السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:11 صباحاً
انطلاقًا من نظرة أن الدين شكل بدائي للفلسفة - باعتبار أن كليهما محاولات لتقديم رؤية شاملة للواقع - فإن العديد من أساطيره عبارة عن رموز درامية قصصية محرّفة، لكنها في الوقت ذاته تستند إلى بعض عناصر الحقيقة وبعض الجوانب الفعلية لوجود الإنسان، وإن كانت هذه الجوانب محيرة ومضللة بشكل كبير للإنسان نفسه. تتمثل إحدى هذه الرموز القصصية، والتي يجدها الإنسان من أكثر كوابيسه رعبًا، في فكرة وجود رقيب غيبي، لا تُخفى عليه من أعمال البشر خافية، يسجل أعمال الإنسان جميعها - خيرها وشرها، المحمودة منها والمذمومة- ليواجهه يوم القيامة بما كُتب في سجل أعماله.
إن هذه الأسطورة حقيقة، ليس من ناحية الوجود، بل من ناحية نفسيّة أيضًا. إذ أن هذا الرّقيب الصّارم هو الآلية اللاواعية المتكاملة للإنسان، والسجل هو إدراكه للحياة.
يعد مفهوم "إدراك الحياة" المفهوم السابق لمفهوم الميتافيزيقيا، وهو تقييم وجداني لا واعٍ متكامل للإنسان والوجود، يحدد طبيعة الاستجابات العاطفية للإنسان وجوهر شخصيته.
قبل وقت طويل من تمكن الإنسان من الوصول إلى مفهوم مثل مفهوم الميتافيزيقيا واستيعابه، لطالما كان هذا الإنسان وما يزال قادرًا على اتخاذ الاختيارات، وتشكيل تقييمه الذاتي، واختبار العواطف، واكتساب رؤية ضمنية معينة للحياة. وكل تقييم ذاتي يتبناه الإنسان وكل خيار يتخذه، يتضمن بعض الأحكام التقييمية التي شكلها عن نفسه وعلى العالم من حوله، لا سيما كيف يرى نفسه قادرًا على التعامل مع العالم. قد يستخلص الإنسان استنتاجات واعية إما صحيحة وإما خاطئة، أو قد يُبقي عقله في حالة جمود سلبي ويتفاعل مع الأحداث شعوريًا فقط. مهما كانت الحالة، فإن الآلية اللاواعية للإنسان تلخص أنشطته النفسية، إذ تجمع استنتاجاته وردود أفعاله أو امتناعاته في مجموع عاطفي يُنشئ نمط سلوك اعتيادي، ثم يصبح ردة فعل تلقائية على العالم من حوله. لذلك ما بدأ كسلسلة من الاستنتاجات (أو التمنعات) الفردية المنفصلة حول مشاكله الخاصة، تُعمم لتصبح مشاعرَ سائدة اتجاه الوجود، وهذا يمثل ميتافيزيقيا ضمنية مع وجود قوة تحفيزية قهرية لعاطفة أساسية ثابتة، عاطفة تشكل جزءًا من مجموع عواطفه الأخرى والتي تحدد أيضًا كل تجاربه، وهي إدراكه للحياة.
وبقدر ما يكون الإنسان نشطًا ذهنيًا، أي ثمة رغبة تدفعه إلى المعرفة والفهم، فإن عقله سيعمل كمبرمج لعاطفته، وسيتطور إدراكه للحياة إلى حد أن يكون صورة بارزة لفلسفة عقلانية. وبقدر ما يتهرب الإنسان ذهنيًا، فلن يتبرمج شيئًا من عاطفته إلا عن طريق تأثيراتٍ عرضية: إما عبر انطباعات وأفكار وتداعيات عشوائية، أو عبر ملاحظات مبتذلة من هنا وهناك لا طعم لها ولا لون ولا رائحة، إن كان أسلوب التهرب أو الكسل هو المنهج المسيطر على أداء الإنسان الذهني، فإن ذلك سيجعل إدراكه للحياة مقيد بمشاعر الخوف، لتكون روحه مثل قبضة طين لا شكل لها، انطبعت عليها أثار أقدام سارت في كل الاتجاهات. (وفي سنوات لاحقة، رجل بهذه الروح سيبكي على فقدان الشعور بالهوية، وحقيقة أنه لم يكتسبها أبدًا).
إن الإنسان بطبيعته البشرية لا يستطيع الامتناع عن التعميم. فهو لا يستطيع أن يعيش اللحظة من دون وجود سياق زمني يحمل الماضي والمستقبل، ولا يستطيع أن يتخلص من قدرته الفكرية على التجميع، وحصر وعيه على مستوى إدراك حيواني. ومثلما لا يمكن لوعي الحيوان أن يتوسع ليتعامل مع الأفكار التجريدية، فلا يمكن لوعي الإنسان أيضًا أن يتقلص ليقتصر تعامله مع أي شيء سوى الأشياء الملموسة المباشرة. توجد هذه الآلية المتكاملة والقوية جدًا لوعي الإنسان منذ الولادة، لكن الخيار الوحيد أمام الإنسان هو إما أن يكون هو من يقود هذا الوعي أو يجعل هذا الوعي هو من يقوده لتصبح نفسه تابعةً له. وبما أن فعل الإرادة -وهي عملية فكرية- مطلوب من أجل استخدام هذه الآلية لغرض إدراكي معرفي، يمكن للإنسان بدوره التملص من هذا الجهد. وفي حالة تهربه، ستبدأ الآلية العمل بمفردها، مثل آلة بدون سائق، وستتكامل هذه الآلية، لكن بشكل أعمى ومتناقض وعشوائي، وليس كأداة من أدوات الإدراك، بل كأداة للتشويه والوهم وخلق الكوابيس المرعبة، تصر على تدمير وعيه الافتراضي ومعالجه.
يتشكل إدراكنا للحياة من خلال تعميمنا العاطفي، والتي يمكن وصفها بأنها نظير مقابل لا واعٍ لعملية التجريد؛ نظرًا إلى كونها إحدى طرق التصنيف والتجميع. لكنها عملية تجريد عاطفي: تشمل تصنيف الأشياء استنادًا على المشاعر التي تستدعيها وتثيرها، ويعني ذلك الربط، دلاليًا أو فكريًا، بين كل تلك الأشياء التي لديها القدرة على جعل التجربة الفردية تثير المشاعر نفسها (أو مشابهة لها). على سبيل المثال قد تكون هذه الأشياء عبارة عن جار جديد، أو اكتشاف ما، أو مغامرة ما، أو صراع أو معاناة، أو انتصار— أو قد تكون جيرانًا مجاورين، أو عمل مكرر محفوظ، أو نزهة عائلية، أو عادة معروفة، أو رفاهية. وبصورة أكثر وضوحًا: إما أن تكون هذه الأشياء بمثابة رجل شجاع، أو مباني نيويورك الشاهقة، أو منظر طبيعي مشمس، أو ألوان نقية، أو موسيقى صاخبة— أو رجل متواضع، أو قرية قديمة، أو منظر ضبابي، أو ألوان معكرة، أو موسيقى شعبية.
إن المشاعر المعينة التي تُستدعي من خلال هذه الأشياء المذكورة في الأمثلة، باعتبارها قواسم مشتركة لجميعها، تعتمد على مجموعة الأشياء والمعتقدات التي توافق وجهة نظر الفرد إلى نفسه. بالنسبة لمن يحظى بتقدير ذاته، فإن العاطفة التي تجمع بين الأشياء في الجزء الأول من هذه الأمثلة تتمثل في الإعجاب، التمجيد، وإحساس التحدي. وما يوحد الأشياء في الجزء الآخر من الأمثلة هي عاطفة الملل أو الاشمئزاز. وبالنسبة لمن يفتقر إلى تقدير ذاته، فإن العاطفة التي توحد الأشياء في النص الأول من هذه الأمثلة هي الخوف والاستياء والشعور بالذنب، بينما تتمثل العاطفة التي توحد الأشياء في النصف الثاني في التحرر من الخوف والشكوك والركون والاستسلام السلبي.
وبالرغم من تطور هذه التجريدات العاطفية إلى نظرة ميتافيزيقية للإنسان، إلا أن منشأ هذه التجريدات يكمن في نظرة الفرد لنفسه وللوجود. إن معيار الاختيار اللاواعي الذي يشكل تجريداته العاطفية يتمثل لفظيًا في: "ما هو مهم لي" أو " نوع العالم الملائم لي، والذي سأشعر بالانتماء إليه". وتتضح نوعية الآثار النفسية التي ستتبع بالإنسان، اعتمادًا على ما إذا كانت ميتافيزيقيته اللاواعية تتفق مع حقائق الواقع أو تناقضه.
إن المفهوم الرئيس في تشكيل إدراك الحياة يتمثل في كلمة "مهم". وهو مفهوم ينتمي إلى عالم القيم؛ لأنه يقتضي الإجابة على سؤال: "مهم"— إذًا لمن؟ ومع ذلك، فإن معناه يختلف عن معنى القيم الأخلاقية. إذ أن كلمة "مهم " لا تعني بالضرورة "حسن أو جيد"، بل " صفة أو خاصية أو مكانة يعطيها الفرد الاهتمام أو الاعتبار" (The American College Dictionary). وهذا يقودنا إلى سؤال: ما الذي في الأساس، يستحق أن يهتم به الإنسان أو ينظر إليه؟ - إنه "الواقع".
إن كلمة "مهم" - بمعناها الأساس، والتي تختلف عن استخداماتها الأكثر محدودية وسطحية - كلمة ميتافيزيقية. وهي تتعلق بذلك الجانب من الميتافيزيقا الذي يعمل كجسر يربط بين علم الميتافيزيقيا والقيم، نحو خلق نظرة جوهرية لطبيعة الإنسان. تتضمن هذه الرؤية إجابات على أسئلة ما إذا كان الكون شيء قابل للمعرفة أم لا، وعما إن كان للإنسان القدرة على الاختيار أو لا، وما إذا كان يستطيع تحقيق أهدافه في الحياة أو لا يستطيع. إن إجابات هذه الأسئلة ما هي إلا " تقييم ذاتي ميتافيزيقي"؛ فمنها تتشكّل قاعدة الأخلاقيات.
إن تلك القيم التي يعدها الإنسان "مهمة" أو في طريقها إلى أن تكون كذلك، والتي تمثل نظرته الضمنية للواقع، هي فقط ما تبقى في عقله الباطن وتشكل إدراكه للحياة.
"من المهم أن أفهم الأمور"، "من المهم أن أطيع والدي"، " من المهم أن أتصرف بنفسي"، " من المهم إرضاء الآخرين"، " من المهم أن أكافح من أجل الحصول على ما أريد"، "من المهم عدم خلق أي علاقات عدائية مع الآخرين"، "حياتي مهمة"، "من أنا لأعرض نفسي للخطر؟". إن الإنسان مخلوق ذو نفس يقومها بذاته، ونتيجة لهذا الاستنتاج وجدت مكنونات نفسه ( ما أعنيه بـ "النفس" هو "الإدراك").
إن المجموع المتكامل لقيم الإنسان الأساس هو ما يمثل إدراكه للحياة.
ويمثل إدراك الحياة مجموع القيم الأولى للإنسان، والذي يبقى في حالة مرنة ولينة وقابلة للتغيير بسهولة بينما يجمع هذا الإنسان المعرفة في سبيل الوصول إلى السيطرة الفكرية الكاملة، وبالتالي قيادة آليته الداخلية. تعني السيطرة المفاهيمية الكاملة: عملية تجميع معرفي موجهة بشكل واعٍ، وهو ما يعني فلسفة واعية للحياة.
في الوقت الذي يبلغ فيه الإنسان سن المراهقة، يكون مقدار المعرفة الذي يمتلكه أمر كافٍ للتعامل مع مجمل أساسيات الحياة، وهي الفترة التي يعي فيها ضرورة ترجمة إدراكه للحياة غير المترابط إلى مصطلحات واعية. وهي أيضًا الفترة التي يتلمس فيها الإنسان أشياء مثل معنى الحياة، المبادئ، المُثل العليا، القيم، بل ويسعى فيها بيأس إلى تأكيد الذات. وحيث إنه ليس من شيء، في مجتمعنا غير العقلاني هذا، لمساعدة العقول الشابة التي تمر بهذه الفترة الانتقالية الحاسمة، والتي تكون فيها هذه العقول معرضة لحوادث الإعاقة، والعجز، والتعثر، سيؤدي هذا إلى خلق فكر لاعقلاني مضطرب وهيستيري لمعظم المراهقين، ولا سيما مراهقو اليوم. فهم يخوضون معاناة الذين لم يولدوا بعد، عقول تعيش حالة ضمور في وقت كان من المفترض فيه طبيعيًا أن يتحقق نموها.
في المقابل، فإن انتقال الإنسان من استرشاده بالطريقة التي يدرك فيها الحياة إلى استرشاده بفلسفة واعية يأخذ أشكالًا عديدة. ولنأخذ بصورة استثنائية نادرة: الطفل؛ إنه عقلاني تمامًا بطبيعته، تلك الطبيعة التي من خلالها يثبت ويصحح مفاهيمه حول شعوره المَحض بطبيعة وجود الإنسان، ومن ثم تحويل المشاعر الصامتة إلى معرفة ملفوظة واضحة، ووضع أساس متين وقاعدة فكرية تشكل مسار حياته. وبذلك نحصل على شخصية متكاملة تمامًا: إنسان يتلاءم عقله مع عاطفته، ويتطابق إدراكه للحياة مع قناعاته الواعية.
لا تحل الفلسفة محل إدراك الإنسان للحياة. فحيثما يواصل إدراك الإنسان عمله كمجموعة من القيم المتكاملة تلقائيًا، فإن الفلسفة تضع معايير عملية التجميع العاطفي هذه وفقًا لرؤية واضحة ومتماسكة للواقع (إن كانت إلى حد ما فلسفة عقلانية). وبدلًا من استنباط ميتافيزيقيا ضمنية، بشكل لا واعٍ، من تقييماته الذاتية، أصبح الآن يستخلص فكريًا تقييماته الذاتية من ميتافيزيقيا واضحة. إذ تنطلق عواطف الإنسان من أحكامه الذاتية التي كوّنها لنفسه بقناعة كاملة. فالعقل هو القائد، والعواطف تابعة له.
للعديد من النّاس، قد لا تحدث عملية الانتقال هذه أبدًا. فهم لا يحاولون جمع معارفهم، ولا يحاولون الحصول على أي قناعات واعية، ويُتركون تحت رحمة إدراكهم البائس كدليلهم الوحيد في الحياة.
ولغالبيّة الناس، تكون عملية الانتقال هذه غير ناجحة بشكل كامل وتغلب عليها المعاناة، وتؤدي إلى صراع داخلي أساسي، صراع بين قناعات الإنسان الواعية وإدراكه المجهول (أو المعروف جزئيًا) للحياة والمكبوت بداخله. وفي كثير من الأحيان، تكون عملية الانتقال غير مكتملة. كما في حالة الإنسان الذي لا تكون قناعاته جزءًا من وحدة فلسفية متكاملة، بل تكون مجرد مجموعة من الأفكار العشوائية والمفككة، والتي غالبًا ما تكون متضاربة أيضًا. ولذاك تبدو هذه الأفكار لعقله غير مقنعة في مقابل قوة الميتافيزيقيا اللاواعية. وفي بعض الحالات، قد يكون إدراك الإنسان للحياة أفضل (أقرب إلى الحقيقة) من نوع الأفكار التي يتقبلها. بينما في حالات أخرى، يكون إدراكه للحياة أكثر سوءًا من الأفكار التي يدعي أنه يتقبلها ولكنه عاجز عن تنفيذها تمامًا. ومن عجيب المفارقات هنا: أن في حالات كهذه، تأخذ عواطف الإنسان دور المنتقم، لتعاقب صاحبها على تضليل فكره وإهماله.
من أجل أن يعيش الإنسان عليه أن يفعل، ومن أجل أن يفعل عليه أن يتخذ خيارات، ومن أجل أن يتخذ خيارات عليه أن يحدد مجموعة من القواعد التقييمية، ومن أجل تحديد مجموعة من القواعد التقييمية، يجب عليه أن يعرف ما هو ومكان وجوده؟ أي أنه يجب عليه أن يعرف طبيعته (بما في ذلك وسائل معرفته) وطبيعة الكون الذي يفعل فيه، وهذا يدل على أن الإنسان يحتاج إلى علم الميتافيزيقيا، ونظرية المعرفة، وعلم الأخلاق، وذلك يعني الفلسفة. تعد الفلسفة التي يسترشد بها الإنسان في حياته حاجة ليس للإنسان خيار الهروب منها، لكن يتمثل خياره الوحيد في ما إن كان عقله سيختار هذه الفلسفة أو أنه سيتبع فلسفة أتت إليه بمحض الصدفة.
إذا لم يمنح عقل الإنسان صاحبه نظرة شاملة عن الوجود، فإن إدراكه للحياة هو من سيقوم بهذا الدور. فإن سلم الإنسان نفسه لقرون من الهجمات الفكرية على عقله- كتقاليد تتسم باللاعقلانية الضارة أو هراء غير معقول يُتداول تحت غطاء الفلسفة- وإن استسلم، في حالة خمود أو حيرة، وتهرب من القضايا الأساسية وشغل نفسه فقط بقضايا وجوده اليومي المحدودة حينها سيسطر إدراكه للحياة على تفكيره : ليوجهه إلى الخير أو الشر ( وغالبًا للشر)، وسيترك تحت رحمة فلسفة لا واعية جاهل هو بها، لم يسبق له أن اختبرها من قبل، أو حتى كان يعي تقبلها.
ومن ثم، ونظرًا إلى تزايد مشاعر الخوف والقلق والشك لدى هذا الإنسان عامًا بعد عام، يجد نفسه يعيش مع شعور اقتراب خاتمة مجهولة وغير محددة، كما لو أنه يترقب دنو يوم الحساب. ما لا يعرفه هذا الإنسان هو أن كل يوم من أيام حياته هو يوم حساب، وهو يوم يدفع فيه ثمن التقصير، والنفاق، والأكاذيب التي سجلها بدون وعيه على ورقة إدراكه للحياة، وثمن ما تركه فارغًا فيها. وفي هذا النوع من التسجيل النفسي للإنسان، تعتبر الخانات الفارغة من الخطايا هي الأكبر إثمًا.
إن الإدراك مسألة غير منتهية. فلا يتوقف الأمر على مجرد اكتساب الإنسان إدراكه الخاص للحياة وفقط، بل يمكن تغيير هذا الإدراك وتقويمه بسهولة في فترة الشباب بينما لا يزال يتسم بقابلية التغيير. أو تغييره في سنوات الإنسان اللاحقة لكن سيتطلب ذلك منه بذل جهود أكثر صعوبة وأطول زمنًا. وبما أن الإدراك عبارة عن مجموع عواطف، فهو لا يمكن تغييره من خلال فعل إرادة مباشر وحسب. بل يتغير تلقائيًا، لكن فقط بعد عملية طويلة من التأهيل والتدريب النفسي، عندما وإذا فقط غير الإنسان خلاصاته الفلسفية الواعية.
وسواء أكان هذا الإدراك مقومًا أم لا، أم متوافقًا مع الواقع أم لا، ومهما كان ما يحتويه هذا الإدراك في أي حالة أو مرحلة من حياة الإنسان، فإنه دائمًا يحتفظ بخاصية شخصية عميقة، ويعكس قيم الإنسان الراسخة، وهو أيضًا ممارسة تُكسب الإنسان إحساس بهويته الخاصة.
من الصعب نظريًا تعيين إدراك شخص ما للحياة، وذلك بسبب صعوبة عزل الإدراك عن باقي جوانب الإنسان الشخصية. فهو يرتبط بكل شيء يتعلق بهذا الشخص، ويندرج في كل فكرة وعاطفة وسلوك، ويتمثل في كل ردة فعل وفي كل اختيار وقيمة، ويظهر في كل إيماءة تلقائية وفي طريقة الحركة والحديث والابتسام، وفي مجمل جوانب شخصيته. وهو ما يجعل الإنسان يكتسب مفهوم "الشخصية" أو يعطيه هوية ذاتية.
عند التأمل عميقًا في داخل الذات الإنسانية، نجد أن المرء يمارس إدراكه للحياة على أنه أمر أساسي تام وجازم ويتعذر إنقاصه، مثل تلك الأشياء التي لا يتساءل المرء عنها، بسبب عدم إثارة هذا النوع من التشكيك والتساؤل في ذهنه من قبل. ومن منظور خارجي للذات الإنسانية، فإن إدراك شخص ما يصل إلى طرف آخر تربطه به معرفة قصيرة على شكل انطباع فوري، غير محدد بعد. وهو انطباع غالبًا ما يُظن الشخص بأنه متيقن منه، إلا أنه حالما يحاول التحقق منه سيجد أن انطباعه كان مخادعًا ومضللًا له.
يقود هذا العديد من الأشخاص إلى اعتبار إدراك الحياة كنوع معين من أنواع الحدس الخاص، كأمر يمكن فهمه من خلال نظرة خاصة غير عقلانية وحسب. لكن العكس هو الصحيح. فإدراك الحياة ليس أمرًا أساسيًا لا يقبل التنقيص، بل هو مجموعة من الأشياء المعقدة جدًا. يمكن الشعور به ولكن لا يمكن فهمه عن طريق ردود فعل تلقائية وحسب. فلكي نتمكن من فهمه، يجب أن نحلله ونحدده ونتثبت منه فكريًا. إن ذلك الانطباع التلقائي الذي نكتسبه -عن الذات أو عن الآخرين- هو مجرد دليل غير مترجم وقد يكون مضللًا للغاية. ولكن يُدعم هذا الانطباع الغامض ويرتبط بحكم واعي، سينتج عن ذلك الحصول على أعظم درجات اليقين يمكن للمرء أن يختبرها: وهو جمع العقل والقيم.
هناك جانبان لوجود الإنسان يعبران عن عالمه الخاصة وإدراكه للحياة وهما: الحب والفن.
وأشير هنا إلى الحب الرومانسي العاطفي، بالمعنى الدقيق لهذا المصطلح، كمعنى مختلف عن الافتنان السطحي الذي يفعله من يخلوا إدراكهم من أي قيم ثابتة، أي خلوا الإدراك من أي مشاعر دائمة ما عدا الخوف. إن الحب ما هو إلا مجرد استجابة للقيم. يقع الشخص في الحب من خلال إدراكه للحياة، بذلك المجموع الأساسي من العواطف، ذلك الموقف أو الطريقة الأساسية لمواجهة الوجود، والذي هو جوهر الشخصية. إن الحب الذي يشعر به أحدهم هو تجسيد للقيم التي شكلت شخصيته، والتي تتجلى في أكبر أهدافه وأصغر إيماءاته، والتي تخلق شكل روحه، أسلوب فردي يحمل وعي فريد لا بديل له ولا شبيه. إن إدراك المرء للحياة هو ما يقوم بعملية الاختيار والتحديد، ويستجيب لما يعترف به صاحبه من قيم أساسية وتكون موجودة في الطرف الآخر. إنها ليست مسألة اعتراف بمعتقدات أو إدانتها (على الرغم من أن ليس لها أي صلة)، بل هي مسألة انسجام عميق بين العقل الواعي واللاواعي.
هناك احتمال وجود العديد من الأخطاء والتضليليات المأساوية في عملية الاعتراف الإدراكي العاطفي هذه، لأن إدراك الحياة بحد ذاته ليس دليلًا معرفياً موثوقًا. وإن كانت هناك ثمة درجات للشر، فإن أحد أشر نتائج التصوف الروحانية - من حيث المعاناة الإنسانية - هو الاعتقاد بأن الحب أمر متعلق بـ "القلب" ولا يرتبط بالعقل، وأن الحب عاطفة مستقلة عن المنطق والإدراك، وأن الحب أعمى وذا حصن منيع ضد قوة الفلسفة. بل إن الحب تعبير عن الفلسفة، والتي هي مجموع فلسفات لا واعية. ولربما أيضًا ليس هناك أي جانب آخر للوجود الإنساني يحتاج إلى القوة الواعية للفلسفة إلى هذا الحد مثل الحب. وعندما يستدعي الإنسان تلك القوة كي تتحقق من تقييمه العاطفي وتدعمه، وعندما يكون الحب عبارة عن جمع واعي بين العقل والعاطفة، وبين العقل والقيم، حينئذ - وعندها فقط - ستتمثل أعظم مكافاة لحياة الإنسان.
إن الفن عبارة عن عملية انتقائية لإعادة خلق الواقع وفقًا لأحكام الفنان الذاتية الميتافيزيقية. وهو أيضًا الأداة المُجمعة لأفكار الإنسان المجردة والمُترجمة لها، وهو صوت إدراكه للحياة. ومن ثم على هذا النحو، فإن الفن عرضة لنفس المخاطر، ونفس المآسي - وأحيانًا نفس العظمة - التي تكتنف الحب الرومنسي. إن من بين جميع الإبداعات البشرية، قد يكون الفن هو أهم شيء للإنسان وأقل شيء يفهمه.