السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 1:30 صباحاً
حقيقة الإسلام وجماله وشعره
ربما لا يوجد أدب آخر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتاريخ شعبه كما هو الحال في الأدب العربي، فرتابة الحياة البدوية وظهور الإسلام والفتوحات العربية والترف الإمبراطوري للعباسيين الأوائل والتفاعل والتلاقح المتبادل مع الحضارات الأخرى (لاسيما في أسبانيا) وتراجع الخلافة والإطاحة بها وفترة الركود الثقافي وردود الفعل والإلهامات بسبب المواجهة الاستعمارية وصحوة العالم العربي النهائية لتشكيل دول اليوم المستقلة والنابضة بالحياة - كلها تنعكس بصدق في الأدب العربي بازدهاره وركوده الموازيان لحظوظ العرب أنفسهم.
في الفهرست للنديم المؤلَّف عام 988م يصنف المؤلف جميع الكتب المعروفة في العربية إلى موضوعات فقه اللغة والتاريخ والشعر وعلم اللاهوت والقانون والفلسفة والعلوم والسحر والأديان الأجنبية والخرافات والكيمياء, وهذا العمل الرائع على حد تعبير H.A.R. Gibb :
..... يكشف لنا مدى ضخامة نتاج الأدب العربي في القرون الثلاثة الأولى من الإسلام ومدى قلة ما وصل إلينا, حيث نملك أجزاء ضئيلة فقط من العديد من المؤلفين بينما كانت الأغلبية العظمى غير معروفة لنا تمامًا حتى بالاسم.
يمكن إجراء مقارنة هنا مع مجموعة من الأدب الإنجليزي القديم الذي يعود تاريخه إلى الحقبة الزمنية نفسها حيث كانت أعظم مرحلة للثقافة العربية ناقصة أيضًا، لكن كما هو مذكور أعلاه كانت الثقافة أقل في الغرب منها في العالم الإسلامي خلال هذه القرون، ولم يكن فقدان بعض من أدبه معتبرًا، لذا نحتاج أن ننتقل إلى القرن السادس عشر والسابع عشر من الأدب الغربي ونتأمل تأثير عدم وجود غالبية الأعمال الأدبية لعصر النهضة من أجل تقدير كيف أن عدم مراعاة الأجيال القادمة قد يؤدي إلى اختيارات أدبية طائشة أكثر من أي اختيارات أي باحث لها.
فقد يصر أي أصولي على أن الأدب العربي تحديدًا – أي بالعربية وبالعرب الخالصين – محصور في تلك القرون مباشرة قبل وبعد ظهور الشريعة الإسلامية، منذ ما يسمى "العصر الذهبي" فصاعدًا وبعد الفتوحات العربية واسعة النطاق كان ثمة تبادل متزايد للنفوذ وتداخل مع الثقافات الأخرى، فقد أصبحت العربية الأدبية عتيقة بعد ازدهار الإمبراطورية العثمانية وكان ذلك يعزي كثيرًا إلى تحديد النواة الصغيرة التي أبقت اللغة على قيد الحياة (لاسيما في مصر) مما جعل الأدب العربي يتمتع بنهضة قوية في أواخر القرن التاسع عشر.
وبطبيعة الحال فإن كتاب الإسلام المقدس احتل – ولا يزال يحتل – مكان الصدارة في الأدب العربي، حيث يحتوي القرآن الكريم على عدة آيات تشير إلى "القرآن العربي"، كما أن العديد من فروع الكتابة العربية نبعت من الحاجة إلى توضيحه، بل إن قصائد ما قبل الإسلام اكتسبت الأسبقية تقريبًا بسبب القيمة اللغوية التي تجلبها إلى هذه العملية، خاصة وأن بعض السور القرآنية – لاسيما تلك التي تعود إلى أوائل العهد المكي – قد صيغت بطريقة مشابهة لها، وربما لا يكون التكافل بين الدين والأدب واضح المعالم مثلما هو في ثقافة العرب، أما بالنسبة للغربيين الذين اعتادوا قراءة الكتاب المقدس بترجمات متنوعة فمن الصعب تقدير ذلك، بالرغم من أن تأثير الكتب المقدسة اليهودية والمسيحية على آداب أوروبا لا ينافسه إلا النماذج الكلاسيكية. إن التأثيرات اليونانية والفارسية والهندية ملحوظة أيضًا في الأعمال العربية، لكنها لا تقارن بدور القرآن كأنموذج ومصدرٍ للإلهام.
إن أكثر ما يهُم حول الأدب العربي هو أنه ينبع مباشرة من القرآن الكريم – بصرف النظر عن شعر ما قبل الإسلام – وفضلًا عن بعض كتابات القرن الأول الميلادي (التي لا تكاد تعتبر أدبًا) ليس لدينا أي دليل على الكتابات باللغة العربية قبل عصر النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، حيث كانت الأمية منتشرة والنخبة القليلة ممن يقرؤون أو يكتبون تعلموا هذه الفنون من معلمين خارج شبه الجزيرة العربية، ومع ذلك لم يكن هناك أي حد لتقدير أساسي للشعر بين البدو الرحل، فقد حافظت العديد من القبائل الفردية على تقليد شفهي عبر استخدام الرواة الذين يكسبون رزقهم فقط عن طريق حفظ الشعر وإلقائه:
"وفي عرب ما قبل الإسلام يبدو أن الكلمات بحد ذاتها قد احتفظت بشيء من قوتهم العتيقة والسحرية، فالرجل الذي كان يصوغ بمهارة الصور الحية بعبارات أنيقة ودقيقة، ويستطيع بذلك أن يتلاعب بعواطف مستمعيه لم يُشد به بصفته فنانًا فحسب بل، يبجّلونه كما لو أنه حامٍ ومدافع عن شرف القبيلة وسلاح قوي ضد أعدائها".
كان الشكل السائد بل والوحيد تقريبًا للشعر هو القصيدة، وهي نوع معقد من الشعر، تُستخدم فيها القافيةَ باستمرار، وهدف القصائد هو نقل التجربة المثيرة للحياة القبلية بصورة غنية، لقد دونت هذه القصائد في القرنين الثامن والتاسع الميلادي، بعدما أدرك العلماء في ذلك الوقت أهمية الحفاظ على الشعر القديم سواء لجدارته كمنجب للتقاليد الشعرية النامية أو لأهميته التي لا تقدر بثمن في تسليط الضوء على لغة القرآن الكريم، وقد نزلت بعض السور – ولاسيما أوائل السور المكية – بصيغة لا تختلف عن قصائد ما قبل الإسلام بدلاً عن الشكل القياسي للتعبير السامي في اللغة العربية.
وبما أن من أقدم الأمثلة لدينا من الشعر العربي –ودقّة الغالبية قد حُدِّدت تحديدًا قاطعًا – فإن هذه القصائد متميزة خصوصًا من ناحية دقّتها، بمعنى أنه يمكن وصفها "بالكمال", فالموضوعات نفسها بسيطة صحراوية تصور الملحوظ الصرف، وليس ثمة أدوات كالتشبيه، بل استخدام متكرر لصفة التجسيد وتداعي الكلمات المباشر.
هذه هي الطريقة التي تُعامل بها هذه الموضوعات والشكل الذي تظهر به والذي يكشف عن عادة سابقة متأصلة:
"إن التعقيدات التقنية لأقدم القصائد المعروفة متطورة جدًا، حدّ أن المرء قد يفترض أن الشعراء كانوا يؤلفون أشعارهم وينشدونها منذ عدة قرون، فالشكل والأسلوب لا ينبعان وينموان قويًّان بدون أجيال أو حتى قرونٍ من النمو."
تظهر أرقى القصائد في هذه الفترة في مجموعات وضعت بعد ظهور الإسلام، وتجدر الإشارة إلى المفضليات (التي جمعها اللغوي المفضّل) والحماسة لأبي تمام (الذي يحاكي إن لم يكن يطابق الحماسة لتلميذه البحتري) وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وفي المقام الأول المعلقات، وتتألف المجموعة الأخيرة من سبع قصائد رائعة لعدد من الشعراء (وإن كانت تضاف ثلاث أخرى أحيانًا لتصبح في مجموعها عشرة)، هذه القصائد التي تشكل أثمن التراث الأدبي لشبه الجزيرة العربية قبل الإسلام؛ ألّفها امرؤ القيس وطرفة وعمرو بن كلثوم والحارث وعنترة وزهير ولبيد، وتشكل هذه القصائد وغيرها من قصائد معاصريها الصوت الأصيل للحياة ما قبل الإسلام أو الجاهلية.
"في شعر القرن السادس نسمع اللغة العربية كما نُطِقت في أرجاء شبه الجزيرة العربية".
بالإضافة إلى وفرة الشعر؛ نُقِلت أيضًا بعض القصص النثرية عبر الرواة. وبالرغم من أن أسماء جميع الشعراء معروفة، ينتمي النثر بكامله إلى مجال التقاليد الشعبية. وهكذا، لم يكن موضع اهتمام بصفته أدبًا، على الرغم من أنه في القرن الثامن الميلادي؛ تُرجمت القصص الشعبية من أماكن أخرى إلى اللغة العربية وأُعطِيت صبغة أدبية مما عزز من قيمتها في نظر العلماء (انظر أدناه, كليلة ودمنة).
شهدت الفترة التي سبقت مجيء النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) مباشرة تزايدًا في استياء – المفكرين خاصة – من أسلوب حياة البدو والخرافات المصاحبة لها، ولا عجب إذن في أن الشعر برمته لم يعد موضع اهتمام عندما حلت مُثُل دينية جديدة محل القيم الموروثة، ووصلت ممارسة كتابة الشعر عمليًا إلى طريق مسدود حيث توافد المتحولين إلى النبي بالآلاف لسماع الوحي الإلهي، وبعد وفاته عام 632 م أصبح من الضروري الحفاظ خطيًا على ما أُوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- والذي اعتبره المؤمنون كلام الله تعالى، وكانت النتيجة هي القرآن الكريم.
جمعت أولى سور القرآن عام 633 م وقد كتبت بعناية فائقة لضمان إعادة إنتاج الكلمة الإلهية أصيلة دون تحريف، ولابد أن الكثير منها – ولاسيما السور الأخيرة – بدت غامضة جدًا وخفية للعلماء الأوائل، بل حتى اليوم تحتاج الكثير من الصور الغامضة إلى شرح تفسيري مفصل، وقد نشأت العديد من فروع الأدب العربي من الحاجة إلى توضيح القرآن بما في ذلك القواعد والمعاجم، وأصبحت اللغة العربية نفسها لغة الإسلام المقدسة، ومن الصعب تقدير أهمية هذا الأمر في العالم الغربي ذي الغالبية المسيحية؛ حيث يُقرأ الإنجيل تقريباً بالترجمة الحديثة فحسب – وبشكل لافت بالترجمة الإنجليزية المعروفة باسم نسخة الملك جيمس.
وهكذا أصبحت اللغة العربية اللغة الواسعة الانتشار التي بقيت حتى يومنا هذا (على الرغم من فترات الركود المتداخلة)، وتأثيرها يسير جنبًا إلى جنب مع تأثير الدين الجديد خلال القرون الثلاثة الأولى من الإسلام.
أبو الحسن علي بن الحصن
حمامة
وما هاجني إلا ابـــــن ورقـــاء هاتف
على فنن بين الجزيـــــــــرة والنـــهر
مفستق طــــــــــــــــوق لازورد كلكل
موشى الطلى أحــوى القوادم والظهر
أدار على اليــــــــــــاقوت أجفان لؤلؤ
وصاغ على الأجفان طوقاً من التــبر
حديد شبا المنــــــــــــــــقار داج كأنه
شبا قلم من فضــــــــــــــة مد في حبر
توسد من فـــــــــــــــرع الأراك أريكة
ومال على طي الجنـــــــــاح مع النحر
ولما رأى دمعي مـــــــــــراقاً أرابــــه
بكائي فاستـــــولى على الغصن النضر
وحث جناحيـــــــــــــــه وصفق طائراً
وطار بقلبي حيــــــــث طار ولا أدري
جبران خليل جبران
الشاعر
"إنه حلقة تصل بين العالم الحالي والعالم القادم، منهل عذب تستقي منه النفوس العطشى، شجرة مغروسة على ضفاف نهر الجمال ذات ثمار يانعة تطلبها القلوب الجائعة، بلبل ينتقل على أغصان الكلام وينشد أنغامًا تملأ خلايا الجوارح لطفًا و رقة، غيمة بيضاء تظهر فوق خط الشفق ثم تتعاظم وتتصاعد وتملأ وجه السماء وتنسكب لتروي أزهار حقل الحياة، ملك بعثته الآلهة ليعلم الناس الإلهيات، نور ساطع لا تغلبه ظلمة ولا يخفيه مكيال، ملأته زيتًا عشتروت إلهة الحب وأشعله أبولون إله الموسيقى.
وحيد يرتدي البساطة و يتغذى على اللطف، ويجلس على أحضان الطبيعة ليتعلم الإبداع، ويسهر في سكينة الليل منتظرًا هبوط الروح، مزارع يبذر حبات قلبه في رياض الشواعر فتنبت زرعًا خصيبًا تستغله الإنسانية وتتغذى به، هذا هو الشاعر الذي تجهله الناس في حياته, وتعرفه عندما يودع هذا العالم و يعود إلى موطنه العلوي، هذا الذي لا يطلب من البشر إلا ابتسامة صغيرة والذي تتصاعد أنفاسه و تملأ الفضاء أشباحًا حية جميلة والناس تبخل عليه بالخبز والمأوى.
فإلى متى أيها الإنسان؟ إلى متى أيها الكون تقيم من الفخر بيوتًا للذين جبلوا أديم التراب بالدماء؟ و تُعرض بتهامل عن الذين يهبونك من محاسن أنفسهم سلامًا ووداعة؟ وحتى متى تعظم القتلة والذين أحنوا الرقاب بنير الاستعباد؟ وتتناسى رجالًا يسكبون نور الأحداق في ظلمة الليل ليعلموك أن ترى بهاء النهار, وأنتم أيها الشعراء يا حياة هذه الحياة قد تغلبتم على الأجيال قسرًا عن قساوة الأجيال وفزتم بإكليل الغار غصبًا عن أشواك الغرور وملكتم في القلوب وليس لملككم نهاية وانقضاء يا أيها الشعراء."
أدونيس
هرَبتْ مدينتُنا
فركضتُ أسْتجلي مسالكَها
ونظرتُ - لم ألمحْ سوى الأفُقِ
ورأيتُ أن الهاربين غدًا
العائدين غدًا
جسَدٌ أمزّقه على ورقي.
..
ورأيتُ - كان الغيمُ حُنجرةٌ
والماء جُدرانًا من اللّهب
ورأيتُ خيطًا أصفرًا دَبقًا
خيطًا من التاريخ يَعلقُ بي
تجترّ أيامي وتعقدُها
وتكرّها فيهِ - يدٌ ورثتْ
جنسَ الدُّمى وسُلالة الخِرَقِ.
..
ودخلتُ في طقس الخليقة في
رَحِم المياه وفِتْنَةِ الشّجَرِ
فرأيتُ أشجارًا تراودني
ورأيت بين غُصونها غُرفًا
وأسرّةٌ وكوىً تُعاندني،
ورأيت أطفالًا قرأتُ لهم
رَمْلي ، قرأت لهم
سُوَرَ الغمام وآيةَ الحَجَرِ؛
ورأيت كيف يسافرون معي
ورأيت كيف تُضيء خلفهمُ
بُرَكُ الدّموع وجُثّةُ المطرِ.
..
هَربت مدينتُنا -
ماذا أنا، ماذا؟ أسنبلةٌ
تبكي لِقبّرةٍ
ماتت وراء الثلج والبَردِ
ماتت ولم تكشف رسائلها
عني ولم تكتب إلى أحدِ،
وسألتُها ورأيت جثّتَها
مطروحةً في آخر الزّمنِ
وصرختُ - "يا صمت الجليد أنا
وطَنٌ لغربتها
وأنا الغريبُ وقبرُها وطني".
..
هربت مدينتُنا
فرأيتُ كيف تحوّلت قدَمي
نهرًا يطوف دمًا
ومراكبًا تنأى وتتّسعُ
ورأيتُ أن شواطئي غَرَقٌ
يُغوي وموجي الريح والبجعُ
..
هربت مدينتُنا
والرفضُ لؤلؤةٌ مكسّرةٌ
ترسو بقاياها على سفُني
والرفضٌ حطّابٌ يعيش على
وجهي- يلملمني ويُشعلني
والرفض أبعادٌ تشتّتني
فأرى دمي وأرى وراء دمي
موتي يُحاورني ويتبعني.
..
هربت مدينتُنا
فرأيت كيف يُضيئني كفَني
ورأيت - ليت الموت يُمهلني.