السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 1:09 صباحاً
تولـّي خبراء التشريح مهمة الكشف عن ألغاز قديمة
لطالما تساءل العلماء عن سبب الاختلافات الكبيرة في السمات الجسدية بين الإنسان البدائي والإنسان الحديث المنحدر من سلالته. وقد تدارس الباحثون تحديدًا العوامل التي استوجبت بروز تكوين وجه الإنسان البدائي إلى الأمام وضخامة أنفه. وكما نُشر في إصدار الرابع من شهر أبريل من Proceedings of the Royal Society B، بإن الإجابة قد توصل إليها فريق بحث عالمي برئاسة بروفيسور من جامعة نيو إنجلاند- استراليا، بمساعدة متخصص في ديناميكا السوائل والتشريح في مؤسسة نيويورك التقنية بكلية الطب التقويمي العظمي في جامعة ولاية اركنساس (NYITCOM at A-State).
يعد الإنسان البدائي أو كما هو متعارف عليه بمسمى ”رجل الكهف” الذي قد عاش منذ 60,000 سنة أولى الأحافير التي عثر عليها للإنسان عند اكتشاف آثارٍ في القرن التاسع عشر في ما يعرف الآن ببلجيكا.
وقد دلت بقايا الأحافير على أن بنية هؤلاء الأسلاف كانت أقصر وأكثر قوة وصلابة من الإنسان الطبيعي في هذا العصر، ولربما يتجلّى ذلك في ضخامة أنوفهم وطول وجوههم الذي يبرز قسمه الأوسط بشدة إلى الأمام.
Forensic Reconstruction of a Homo Neanderthal by Cicero Morales.
يقول د جيسون بورك البروفسيور المساعد في علم التشريح في NYITCOM وخبير ميكانيكا السوائل في فريق البحث العالمي : “لقد أدى التباين الجسدي بين الإنسان الحديث ورجل الكهف إلى تصنيف الأخير تاريخيًا بأنه أكثر همجية وبلاهة ودونية من الإنسان المعاصر من كل النواحي تقريبًا”
ويضيف “ومع ذلك، كلما تعمقنا أكثر في نظامهم الغذائي ومعتقداتهم الروحية وسلوكهم، يتضح لنا أنهم كانوا أكثر تعقيدًا مما نظن، فبغض النظر عن تركيبة وجوهِهم، قد لا يختلفون جذريًا عن الإنسان اليوم.
والآن السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا يختلف مظهرهم إذن؟
( First reconstruction of Neanderthal man – 1888 . ( Public Domain
وللإجابة على هذا السؤال، طبق الباحثون طرق ومحاكات حاسوبية لمقارنة السلوك الفيسيولوجي بين الإنسان البدائي والحديث.
ومع الاستعانة بالتصوير المقطعي بالحاسوب، استطاعوا صنع نموذج ثلاثي الأرباع لعدة أفراد، ومحاكاة استجابة تعابير الوجه لمختلف المواقف اليومية، بما في ذلك العض بالأسنان الأمامية واستنشاق الأنف للهواء البارد.
بالإضافة لذلك، حاكى الباحثون بشرًا أكثر بدائية، ما يسمى بهومو هايدلبرغ، وذلك للتنبؤ بسلوك أسلاف الإنسان البدائي (من نوع نيانديرتال) وتحديد توجه تطور البشر.
يوضّح بورك: “ قدم لنا الهومو هايدلبرغ بوصلة لتطور البشرية" , ويضيف: “ فقد أتاح لنا فرصة التعرف على السمات التي ورثها النياندرتال والتقسيم الجسدي الحديث الذي اكتسبه جنسه".
توضح الصورة الاختلافات في حجم الجمجمة والأنف خلال ثلاثة أجناس من البشر. وترمز الألوان في مجرى الهواء إلى درجة الحرارة
(الألوان الدافئة= الهواء الدافئ، الألوان البادرة=الهواء البارد) وتوضح الخطوط احتمالية إنحدار الإنسان الحديث والبدائي (من جنس نياندرتال) من سلالة قريبة من الهومو هايدلبرغ.
وقد أدى ذلك الباحثين إلى تجاهل البروز القوي في عظمة الحاجب (والتي تعد سمة متوارثة) والتركيز أكثر على مدى ضخامة الأنف، وهي بدورها سمة مميزة لجنسهم. وقد طرحت نظريات سابقة أن تكوين الوجه الصلب لديهم كان ضرورة لأكل الطعام القاسي آنذاك، ولكن الاختبارات الهندسية وضحت أسباب مختلفة لتلك السمات المميزة.
وعلى نقيض الإنسان الحديث الذي يتنفس من أنفه وفمه –وفق معدلات النشاط-، فقد اتضح أن الإنسان البدائي (النياندرتال) يعتمد في تنفسه على الأنف أكثر - مما يستدعي وجهًا ذا بروز أكبر من المنتصف-.
ويصرح بورك: “بينما توضح معلوماتنا أن الإنسان البدائي كان أقل فعالية في تكييف الهواء من الإنسان الحديث بشكل ما، إلا أنهم كانوا يتخطون البشر حاليًا في قدرتهم على نقل كميات كبيرة من الهواء من القناة الأنفية من وإلى الرئتين".
مقارنة مجرى الهواء بين الإنسان الحديث (على اليسار) والبدائي (على اليمين) عند استنشاق هواء بدرجة حرارة 0مئوية (32 فهرنهايت)
ويوضح اللون الدافئ مجرى الهواء الدافئ كما يوضح اللون البارد مجرى الهواء البارد.
قسمت الجمجمة من الوسط لتسهيل تصور مجرى الهواء. وكما هو موضح، بمقدور الإنسان البدائي تكييف كميات كبيرة من الهواء البارد أكثر من الإنسان في العصر الحالي.
في الواقع، أوضحت عمليات إعادة البناء أن الإنسان البدائي كان ينقل ضعف كمية الهواء التي ينقلها الإنسان الحديث في هذا العصر، والذي كان دوره يكمن في تعزيز قوته لمواءمة نمط الحياة الصعبة والشاقة التي تحتم ملاحقة وصيد الحيوانات الكبيرة وإمكانية تكييف كميات هائلة من الأكسجين في درجات حرارة منخفضة مما سمح للإنسان البدائي بالحفاظ على دفئه في العصر الجليدي.
إن هذه الدراسة التي تضمنت محاكاة هندسية لطريقة عض الإنسان البدائي هي الأولى من نوعها، كما قدمت تحليلًا لمقارنة انتقال مجرى الهواء والحرارة خلال القنوات الأنفية للعديد من البشر البدائيين المنقرضين، و الكثير من اكتشافات التي تعد الأولى من نوعها في مجال التشريح.