الجمعة , 17 يناير 2025 - 17 رجب 1446 هـ 11:26 مساءً
المعركة الفلسفية الممتدة من 300 سنة، والتي ما تزال محتدمة حتى اليوم.
الجبال والحيتان والنجوم المتباعدة، كُل هذه الأشياء موجودة في الفضاء، كما حالنا نحن، فأجسادنا تأخذ حيزًا مُعينًا من الفضاء. فعندما نذهب إلى العمل، نحن نتحرك عبر الفضاء، ولكن ما هو الفضاء؟ هل هو كيان مادي فعلي لا أكثر؟ في عام 1717 م، شُنّت معركة حول هذا السؤال، وما يزال الصراع قائمًا حتى بعد 300 سنة.
قد تعتقد أن علماء الفيزياء "وجدوا حلًا" لمشكلة الفضاء. أمثال عالم الرياضيات هيرمان مينكوفسكي، والفيريائي ألبرت أينشتاين. لقد علمونا أن نتصوّر أن الفضاء والوقت سلسلة واحدة، حتى نستطيع فهم كيف تتحرّك الأجسام الكبيرة جدًا أو الصغيرة جدًا، كالذرات المفردة. وبالرغم من ذلك، لم نتمكن بعد من حل السؤال المتعلق بماهية الفضاء. فلو تمكنّت من إزاحة جميع الأشياء من الكون، هل سيبقى الفضاء فارغًا؟
يمكننا القول أن فيزياء القرن الحادي والعشرين متوافقة مع روايتين مختلفتين عن الفضاء: "الترابط" و "الحكم المطلق". إنّ أيًّا من هذين الرأيين تعود شعبيتهما لكارولين أميرة أنسباخ (1683-1737)م ، وهي ملكة ألمانية من بريطانيا العظمى، والتي علق مجدافها في التيارات الفلسفية الحائمة حولها.
كانت كارولين فيلسوفة حازمة، وفي أوائل القرن الثامن عشر، خطّطت لتوحيد الفلسفات الرائدة في عهدها ضد بعضها. في القارة، كان الفلاسفة عالقين في "المنطق"، وتدوير نظريات العالم من خلال الكراسي. وفي الوقت نفسه، كان الفلاسفة البريطانيون يطورون "العلم التجريبي" المستوحى من النظريات المبنية على الملاحظات. فقد كانوا يعبدون العلماء مثل روبرت بويل وإسحاق نيوتن.
طلبت كارولين تبادل الخطابات من اثنين من الفلاسفة. كان أحدهم الفيلسوف الألماني غوتفريد ليبنيز، المنطقي بكل معنى الكلمة. أما الآخر فكان الفيلسوف الإنجليزي صموئيل كلارك، وهو صديق نيوتن المقرّب. وافق الفيلسوفان ونُشرت خطاباتهم في 1717 م كمجموعة من الدراسات. ذاك العنوان الممل لم يبدو بالأمر الجلل، لكن تلك الدراسات كانت ثورية، وكانت واحدة من محاورهم الرئيسية حول طبيعة الفضاء.
كُل شيء أم لا شيء؟
هل هناك فضاء ما بين النجوم؟ ناقش ليبنيز بأن الفضاء هو العلاقات المكانية بين الأشياء، فأستراليا مثلًا تقع جنوب سنغافورة، والشجرة تقع في اليسار على بُد ثلاثة أمتار من الأدغال، أما سباينسر فخلف الأدغال، ممّا يعني أن الفضاء لن يتواجد بشكل مستقل عن الأشياء المترابطة معه. يقول ليبنيز: إذا لم يكن هناك وجود، لا يمكن أن يكون هناك أي علاقات مكانية، ولو دمّر الكون الموجود من حولنا، فلن يكون هناك ما يُدعى بالفضاء.
وعلى النقيض من ذلك، ناقش منطلق كلارك كون الفضاء مفهوم موجود في كل مكان، بأنه حاوية ضخمة، تشتمل على جميع الأشياء الموجودة في الكون: النجوم والكواكب والبشر. كما أن الفضاء يسمح لنا بأن نفهم كيفية انتقال الأشياء من مكان إلى آخر، أو كيف للكون المادي برمته أن يتحرك من خلال الفضاء. وأضاف كلارك قائلًا بأن الفضاء مقدّس، وأنه كتواجد الإله في العالم، أو بطريقةٍ أخرى، الفضاء هو الإله. فمن وجهة نظر كلارك، حتى لو دُمّر هذا العالم، سيظل الفضاء موجودًا، ومثلما لا نستطيع أن نلغي الإله، لا يمكننا أن نلغي الفضاء.
انتشرت خطابات ليبنيز كلارك في أوائل القرن الثامن عشر. والمفكرون الذين شاركوا سابقًا في هذا النقاش مثل نيوتن، انخرطوا فيه بشكل أعمق، فقد ناقش نيوتن الفضاء بأبعد من العلاقات ما بين الأجسام المادية، وقال أنه بمثابة كيان مطلق، وأن كل شيء يتحرك بشكل متعلق به، فأدى ذلك إلى التمييز بين الحركة "النسبية" و "المطلقة". فالأرض تتحرك نسبيًا إلى المواد الأخرى، مثل الشمس، لكنّها قطعًا تتحرك باعتبار الفضاء أيضًا.
مسألة الإله
كان الناس منفعلين تجاه وجهة نظر كلارك تحديدًا فيما يتعلق بأن الفضاء هو الإله، فهل يعني ذلك أننا نتحرك من خلال الإله كل مرة؟ كما أصبحوا قلقين بشأن الأشياء الضخمة، مثلما تأخذ الحيتان حيزًا أكبر في الفضاء من الرجل القدّيس، فهل هي أكثر قدسيةً منه؟ أو مثل عُظم حجم الجبال، فهل هي بمثابة الإله؟
قال فيلسوف القرن العشرين برتراند راسل بأنه لا يجب أن نقدّس شيئًا لمجرّد حجمه، فقد كان نيوتن أصغر بكثير من فرس النهر، لكننا لا نعتبره أقل من هذا الحيوان الضخم، "وقد كتب: "اختلف بعض مفكري القرن الثامن عشر - وكانوا قلقين من مسألة عبادة فرس النهر بدلًا عن عبادة عن نيوتن"
واليوم، الفكرة المتعلّقة بالإله زيلت من المناقشة. ومع ذلك فإن بعض الفلاسفة المعاصرين، مثل تيم مودلين وغراهام نيرليش يعتقدون أن النظريات الحالية في الفيزياء تدعم وجهة نظر كلارك (باستثناء الجزء الديني). فالزمان المكاني حاوية كبيرة، وكل منّا يتحرك حولها.
هناك فلاسفة غيرهم، أمثال كينيث مندرس وجوليان بربور، يعتقدون أن الفيزياء تتوافق مع الرأيين، لما في ذلك من أسباب تدل على صحة نظرية ليبنيز. فإذا كانت الفيزياء حقا متوافقة مع الترابط أو الحكم المطلق، فلربما يجب أن نفضّل الترابط باعتباره النظرية الأبسط؟
وغرار كل ذلك، لماذا طُرح الكيان الذي يؤدي دور الحاوية بينما لم نكن بحاجةٍ لذلك؟