القرن التاسع عشر بأن عملية التفكير يمكنها أن تكون تلقائية فتحدث في اللاوعي بدون إدراكنا، وهي فكرة لم يُلتفت لها في علم النفس إلا في السبعينيات 1970م، وقد لاحظ ويليام كاربنتر -على سبيل المثال- بأنه "حينما تكون الأفكار تلقائية بشكل عام ... خصوصًا عندما نراقب ما يُسمّى بـ (آلية الأفكار) تكون حينئذٍ أكثر وضوحًا، ليس فقط من ناحية عملها التلقائي، بل إن جميع تلك التصرفات اللاواعية تندرج أيضًا تحت عملياتها التلقائية".
الآثار المترتبة على عمليات التفكير اللاواعية بسبب التحيّز: واحدة من أكثر الخصائص المثيرة للعقل اللاواعي المتكيف هي استخدام الصور النمطية والشائعة عند تصنيف وتقييم الآخرين، تنبأ بهذه الفكرة ويليام كاربنتر منذ أكثر من قرن، مشيرًا إلى أن الناس ينمّون بشكل اعتيادي "نزعة أفكارهم" اللاواعية، وأن هذه الأنماط من التفكير يمكن أن تؤدي إلى تحيزات ليست واعية تتشكّل فيما بعد، وتصبح بعدئذٍ راسخة رسوخًا شديدًا، أكثر من تلك التحيزات الواعية، وهي أشد خطورة؛ لأننا لا نستطيع حماية أنفسنا منها.
قلة وعي المرء بمشاعره: من مسائل الجدل المثيرة حول العقل اللاواعي المتكيف هي مدى إمكانيته لإثارة بعض المشاعر والرغبات التي لا يدركها الناس.
لقد جادل كاربنتر بأن ردود الفعل العاطفية يمكنها أن تحدث خارج الوعي حتى نلقي إليها انتباهنا، لأن مشاعرنا تجاه الناس والكثير من الأشياء قد تخضع لأهم التغيرات التي تحدث لنا دون أن نكون واعين لها أبدًا، حتى نلقي انتباهنا مباشرة بالحالة العقلية إلى ذلك التغيّير الذي حدث.
الذات اللاواعية: هل أهم الجوانب في شخصياتنا تتوارى عن الأنظار؟ بمعنى أنه لا يمكننا تحديد ما الجوانب المهمة فيها ومن نكون؟. لقد كتب ويليام هاميلتون كثيرًا عن الطريقة التي تصبح فيها عادات المرء المكتسبة في وقت مبكر من الحياة جزءًا لا ينفصل عن شخصيته، وقد قيل إن هذه العمليات العقلية ما هي إلا نوع من "الذات التلقائية" التي لا يملك الناس طريقة للوصول إليها بوعيهم، - وهي فكرة لم تظهر في علم النفس لأكثر من 100 سنة.
لماذا نُسيت أعمال هاميلتون ولايكوك وكاربنتر كثيرًا ؟ ببساطة لأن النوع المختلف جدًا من العقل اللاواعي أعاق هذه الآراء أن تتصدّر، وكما أعرف بأنّ فرويد حتى لم يقتبس أو ينقل أفكار هؤلاء المنظرين، برغم معرفته بها، لكنه يرى أن كتاباتهم لا تمت بصلة لهذا العقل اللاواعي الفعّال والمكبوت.
ولكن ماذا كان سيحدث لو أن فرويد لم يقترح نظرية التحليل النفسي؟ تخيل أن المذهب المخالف للسامية - في القرن التاسع عشر في فيينا- لم يعق مسيرة فرويد من بدء حياته المهنية أستاذًا جامعيًا في علم وظائف الأعضاء، واستمرار دراسته للحبل الشوكي لعالم الأسماك، أو تخيّل أنه قد أدمن الكوكايين حينما أجرى عليه دراسة عام 1884م، أو تخيّل أنه لم يلتقِ قط بجوزيف بريور الذي بدأ دراسته في الهستيريا، وكما هو الحال بطبيعته يمكننا افتراض كثير من "تخيّل أن" التي يمكنها أن تحدث تغييرًا في مسيرة فرويد النفسية.
إن علم النفس التجريبي بدأ كتخصص لا يتأثر بالتفكير التحليلي النفسي من جانبين رئيسين: الأول: عدم الشعور بالحاجة من قِبل الباحثين لإقصاء أنفسهم عن الأفكار المعقدة، في دراسة وتفحّص ديناميكية العقل اللاواعي، لقد كانوا يملكون حرية كاملة للنظر إلى التفكير اللاواعي، كما نظر إليه لايكوك وكاربنتر وهاملتون بصفته مجموعة من نظم معالجة المعلومات الفّعالة والمتطورة. الثاني: كانت لديهم الحرية الكاملة في دراسة وتفحص العقل بما فيه الأجزاء غير الواعية منه، وباستخدام تقنيات تجريبية أيضًا، لقد كان رفض الأسلوب العلمي كوسيلة لدراسة العقل جزءًا مهمًا من تراث فرويد، ولم يكن ممكنًا دراسة الطبيعة المعقدة لحركة العمليات العقلية اللاواعية في بعض التجارب المخططة، بل ربّما يمكن اكتشافها عن طريق المتابعة التحليلية الدقيقة، وبكل تأكيد يمكن أن تكون هذه المتابعة التحليلية نافعة جدًا، ولكن علماء النفس قد اختاروا مبكّرًا الدراسة التجريبية للعمليات العقلية اللاواعية بعيدًا عن هذه المنهجية المحدودة.
وبصرف النّظر عن فرويد، كان على الباحثين المهتمين بالعقل اللاواعي أن يواجهوا الحركة السلوكية التي تعتبر أن دراسة العقل لا طائل منها؛ إن أحد الأسباب التي أدت إلى ازدهار الحركة السلوكية في أوائل القرن العشرين ومنتصفه هو أنها قدّمت بديلًا علميًا لما كان يُنظر إليه على أنه غموض في المفاهيم والأساليب التحليلية، ومن غير هذا المنظور، فقد يكون ممكنًا أن اكتشاف علم النفس جاء قبل اكتشاف العقل، بما في ذلك العقل اللاواعي ويمكن حينها دراسته علميًا.
وهكذا في أفكاري المخالفة، فقد طبّق علماء النفس المعرفي والاجتماعي تقنياتهم التجريبية المتميزة، والتي اختُبرتْ بشكل جيد لدراسة العقل اللاواعي المتكيف والمتطور قبل أن يفعلوا ذلك في الواقع، ومن دون تقييدها بعقبات ومنهجية نظرية التحليل النفسي التي وُضعت لعلم النفس التجريبي، أو انتشار البحوث والنظريات على العقل اللاواعي المتكيف.
ومن المؤكد أن هذا التاريخ المُخالف يسيء إلى أولئك الذين يعتبرون وجهات نظر فرويد لا غنى عنها في التنظير حول العقل اللاواعي، لقد جادل بعض المنظرين، أمثال: ماثيو إردلي ودرو ويستن، بصورة مقنعة أن التحليل النفسي ليس إلا أمرًا حاسمًا لتطوير النظرة الحديثة للعقل اللاواعي، وأن الأبحاث الحديثة قد دعمت حقًا رؤى فرويد الرئيسة حول طبيعة التفكير اللاواعي.
أتّقق على أن أعظم رؤى فرويد كانت حول انتشار التفكير اللاواعي، ونحن مدينون كثيرًا له ولمساعيه الصامدة والإبداعية حول طبيعة العقل اللاواعي، إنه من الصعب إنكار أهمية اللاوعي الفرويدي البدائي والديناميكي والفريد؛ بسبب تسلسل أحداث التحليل النفسي المثيرة والتي تكشف كثيرًا من الغموض، إنني أهدف من خلال تجربتي المخالِفة هذه إلى: توضيح أن تلك الأحداث ليست هي التفسيرات الوحيدة للعقل اللاواعي، وأنه قد يكون بالإمكان الوصول إلى الاتجاه الراهن بسرعة أكبر إذا لم يسيطر التحليل النفسي على الساحة الفكرية.
قد يبدو سرد تسلسل أحداث العقل اللاواعي المتكيف كإلغاء لكل ما هو مهم حول عمليات العقل اللاواعي، وقد يجد القارئ المنحاز قليلًا إلى التحليل النفسي، مع تركيزه على قدرة العقل التلقائية لإصدار المعلومات، بأن العقل اللاواعي المتكيف ضعيف وهزيل، بل ربما أسوأ من ذلك؛ سخيف. أما العقل اللاواعي الفرويدي فإنه عجيب وخارق ومثير وقد ظل لفترة طويلة موضوع الأدب العظيم ربما منذ سوفوكليس، وهناك عدد قليل من المسرحيات والروايات الرائعة التي تنطوي على فكرة الدليل التلقائي للعقل Automatic pilot of the mind تبدو وكأنها تتحدث عن الحب الرومانسي، من غير الخوض في اللذة والعلاقات الجنسية، وتركّز تحديدًا على العقل اللاواعي المتكيف.
ولكن هذا الرأي مضلل، لأنه يقلل من شأن الدور الذي يؤديه العقل اللاواعي المتكيف في كل أمرٍ مهم ويجلب إثارة في الحياة، بما في ذلك مفهوم فرويد الشهير arbeiten und lieben "العمل والحب" وكما سنرى فإن العقل اللاواعي المتكيف لا يتعلق فقط بالأشياء الصغيرة، بل يؤدي دوره الرئيس في جميع جوانب الحياة، ولعلّ افتقار الأدب العظيم لمثل هذه الأفكار التي تتحدث عن العقل اللاواعي المتكيف دليل على انتشار تفكير التحليل النفسي أكثر من غيره.
ومع ذلك فإن النظرة الحديثة للعقل اللاواعي ليست مناقضة لنظرة فرويد، إن مجرّد القول بأننا نمتلك مجموعة دقيقة وفعالة من العمليات اللاواعية والضرورية، والتي نتنقّل بها في عالمنا، لا يُلغي أنه قد يكون هناك أيضًا قوى فعّالة تعمل على إقصاء الأفكار المزعجة خارج نطاق الوعي. سنرى في بعض الحالات من الفصول القادمة بعض الظواهر المصبوغة بآراء فرويد والتي يبدو حينها أن قوى الكبت تؤدي عملها، ولربما يتفاعل بعض القراء بقولهم: "متأكد أن فرويد قد قال ذلك!" والجواب قد يكون نعم إما هو أو أحد من أتباعه العديدين قال ذلك. إن السؤال الذي يجب أخذه بالاعتبار رغم كل شيء هو: هل نحن بحاجة إلى نظرية فرويد لنشرح ذلك؟ وهل هناك تفسيرات أبسط لبعض ظواهر العقل اللاواعي التي ناقشها؟
في بعض الأحيان قد يكون الجواب أن فرويد كان على حق حول فعالية وكبت طبيعة العقل اللاواعي، وفي حالات أخرى قد يكون أنه على الرغم من أن فرويد لم يقل ذلك، إلا أن أحد أتباعه العديدين قد قال شيئًا عنها، ولا سيما أولئك الذين أهملوا التركيز على دوافع الطفولة وركّزوا على دور علاقة الأشياء ببعضها ووظيفة الأنا، وسنرى في كثير من الأحيان أدلة على نظام اللاوعي الشاسع يختلف تمامًا عما كان يتصوره فرويد.
وإضافة لما سبق فقد كان فرويد وأتباعه يختلفون على النقاط الرئيسة، ويجدر الذكر أنه على مدى مسيرته المهنية الطويلة غيّر فرويد رأيه حول المفاهيم الرئيسة كطبيعة الكبت مثلًا، ومن هنا ينشأ السؤال التالي والمهم عن إمكانية معرفة ما الفكرة الصحيحة من بين هذه الأفكار العديدة؟. إن أهم ميزة في نهج التحليل النفسي الحديث هي: الاعتماد على طريقة تجريبية للتحقق من الظواهر العقلية، لقد كانت هناك ثورة بحثية عن العقل اللاواعي المتكيف بسبب تطوير بعض التقنيات التجريبية الذكية لدراسته، والكثير منها سوف نناقشه هنا، وربما تكون المتابعة التحليلية وتاريخ بعض الحالات مصدرًا غنيًا للفرضيات حول طبيعة العقل اللاواعي، ولكن في النهاية يجب أن نتحقق من هذه الأفكار بشكل دقيق جدًا وعلمي، وعلى هذا الحال حتى لو كان الجواب "نعم، فرويد قد قال ذلك" فربما هو أو أحد من أتباعه قد قال شيئًا مختلفًا تمامًا، ومن خلال طبيعة عمل علماء النفس التجريبي المطّلعون، يمكننا أن نفرق بين ما هو حقيقي وما هو زائف.
الآثار المترتبة على الرؤية الذاتية
ثمة اختلاف رئيس آخر بين المنهج الفرويدي والمنهج الحديث في كيفية تحقيق الرؤية الذاتية، إن التحليل النفسي يشترك مع العديد من المناهج الأخرى في: أن الطريق إلى المعرفة الذاتية يقودنا إلى الداخل، وتشير هذه الفكرة إلى أنه يمكننا من خلال الاستبطان العميق أن نزيل الغبش الذي يحجب مشاعرنا ودوافعنا الحقيقية، وهي عملية ليست سهلة، بل يجب على المرء أن يدرك حواجز الكبت والمقاومة النفسية ويسعى لإزالتها، ولكن عندما نحقق مثل هذه الرؤية الذاتية بمساعدة من الطبيب النفسي، سنتمكّن من الوصول مباشرة إلى رغباتنا اللاواعية، كما كتبت آنا فرويد: "إنها مهمة المحلل النفسي، أن يجلب الوعي فيما هو ليس واعٍ." وهي فرضية أدلت بها جميع أشكال علاج الاستبصار النفسي.
ولكن المشكلة تكمن في أن الأبحاث التي أجريت على العقل اللاواعي المتكيف تشير إلى أن الكثير مما نريد معرفته؛ تستحيل رؤيته. إن العقل هو أداة متطورة وفعّالة بصورة مدهشة، بل يتفوق على أفضل حاسوب صُنع على الإطلاق، ومن أهم المصادر لقوته الهائلة قدرته السريعة على إجراء تحليلات ليست واعية لعدد كبير من المعلومات الواردة، والتعامل معها بفعالية، حتى حينما يكون عقلنا اللاواعي مشغولا بشيء ما، فإننا نستطيع في الوقت نفسه أن نفسّر ونقيّم ونختار المعلومات التي تتماشى مع رغباتنا.
ولكن ما هو خلاف ذلك: أنه من الصعب معرفة أنفسنا لأننا نفتقر إلى طريقة مباشرة للوصول إلى العقل اللاواعي المتكيف بغض النّظر عن مدى صعوبة ما نحاول القيام به، والسبب يعود إلى أن عقولنا تبلورت لتعمل خارج نطاق الوعي، والعمليات اللاواعية هي جزء من بنية الدماغ نفسه، وربما ليس ممكنًا أن نصل مباشرة إلى هذه العمليات اللاواعية، إن محاولة أن نجعل من اللاواعي شيئًا واعيًا هو أصعب من دراسة وفهم لغات التجميع التي تتحكم في برامج معالجة النصوص.
إن المحاولة لدراسة العقل اللاواعي المتكيف من خلال النظر إلى الداخل ليست مجدية، ومن الأفضل دائمًا اكتشاف طبيعة عقولنا الخفية عن طريق متابعة تصرفاتنا وكيفية تعامل الآخرين معنا، لنصل حينها إلى صورة جيدة عنا، فيجب علينا في الأساس أن نكون مثل كتّاب السير الذاتية لحياتنا، ونصف تصرفاتنا ومشاعرنا في حكاية هادفة ومؤثرة، وإن أفضل طريقة لكتابة قصة ذاتية رائعة؛ أن تبتعد قليلًا عن اكتشاف النفس وسبر أغوارها ومحاولة الكشف عن المشاعر والدوافع الخفية.
هناك أدله تشير بالفعل إلى أن الإفراط في النظر إلى الداخل يمكن أن تكون له آثار معاكسة، وسوف نرى أدلة على أن استبطان المشاعر قد يقود الناس إلى أن يتّخذوا قرارات طائشة ويصبحوا مشوّشين حيال ما يشعرون به، ولكي يتّضح الأمر، فإنني هنا لا أقلل من جميع أنواع الاستبطان، لقد أخطأ سقراط بعض الشيء حينما قال: "أن الحياة من غير تجارب لا تستحق العيش"، إن الحل هو ذلك النوع من التحقق الذاتي الذي يمارسه الناس، ومدى محاولتهم لاكتشاف أنفسهم من خلال النظر إلى دواخلهم، مقابل النظر إلى تصرفاتهم الخارجية وكيف يتعامل معهم الآخرون.