السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:07 صباحاً
لطالما كنت مهتماً بوِجْدَان الإنسان —عالم العواطف والمشاعر—وقضيتُ سنوات عديدة بالاستقصاء فيه: لماذا وكيف تنبع المشاعر، ونشعر بها ونستخدمها لبناء أنفسنا؛ كيف يمكن للمشاعر أن تدعم نوايانا الحسنة أو أن تهدمها؛ لماذا وكيف يمكن للدماغ أن يتفاعل مع الجسد ليدعم مثل هذه الوظائف.
فيما يتعلق بالفكرة، فهي بسيطة جدًا: لم تحظَ المشاعر بالتقدير الذي تستحقه بانها حوافز المساعي الثقافية البشرية، ومراقبيها، ومفاوضيها. ميزَّ البشر ذواتهم عن جميع الكائنات الأخرى بابتكار مجموعة هائلة من الأدوات، والممارسات والأفكار، والتي يُطلق عليها جمعاً باسم الثقافات. وتتضمن هذه المجموعة الفنون، والمسائل الفلسفية، والنظم الأخلاقية والمعتقدات الدينية، والعدالة، والإدارة، والمؤسسات الاقتصادية، والتقنية والعلوم. فلماذا وكيف بدأت هذه العملية؟
تستند الإجابة المتكررة إلى القدرة المهمة لدى العقل البشري—اللغة الشفهية— إضافةً إلى السمات المميزة مثل المهارات الاجتماعية القوية والتفوق العقلي. فمن لديهم توجه بيولوجي فستشمل الإجابة كذلك على عملية الانتقاء الطبيعي التي تعمل على مستوى الجينات. فليس لدي أدنى شك بأن الذكاء، والمهارات الاجتماعية، واللغة تؤدي أدوارًا رئيسة في العملية، وغنيٌ عن القول إن الكائنات الحية قادرة على الابتكار الثقافي، إلى جانب القدرات المعينة المستخدمة في عملية الابتكار، فهي توجد لدى البشر بفضل عملية الانتقاء الطبيعي وانتقال الجينات. الفكرة هي أنه كان يتطلب وجود شيء آخر لتبدأ قصة الثقافات البشرية. وكان هذا الشيء الإضافي هو وجود الحافز. فأنا أشيرُ تحديدًا إلى المشاعر.
هل لدى الأسماك مشاعر؟ " فبمجرد دخول الأجهزة العصبية إلى الساحة، أصبحَ المسار مفتوحاً للمشاعر،" كتب أنطونيو داماسو في مقاله." ولهذا السبب فإن حتى الأجهزة العصبية البسيطة على الأرجح تسمح بقدرٍ من الشعور."
فلكي نفهم أصل المشاعر وبناءها، ولنقدر مساهمتها في العقل البشري، فنحن بحاجة إلى وضعها بالصورة الكاملة لخاصية الاتزان الداخلي. إذ يشيرُ مبدأ الاتزان الداخلي إلى القدرة، الموجودة لدى كافة الكائنات الحية، بالحفاظ على استقرار وتلقائية عملياتها الوظيفية: الكيميائية والفيسيولوجية بوجه عام، ضمن مجموعة من القيم التي تتناسب مع بقائها على قيد الحياة. ولكن، بالنسبة للعديد من المخلوقات الحية، وبالطبع بالنسبة للبشر، فإن استخدام مصطلح "الاتزان الداخلي" على نطاق محدود غير كافٍ.
فمن الصحيح أن البشر مازالوا يحسنون استخدام عمليات التحكم التلقائية والاستفادة بدرجة كبيرة منها: فيمكن تعديل نسبة السكر في مجرى الدم تلقائياً إلى حد أمثل وذلك عن طريق مجموعة من العمليات المعقدة التي لا تتطلب أي تدخل واعٍ من جانب الفرد. فعلى سبيل المثال، يضبط الأنسولين الذي أفرزته الخلايا البنكرياسية مستوى السكر. إلا أن، لدى البشر وكثير من الكائنات الأخرى التي تتمتع بجهاز عصبي معقد، هناك آلية إضافية تشتمل على التجارب العقلية التي تُعبر عن قيمة ما. إذ يكمن مفتاح هذه الآلية في المشاعر.
كان من الممكن أن تتطور الطبيعة بطريقة أخرى دون أن تتعثر بالمشاعر. ولكنها لم تتطور هكذا.
والأهم أن المشاعر ليست أمرًا مستقلاً اختلقه العقل. إنما هي نتيجة عمل مشترك تعاوني بين الجسد والعقل، إذ تتفاعل عبر الجزيئات الكيميائية الحرة والمسارات العصبية.
فإن تناسق المشاعر اللطيفة والبغيضة مع كل من النطاقات الإيجابية والسلبية لخاصية الاتزان الداخلي هي حقيقة مثبتة. فخاصية الاتزان الداخلي في نطاقاتها الجيدة وحتى المثلى تتجلى في الرفاهية وحتى البهجة، بينما تساهم السعادة النابعة عن الحب والصداقة في زيادة فعالية خاصية الاتزان الداخلي وتعزز الصحة. فالأمثلة السلبية لا تقلُ عن ذلك وضوحاً. فالقلق المرتبط مع الحزن يحدث بسبب تحفيز منطقة حلقة وصل تحت المهاد بالدماغ والغدة النخامية على العمل عن طريق إفراز الجزيئات التي تهدف إلى تقليص خاصية الاتزان الداخلي وفي الواقع تحدث ضررًا في عدد لا محدود من أجزاء الجسم كالأوعية الدموية والبنى العضلية. والمثير للدهشة أن عبء حدوث مرض جسدي على خاصية الاتزان الداخلي من الممكن أن يتسبب في تنشيط المحور التحت المهادي النخامي نفسه ويسبب إفراز الداينورفين، وهو جزيء يسبب حالة نفسية بالانزعاج.
إن دورة عمل هذه العمليات هو لأمرٌ رائع. ففي ظاهر الأمر، يؤثر العقل والدماغ على الجسد تأثيرًا كاملاً بقدر ما يؤثر الجسد بالكامل على الدماغ والعقل. فهما مجرد جانبان من الكائن نفسه.
فسواءً كانت المشاعر تتناسب مع النطاقات الإيجابية أو السلبية لخاصية الاتزان الداخلي، فإن الإشارات الكيميائية المختلفة المتضمنة في معالجتها والحالات الشعورية الداخلية المصاحبة لها لديها القدرة على تحويل المسار العقلي المعتاد، على نحوٍ طفيف وقد يكون أكثر من ذلك. فمن الممكن أن تتعرقل عمليات الانتباه، والتعلم، والتذكر، والتخيل ويمكن أن تضطرب المواءمة بين المهام والأوضاع، سواءً أكانت هينة أم ليست كذلك. فغالباً ما يكون من الصعب تجاهل الاضطراب العقلي الذي تسببت به المشاعر العاطفية، وخاصةً فيما يتعلق بتنوعها السلبي، ولكن مع ذلك فحتى المشاعر الإيجابية النابعة عن الوجود الذي يسوده السلام والوئام لا يُفضل تجاهلها.
يمكن أن تُعزى جذور التوافق بين عمليات الحياة ونوعية الشعور إلى آليات عمل خاصية الاتزان الداخلي ضمن الأسلاف المشتركة بين أجهزة الغدد الصماء، والأجهزة المناعية، والأجهزة العصبية. فكل هذه الأجهزة تعود إلى ضباب باكر عهد الحياة. فلطالما عَمِلَ الجزء المسؤول في الجهاز العصبي عن تحديد أجزاء العقل والاستجابة له، وخاصةً القديمة منها، عملاً تعاونياً مع جهاز المناعة والغدد الصماء داخل ذلك العقل نفسه.
فعند الإصابة بجرحٍ ما، على سبيل المثال: بسبب عملية ناتجة عن مرض نشأ داخلياً أو بسبب ضرر خارجي، فبالتالي ستكون النتيجة المعتادة لذلك هي الشعور بالألم. ففي الحالة الأولى: نتج الشعور بالألم عن الإشارات التي تنقلها الألياف العصبية ضمن المجموعة (سي) اللاميالينية القديمة، وقد يكون موضعها غامضاً، وفي الحالة الثانية: يستخدم الألم الإشارات المنقولة من الألياف العصبية الميالينية التي تطورت مؤخرًا والتي تسهم في إحداث ألمٍ حاد في موضع محدد.
حتى الأجهزة العصبية البسيطة قد تسمح بقدرٍ من الشعور.
إلا أن الشعور بالألم، سواءً أكان طفيفًا أو حادًا، هو جزءٌ مما يجري بالواقع في الكائن الحي وفي أحدث جزءٍ منه، وذلك من منظور تطوري. ماذا يحدث كذلك أيضاً؟ ماهية الجزء الخفي من العملية؟
والإجابة هي أن كلا الاستجابتين من الأجهزة المناعية والعصبية تتعلق موضعياً بالجرح. إذ تتضمن هذه الاستجابات التغيرات التي تحدث بفعل الالتهابات مثل التوسيع الوعائي الموضعي وتيار من خلايا الدم البيضاء يتجه نحو المنطقة المصابة. تُستدعى خلايا الدم البيضاء للمساعدة في محاربة العدوى أو منعها وإزالة بقايا النسيج التالف. فهي تتولى إزالة البقايا بالمشاركة في عملية البلعمة الحيوية—التي تُحيط مسببات الأمراض، وتدمجها، وتدمرها—وتحارب خلايا الدم البيضاء العدوى عن طريق إفراز جزيئات معينة. فمن الممكن أن يحدث انقسام تطوري بجزيء قديم— البرونكفين، وهو جزيء متوارث عن الأسلاف والأول من نوعه—فينتج عنه مكونان نشيطان تُفرز موضعياً.
فالمركب الأول هو دواء مضاد للبكتيريا؛ والآخر هو مسكن ألم شبه أفيوني الذي سيعمل على طبقة خاصة من المستقبلات شبه الأفيونيات—طبقة مستقبلات دلتا—وهي تقع بالنهايات العصبية الطرفية الموجودة بذلك الموضع. فالعلامات الكثيرة التي تدل على الضرر الموضعي وإعادة تشكيل حالة لحم الجسد المتضرر تحدث موضعياً لتكون متوفرة للجهاز العصبي وتُحددُ تدريجياً، وبالتالي تُسهم بدورها في الطبقة السفلية المتعددة الطبقات للألم. ولكن في الوقت ذاته، يساعد إفراز الجزيء شبه الأفيوني وامتصاصه في تهدئة الألم وتقليل الالتهاب. فبفضل هذا العمل التعاوني بين الجهاز العصبي والمناعي، تعمل خاصية الاتزان الداخلي جاهدة لكي توفر لنا الحماية من الالتهابات وتحاول التقليل من الشعور بالضيق كذلك.
لكن هناك الكثير مما ينبغي قوله. يثيرُ الجرح الاستجابة الانفعالية التي لديها مجموعة من الحركات الخاصة بها؛ فعلى سبيل المثال: حدوث انقباض عضلي الذي قد يوصف بكونه أشبه بالرجفة. فمثل هذه الاستجابات وعملية تغيير شكل الكائن الحي التي أعقبت تلك الاستجابات تُحددُ كذلك وبالتالي "يصورها" الجهاز العصبي كجزءٍ من الحدث. إذ يساعد ابتكار صور لردود الفعل الحركية على ضمان عدم مُضي الحالة دون ملاحظتها. ومن الغريب أن مثل ردود الفعل الحركية هذه وردت في مرحلة التطور قبل بداية تكوين الأجهزة العصبية بكثير. إذ أن الكائنات الحية البسيطة تنكصُ، وترتعد، وتقاتل عندما تكون سلامتها الجسدية معرضة للخطر.
وبإيجاز، إن مجموعة ردود الفعل للإصابة بجرح ما التي كنت أصفها بشأن البشر—ردود الفعل لمحاربة البكتيريا ولمسكنات الآلام الكيميائية، وللارتجاف ولحركات المراوغة—فهي استجابات قديمة ومنظمة تنظيماً جيدًا تحدث عن تفاعلات كامل الجسم مع الجهاز العصبي. ولاحقاً في التطور، عندما أصبحت الكائنات الحية ذات الأجهزة العصبية قادرة على تحديد الأحداث غير العصبية، أصبحت مكونات هذه الاستجابة المعقدة كصور ضمن الجهاز العصبي. فالتجربة العقلية التي نُطلق عليها "الشعور بالألم" قائمة على هذه الصورة المتعددة الأبعاد.
فالنقطة التي ينبغي توضيحها هي أن الشعور بالألم تجربة تدعمها بالكامل مجموعة متكاملة من الظواهر البيولوجية القديمة والتي تفيد أهدافها على نحوٍ واضح خاصية الاتزان الداخلي. فالقول بأن الأشكال البسيطة من الحياة التي ليس لديها أجهزة عصبية تعاني من الألم فذلك غير ضروري ومن المحتمل أنه غير صحيح. فمن المؤكد أن لديها بعض العوامل الضرورية لتشعر بالألم، ولكن من المعقول الافتراض بأنه لكي ينبع الألم بحد ذاته، كتجربة عقلية، يحتاج الكائن الحي إلى وجود عقل وذلك لكي يختفي الشعور بالألم، يحتاج الكائن الحي إلى جهاز عصبي قادر على تحديد التراكيب والأحداث. فأنا أظن أن أشكال الحياة التي لا تملك أجهزة عصبية أو عقول كانت ولايزال لديها عمليات انفعالية مفصلّة، وبرامج لعملية الدفاع والتكيف، إلا أن لا مشاعر لها. فبمجرد دخول الأجهزة العصبية إلى الساحة، أصبحَ المسار مفتوحاً للمشاعر. ولهذا السبب فإن حتى الأجهزة العصبية البسيطة على الأرجح تسمح بقدرٍ من الشعور.
لم تحظ المشاعر بالتقدير الذي تستحقه بكونها محفزات الثقافة البشرية.
غالباً ما يُطرح هذا السؤال، وليس على نحوٍ غير معقول، لماذا ينبغي أن يكون للإحساس بالمشاعر طعمًا مثل أي شيء آخر، حلوًا أم مرّاً، سواءً أكان هادئاً إلى حدٍ ما أو جياشاً كالعاصفة الهائجة. ينبغي أن يكون السبب واضحاً الآن: فعندما بدأت المجموعة الكاملة من الأحداث الفسيولوجية التي تتضمن المشاعر بالظهور في مرحلة التطور وقدمت التجارب العقلية، أحدثت أثرًا. إذ جعلت المشاعر الحياة أفضل. فهي تطيلُ بالأعمار وتنقذ الأرواح. تتوافق المشاعر مع أهداف خاصية الاتزان الداخلي الضرورية وتساعد في تنفيذها عبر إعطاءها قدرًا من الأهمية لدى صاحبها، فمثلاً: ظاهرة النفور من الأماكن ذات التكييف العالي فعلى ما يبدو أنها تُبرهن أن وجود المشاعر يرتبط ارتباطاً قريباً مع نوع آخر من التطور: الوعي، وعلى الأخص، الطابع الذاتي.
إن قيمة المعرفة التي زودت المشاعر الكائن الحي بها في الموضع الذي تطرأ فيه هو على الأرجح السبب في افتعال التطور لها للتمسك بها. إذ تؤثر المشاعر على العملية العقلية من الداخل وهي مُقنعة لأنها تفرض قوتها الإيجابية أو السلبية، فتكمن أصولها في التصرفات التي تفضي إلى الصحة أو الموت، وقدرتها على السيطرة على من يشعر بها أو هزه وتفرض تركيز الاهتمام على الحالة.
فهذا الوصف المميز للمشاعر يوضح حقيقة أن التجارب العقلية لا تحدث بفعل التحديد البسيط لكائن ما أو حدث في النسيج العصبي. فعوضاً عن ذلك، تحدث التجارب بفعل التحديد المتعدد الأبعاد لظاهرة سلامة كامل الجسد والمحبوك على نحوٍ تفاعلي مع الظاهرة العصبية. فالتجارب العقلية ليست "صورًا فورية" ولكنها عمليات تحدث في وقت محدد، تحكي قصصا عن عدة أحداث صغيرة في كامل الجسد والدماغ.
وليس من المستبعد، بالطبع، أنه من الممكن للطبيعة أن تتطور بطريقة أخرى دون أن تتعثر بالمشاعر. ولكنها لم تتطور هكذا. فالأساسيات وراء المشاعر جزءٌ لا يتجزأ من استمرارية الحياة التي كانت موجودة بالفعل. وكل ما كان مطلوباً إضافةً إلى ذلك هو وجود أجهزة عصبية تعمل على تكوين العقل.
وفي نهاية المطاف، يمكن للمشاعر أن تزعجنا أو تبهجنا، لكن هذه ليست الغاية من وجودها. توجد المشاعر لتوجيه دورة الحياة، فهي مصادر تقديم معلومات عن الاتزان الداخلي الرئيس أو بشأن الأوضاع الاجتماعية بحياتنا. تخبرنا المشاعر عن المجازفات، والأخطار، والأزمات الجارية التي يجب التصدي لها.
وعلى الجانب اللطيف الآخر من المسألة، من الممكن للمشاعر أن تدلنا على الفرص. ويمكن لها أن توجهنا نحو السلوكيات التي ستحسن من الاتزان الداخلي لدينا على نحوٍ كامل، وفي تلك العملية، ستجعل منا كائنات بشرية أفضل، نحمل مسؤولية أكبر تجاه مستقبلنا ومستقبل غيرنا.