الجمعة , 17 يناير 2025 - 17 رجب 1446 هـ 11:22 مساءً
التعصّب وما يتعلق به
نشر جولين ريموند سنة 1791 إحدى أولى المقالات النقدية التي تتحدث عن التعصّب العرقي، وقد كان ريموند رجلا حرا، من سلالة عرقية مختلطة من المستعمرة الفرنسية سانت دومينغو (والتي تُعرف الآن ببلدة هايتي)، وفي مقالته "تأملات في أصل ونشأة تحيز الشعب ذي العرق الأبيض تجاه الشعب ذي البشرة الملونة" ناقش أن تشريعات التعصّب العرقي ضد الشعب ذي الأصل الإفريقي ما هي إلا نتيجة نزعات نفسية، فكان يعتبر عمل ريموند كأول وصف ثابت لكيفية عمل التعصّب العرقي وكيفية القضاء عليه.
ففي اليوم الحاضر، فكرة أن التعصّب اللاواعي ينفذ إلى نفسية الفرد، ويحرض السلوك العرقي لديه، فيخلد فكرة عدم المساواة الاجتماعية، أصبحت المحور في النقاشات السياسية، والأكاديمية والحياة اليومية حول العرقية، لكن هذه الفكرة تعتبر نتاجًا لحظيًّا من القرن الثامن عشر، ذات دوافع صادمة ومقلقةٌ خفية.
كان ريموند ناشطًا في حقوق ذوي البشرة الملونة، ففي سنة 1789، غادر منزله في سانت دومينغو وذلك قبل اندلاع الثورة الفرنسية، غادر متجهاً إلى باريس للضغط على الحكومة للاعتراف بتشريع المساواة للأفراد الأحرار الذين هم من أصل أفريقي.
انضم ريموند إلى مجموعة متطرفة من المفكرين والسياسيين، والذين آمنوا بأن المساواة العرقية يجب أن تكون جزءاً من الثورة الناشئة، فلم يكن ريموند مناوئا للعبودية بل على العكس، بينما كان حلفاؤه يتجادلون حول تحرير العبيد، بقي ريموند مصراً على اختلاف العبودية وحركة تحرير العبيد. في أولى صفحات مقالته زعم بأن "عُصبة من أصحاب المزارع ذوي العرق الأبيض قد دمجوا بذكاء قضيتي الشعب ذوي البشرة الملونة والعبودية". وفي الواقع، أراد ريموند الحفاظ على العبودية، معتقداً بأن إقصاء قضية التعصّب العرقي قد توحد كفوف مالكي العبيد من ذوي البشرة البيضاء والملونة معاً واستعباد الأفارقة. لفت ريموند أيضاً الانتباه إلى بعض آراء أصحاب المزارع من العرق الأبيض من المؤيدين للعبودية، فما يعتقد به ريموند عن "التعصب العرقي" أنه نتيجة لواقعة نفسية متأصلة في أولئك المزارعين ودفاعهم عن العبودية.
فكثير من أفكار ريموند أصابت الكثير من القراء في الوقت الحالي بالصدمة، فوصفوها بالأفكار الغريبة والزائفة. على كلٍ، كان ريموند رائداً في النقد المعاصر عن التعصّب العرقي، كما أبقى أيضاً على دفاعه عن العبودية.
معظم افتراضات الناس بأن العرقية هي من أدت إلى العبودية، وكلاهما رديفٌ للآخر، لكن لم تكن هذه القضية فعلاً في القرن الثامن عشر، فمن وجهة نظر ريموند، كانت العبودية والعرقية في القرن الثامن عشر بالنسبة للكريوليين مُلّاك العبيد (أناس من مختلف المناطق والبلدان، أو الأشخاص المولودون محلياً من آباء أجانب) شيئان متناقضان، ويجب التفريق بينهما، والعبودية على ذلك قد وجدت منذ مئات السنين، أما التعصّب العرقي المعاصر كما تناوله ريموند بأنه شيء مُستحدث، مَشروطٌ ومُحسن، مثله مثل المفكرين في وقته، (وذلك يشمل بعض المؤسسين للولايات المتحدة) رأى ريموند بأن العالم مُقسم إلى قسمين اثنين، نخبة من الرجال ذوي الأملاك والسلطة، ومجموعة من العبيد الكادحين. اعتقد أيضاً بأن سلطة النخبة الصغيرة ستكون أكثر مرونة إذا كان ذوو الامتياز من أصحاب ذوي البشرة الملونة أيضاً.
ذاع صيت ريموند لدى مؤرخي ثورة هايتي، ولكن لم تمنع حليفهُ هنري غريغوار من التفوق عليه. غريغوار كان أسقفا فرنسيًا متطرفًا، جعل من نفسه سبباً في القضية السياسة الثورية، كان يدعو إلى المساواة الشرعية لليهود الفرنسيين (الذين قد عانوا من أنواع شتى من التعصّب قُبيل سنة 1789)، وكان عضواً مهماً في هيئة التحرير من العبودية في باريس. فمن أعضاء الهيئة كأمثال غريغوار_ وضعت الأسس للحملة التي شُنت ضد تجارة العبيد والمؤسسة نفسها، وكانت جزءاً من مؤسسة تجارة الرقيق في المحيط الأطلسي، تمتلك فروعاً في أمريكا وبريطانيا. فكان لريموند أهدافاً مختلفة آنذاك، فبمصادقته لغريغوار استطاع إقناعه بأن تحسين الأوضاع لدى الأحرار من البشرة الملونة من شأنه أن يفيد أكثر في إنهاء العبودية.
أعاد ريموند توجيه هيئة التحرير من العبودية الباريسية ونشاطها في أوائل سنوات الثورة؛ باعتماده على مصطلح "التعصّب", حرّف الانتباه عن قضية العبودية، موجهاً إياه نحو التعصّب العرقي، الذي كان يعتبره خللاً نفسياً، فأصبح فيما بعد مفهومًا رئيسيًا لدى الفلسفة والسياسة الأوروبية.
ما إن أخذت الحكومة الأوروبية بالاستعمار والعبودية، إلا وانهال عليها سيل من الانتقادات والاعتراضات من الأوروبيين، منتقدين أي شكل من أشكال الهيمنة والاستغلال؛ فالكاتب الفرنسي ميشيل دي مونتين دافع في مقالته "أكلة لحوم البشر" (1580) مناشدا لأجل حقوق سكان أمريكا الجنوبية من الغزاة الأوروبيين، ففي القرن السادس عشر، أستنكر القس بارتولومي دي لاس كاساس الاحتلال الاسباني للأراضي الأمريكية، التي خلفت وراءها ملايين من القتلى والمستعبدين، لكن لم يدم الحال على ما هو عليه بعد نشوء منظمة معارضة للعبودية والتعصّب العرقي في الغرب في أواخر القرن الثامن عشر؛ فالقيم التي ميّزت "عهد الثورات", وألهمت التحولات السياسية عبر المحيط الأطلسي، كان لها دور فعال كذلك، فمع افتراض المفكرين المتزايد بوجود الحقوق الطبيعية المشتركة بين الشعوب، وهيمنة العاطفة والشفقة بسبب المعاناة، مما جعلها فكرة رئيسية في الروايات الأوروبية، كالمسرحيات والمقالات، فتزايد على أثر ذلك عدد المعارضين للعبودية_ مع ذلك، لم تتوصل أول المعارضات في الغرب إلى فكرة أن العبودية مؤسسة مرتبطة بمجموعة من المعتقدات والمواقف اللاواعية، في الواقع مستعمرة من مالكي العبيد في سانت دومينغو ألقت الضوء على التعصّب العرقي بشكل أصبح من المتعذر تجاهله.
تعتبر مستعمرة سانت دومينغو "جوهرة التاج" للإمبراطورية الفرنسية، ومركز إنتاج السكر في العالم، فلا شيء يضاهيها، حتى الحقول شاسعة المساحة في أمريكا الشمالية التي فقدت فرنسا ملكيتها في مجابهة مع بريطانيا في حرب السنوات السبع (1756- 1763). وكان بإمكان المسؤولين الفرنسيين التفاوض على كندا ولويزيانا بدون إثارة الجدل ولفت الأنظار، فقد علقوا آمالهم على سانت دومينغو النفيسة، الملكية الاستعمارية المرغوبة، وموطناً لإحدى أخطر وأشرس نظم العبودية، من بين ما يقارب الـستمائة ألف نسمة، كان نصف المليون منهم من العبيد، ما بين الأقلية من الفلاحين ذوي العرق الأبيض والأغلبية من الأفارقة العبيد، ظهر جيل حُر ذو عرق مختلط، والذين عرفوا بعد ذلك بذوي البشرة الملونة، فأصبحت تربطهم علاقة العرق، فنشأت جماعة ذات ثراء فاحش في المجتمع الاستعماري، ومنهم من دخل في تجارة الرقيق، وعانى الكثير من معضلات كثيرة للحصول على وظائف، وعانوا من المشكلات بسبب مكانة الطبقة الارستقراطية، إلا أنهم ضغطوا على الحكومة الفرنسية للاعتراف بالمساواة القانونية.
قاومت الطبقة الارستقراطية من ذوي البشرة البيضاء مشاركة السُلطة مع ذوي البشرة الملونة، فطوروا حجة ذات مصالح ذاتية في سنة 1770, وفقا لما يدعيه بإعطاء حقوق متساوية لذوي البشرة الملونة لتقويض نظام العبودية، فعندما صرح به مفوضٌ من الدولة، كان لزاماً على الدولة الاستعمارية أن تنشر مصطلح "التعصّب" حتى يقع في أذهان مواطني المستعمرة بأن الجماعات من أصول أفريقية أقل شأناً من الأوروبيين، فإذا رأى العبيد الأفارقة سعادة الجماعات الحرة من "ذوي البشرة الملونة" ـ بالمساواة مع أقرانهم ذوي البشرة البيضاء، سيتدارك إلى أذهانهم بأنه ليس من طبيعتهم أن يكونوا عبيدا، بل هو قرار سياسي. ولأجل ذلك، وكما هو لسان الحال: "التعصب يسهم في سلام المستعمرة"، فتتلاعب هذه المقولة في عقول العبيد، ليعتقدوا بأن عبوديتهم ماهي إلا نتيجة طبيعية لضعتهم.
إيجاد ريموند طريقة لجعل فكرة التعصّب العرقي أداة لخلود العبودية
التسويغ للتعصّب العرقي من ناحية تأثيره الإيجابي المزعوم على العبيد نفسهم (كما قيل، سيقنعون أنفسهم بالعبودية إذ اقتنعوا أنها طبيعية) يختلف اختلافاً شاسعاً عن التسويغ اللاحق في أمريكا الشمالية عن العبودية، فإلحاح جماعات تحرير العبودية والخوف من ثورات العبيد، ألهمت مالكي العبيد على اتخاذ مواقف حيادية، فشرع الارستقراطيون للبحث عن براهين شبه علمية زائفة والتي تزعم بصدق ضعة الإفريقيين وأنهم أقل شأناً.
في أواخر القرن الثامن عشر، وعلى نقيض ذلك، فأسطورة ضعة الإفريقيين أصبحت متقبلة بشكل عمياني لدى مالكي العبيد الفرنسيين، فتنازعوا على منفعتها، إذ رأوا أن التسلسلات الهرمية لنظام العبيد تحتاج إلى تعزيز من خلال أنماط التفكير والشعور والتي من خلالها كل أفراد المجتمع الاستعماري سيربط سواد البشرة بالدونية وقلة الشأن، فأخذ ريموند بتفكيرهم كخطوة لإيجاد طريق جديد يجعل فيها فكرة التعصّب العرقي أداة لخلود العبودية.
كان "التعصّب" موضوعًا بارزًا في المناقشات في جميع أنحاء فرنسا، قبيل ظهوره كموضوع جدلي يدور حول العبودية في المستعمرات الفرنسية، فالفكرة الحديثة المتمثلة في أن التعصّب حكم مسبق خاطئ- يكون دون وعي المرء به؛ قد تطور قبل بضعة أجيال فقط، فحتى القرن السابع عشر، حدد التعصّب فئة من القرارات المسبقة، توصلت إليها المحكمة على أساس أدلة متوسطة الدرجة، فالتغير الحاصل في معنى "التعصّب" بدأه الفيلسوف رينيه ديكارت (1596- 1650)، الذي أصر على أن التفكير العقلي يحدث فقط عند التخلي عن "الأفكار المتبلورة سابقاً".
انتشر نهج ديكارت في جميع أنحاء أوروبا، فالقاموس العالمي (1690) عرف التعصّب "بالانهماك العقلي" فيشير للقارئ إلى أسلوب ديكارت "لمعالجة النفس" منه. لقد حرف المفكرون معادلته من التفكير السليم لتصبح أداة للنقد الاجتماعي. وفي مقالته عن التعصّب (1770)، وصف الفيلسوف المتطرف بارون هنري ثيري دولباخ الممالك الأوروبية بباعة التعصّب المتجولين، متهماً إياهم بنشر الأفكار الضالة من أجل السيطرة على الشعوب، فموجة الانتقادات على "التعصّب" قد بلغت ذروتها في سنة 1789, ومع بداية الثورة الفرنسية، ففي صيف تلك السنة، ألغت السلطة التشريعية الفرنسية الجديدة، والجمعية الوطنية الامتيازات الإقطاعية من الطبقة الأرستقراطية، وهي خطوة يراها الإصلاحيون المتهللون كناقوس الموت للتعصّب.
بالنسبة إلى أعداء العبودية والناشطين في مجالها، فاللحظة كانت مناسبة لمهاجمة التسلسلات العرقية، "أرستقراطية لون البشرة" بقولهم: إذا كان النبلاء الذين يعتمدون مكانتهم الرفيعة على "الدم والنسب"- كما يدعون ـــ قد خسروا امتيازاتهم؛ فإنّ المتطرفين أيضًا يعتقدون بأن الوقت قد حان لتخسر النخبة الاستعمارية البيضاء امتيازاتهم المبنية على الأصل العرقي. أخيرا أصبح مالكو العبيد من ذوي البشرة البيضاء في ريب من منطق الثورة، فأصروا، في السنوات السابقة للثورة الفرنسية، على أن العبودية والتعصّب تعاضدا ضد من هم من أصل أفريقي، وموقعهم في ثقافة فرنسا السياسية المتغيرة، فأدين "التعصّب" بجميع أنواعه، بحيث لم يُترك المجال للدفاع عنه. فبينما كان بعض من محاربي العبودية قد لمحو بصيص أمل بعد ظلام العبودية وأصبح بالإمكان إدانتها بالتعصّب ـــ بادر ريموند بهذه المبادرة، فقد أعد تحليلاً للتعصّب العرقي بأنه ظاهرة اجتماعية تاريخية، وأصر بأنه لن يكون من الصعب أو الخطورة العمل على القضاء عليه، فكما هاجم "الأكاذيب التي لا نهاية لها والتي يخدع بها المستعمرون ذوو البشرة البيضاء الجمعية الوطنية"، استخدم أيضاً أفكار أصحاب المزارع ذوي البشرة البيضاء ليعيد تعريف النظام الاستعماري للعبيد، والتي سيحكم بها مالكو العبيد الارستقراطيين ذوي الأصل الافريقي والاوروبي معاً.
فنظرية ريموند عن التعصّب معقدة، على عكس الإصلاحيين الاجتماعيين كأمثال دولباخ أو الارستقراط الاستعماريين المؤيدين للعبودية، هاجموا ودافعوا عن النزعة النفسية اللاواعية، فنظرته للتحيز كشيء أكبر من أنه شكل من أشكال التفكير غير العقلاني الذي يغرس في عقول الناس من قبل القادة السياسيين. فطرح بذلك فرضية التعصّب العرقي كشكل منفصل عن النشاط العقلي، فتوصل إلى أن التعصّب عن ذوي البشرة الملونة ظهر من خلال التفاعلات الاجتماعية، فمقالة ريموند " تأملات في أصل ونشأة تعصب الشعب ذو العرق الأبيض تجاه الشعب ذي البشرة الملونة" (1791) تضمن العديد من الادعاءات باطلة والتي تخدم المصلحة الفردية، ومع ذلك كان يعتبر أحد الأعمال الرائدة في تاريخ الفكر، والتي جُهلت أهميتها التاريخية المقلقة بشكل كبير اليوم.
ومع تطور سلالة التعصّب العرقي في سانت دومينغو، ابتدأ ريموند بدراسة تاريخ المستعمرة. ولاحظ بأن في أوائل القرن الثامن عشر، وخلال الأجيال الأولى في المستعمرة، كان من رحل إلى المستعمرة من المستوطنين من ذوي البشرة البيضاء من الرجال، فتزوجوا بنساء من أصل أفريقي، فهؤلاء المستوطنون ودولة فرنسا آنذاك- قد أقروا بوجود هذه العلاقة؛ فحرروا أبناءهم واعترفوا بدمهم المختلط، فورثوا حقهم بامتلاك مزارعهم المزعومة لهم؛ فظهرت طبقة ذوي العرق المختلط، وأصبحت لهم ملكيتهم الخاصة، متساوون في الحقوق والثروات مع ذويهم من الأقرباء والجيران من ذوي البشرة البيضاء.
بحلول 1760، أصبحت حرية ذوي البشرة الملونة تشكل تهديداً للمستعمرين البيض، كحق حصولهم على الأراضي ودخولهم لمدن المستعمرة والتي كانت تعج بالمهاجرين الجدد من فرنسا باحثين عن الغنى، فبدأت مستعمرات البيض بفرض تشريعات تمييزية تعمل ضد ذوي الدم المختلط.
فقصة ريموند عن نشأة التعصّب ضد ذوي البشرة الملونة الأحرار تعكس معظم آراء المؤرخين اليوم بقدر ما تشير إليه الحقائق، لكن إجابةً على سؤال: لماذا بدأ التعصّب قد تجد بعضا من الدعم العلمي. فكان رأيه عن التعصب العرقي متأصلاً في علم النفس الاجتماعي وغارقاً في كره النساء، وقد جادل بأن وصول النساء الفقيرات ذوات البشرة البيضاء، ألغى المساواة النسبية بين مالكي العبيد في أوروبا ومختلطي الأصل في سانت دومينغو، ببحثهم عن رجالٍ فاحشي الثراء يأتون إلى سانت دومينغو؛ وقد رفضن النّساء الزواج من ذوي البشرة الملونة، وامتعضن من تفضيل المستعمرين ذوي البشرة البيضاء لمن أصولهم مختلطة، وبكيدهن، استطعن أن يقلبن الموازين بين البيض من سانت دومينغو وذوي البشرة الملونة الأحرار بإقصائهم عن أعمالهم ومكانتهم. من وجهة نظر ريموند: فالتعصّب الاستعماري العرقي ما هو إلا تطور حديث بسبب التوتر الجنسي والمنافسة. فالخبر السارــ كما كان يعتقد ـ أن ذلك الصراع يبقي النساء ذوات البشرة البيضاء خارج إطار المستعمرة ويعزز الزواج من الأعراق المختلفة ومن شأنه أن ينهي التعصّب، ومن خلال هذه الاستراتيجية "أجرؤ على التنبؤ بأنه خلال العشرين سنة القادمة، سيزول التعصّب".
بينما كانت الانتقادات توجه إلى النساء البيضاوات بأنهن أنصار التعصّب، لم يحرك ريموند ساكناً، فلم يكلف نفسه بتسويغ مصطلح العبودية، بل رأى وجوده هبة ربانية. في بعض من كتاباته اللاحقة، مثل: كتيب "تأمّلات في الأسباب الحقيقية للمشاكل والحوادث في مستعمراتِنا" (1793)، عرض وجهة نظره في العبودية "المهذّبة"، وجادل في أن حالة الشعوب المستعبدة يجب " تحسينها، بشكل لا يُنهي على تجارتنا ولا يسبب أي معاناة لفرد من أفراد التجارة، وعملياً هذا يعني أن تبقى الأمور غير واضحة، ولكن توقيتها معلوم لدى الجميع، كان ريموند مستعدًا لتقديم تنازلات غامضة للشعوب المستعبدة في المستعمرات الفرنسية سنة 1793- عندما كانت سانت دومينغو في منتصف معاناتها مع ثورة العبيد الهائلة، فلم يكن في سنة 1791 مستعداً لذلك، عندما لا زال عندما كان أصحاب المزارع يتحكمون بالمجتمع الاستعماري، حتى في سنة 1793 بقي مصراً على رأيه بأنه يجب على الحكومة الفرنسية "فرض النظام وكبح العبيد المتمردين" حتى لا تخرج الأمور عن السيطرة ويقبلوا بتسوية مُذلة، فلم يكن لهذا دور في إنهاء العبودية بذاتها، كان من السهل إضلال العبيد، لأن عقولهم ليست متهيئة لتقبل حقيقة حريتهم. فالعبودية، كما يزعم ريموند: ستستمر حتى بعد القضاء على العرقية.
تجاهل العوامل الهادفة تأتي بعواقب وخيمة، فمعاملة العرقية كمشكلة قابلة للقياس والعلاج هي أول معانيها
لطالما حَلُم ريموند بعالم يكون بين الأقلية ذوي الامتياز والأغلبية المُستغلّة - فيصلٌ للوصول إلى المال والجاه وليس العِرق، ففي صخب عصر الثورات، عندما كانت الأنظمة تتخبط من المستعمرات الأمريكية إلى محاكم أوروبا، كانت خططه لم تبدو دخيلة فعلياً. فإصراره على فكرة أن نوع الجنس أداة للتغيير الاجتماعي لمن تكن مفاجئة لزملائه كأمثال غريغوار، الذي طور خططه للحد من التعصّب العرقي من خلال تعزيزه للاقتران بالأعراق الأخرى؛ فأفكار ريموند وجدت لها موطئ قدم في سانت دومينغو، حيث الطبقة الارستقراطية من ذوي البشرة الملونة، والتي دافع عن مصالحها بشكل ضعيف، وظل عالقاً بين جيش العبيد المنتفضين العدائي ومجموعة من المزارعين ذوي البشرة البيضاء المشتبه بهم، فلم يكن بوسع الكريوليين مالكي العبيد من الطبقة الأرستقراطية قلب الموازين لصالحهم. من ناحية أخرى، فأفكار ريموند عن التعصّب العرقي تأسست لتكون حجر الأساس للتفكير الحديث عن الأعراق.
تناول بعض من الحلفاء كأمثال غريغوار الحجة القائلة بأن معاملة الأوروبيين التعصّبية للأشخاص من أصل أفريقي كانت متأصلة في الجزء اللاواعي والنزعة غير العقلانية، وعلى الرغم من أن ريموند عارض حركة تحرير العبيد بنفسه، إلا أن النشطاء في مكافحة العبودية أدانوا التعصّب ضد الأحرار من ذوي البشرة الملونة، واستعباد الأفارقة بنفس الطريقة كتعبير عن التعصب العرقي. إن إصرار ريموند على أهمية النزعة اللاواعية ظل مركزياً لمجتمع الولايات المتحدة المعاصر، إذ يأتي الصراع لتحديد التعصب أحيانًا محل الصراع ضد عدم المساواة.
إن مفهوم التعصّب العرقي يقدم تفسيرًا للتناقض الواضح في السياسة الأمريكية في فترة ما بعد عصر الحقوق المدنية. فمنذ سنة 1960، وعلى الرغم من عودة قومية ذوي البشرة البيضاء، تزايدت الصورة البارزة والصريحة للنزعات العرقية بشكل غير مألوف ومحظور في الولايات المتحدة الامريكية، إذ يعتقد الأمريكيون بأنهم أقل عنصرية من قبل، ومع ملاحظة الباحثين " لانخفاض في التعصّب العرقي الذي أُبلغ عنه ذاتياً". حتى وإن عبر الأمريكيون عن قيم مكافحة للعنصرية، لا تزال هناك تفاوتات عنصرية بكل معنى الكلمة، كصلاحية الدخول إلى الرعاية الصحية والتعليم، ومداخل أخرى للرفاهية. فيبدو أنه من المتوجب علينا شرح الوضع، كما افترض الفيلسوف إريك ماندلباوم في سنة 2016 "كيف يمكن لمجموعة متساوية وغير متحيزة من الناس أن تتخذ مجموعة من القرارات المنحازة". ومن خلال مناشدة التعصّب العرقي، يستطيع علماء الاجتماع والسياسيون والناشطون المساهمة في إيقاف استمرارية عدم المساواة في الولايات المتحدة، واستعراضها كعوامل للنزعة اللاواعية، ثم تقييمها وربما إقصاؤها بتقنيات نفسية متطورة.
لقد أصبحت الجهود القائمة لقياس وتقليل التعصّب العرقي واضحة بشكل خاص في الحياة العامة بين الناس منذ سنة 1980, في مناطق مختلفة وبجهود أنثوني جرينوالد، الذي طور اختبار التداعيات الضمنية سنة 1998 وبمساعدة ماهزرن باناجي. إلا أن أهداف وطموح علماء الاجتماع لم تُحقق؛ فالأبحاث وجدت أن "العلاقة هشة" بين قياسات التعصّب العرقي والسلوك في الحياة الواقعية، في حين أن النُّقاد يتحدون الصعاب ويبذلون الجهود لتحديد العرقية اللاواعية بأنها حالة غير علمية، بقي العلماء على شكواهم المثيرة، مدعين بأن التعصّب متخفٍ بكل مكان، حتى في عقول الأطفال (ففي سنة 2009, طرحت مجلة نيوزويك سؤالاً: هل ابنك عنصريا؟) فكان سؤالاً ساخراً فوجئ به العلماء المتزمتون برأيهم، فللنقاد رأيٌ آخر غير ذلك. فالعالم النفسي الجنوب أفريقيّ بوهلي زوما لاحظ أن البحث في التعصّب ينتهج بصعوبة "المفهوم التجريدي، والذي يستخدم كدليل لما يحدث في أذهان الناس"، فعالم الاجتماع أورلاندو باترسون يعتقد بأن قرارات التعصّب "بديلا مخادعا" للتقدم الاجتماعي، فتستبدل الأسئلة التي تسعى إلى تعزيز " اللطف والتسامح" بالأسئلة "الاجتياحية" التي تستقصي عن تحيزات الناس الخفية. إن معاملة العرقية كما لو أنها مشكلة يمكن قياسها ومعالجتها من الناحية النفسية قد يعني تجاهل أهم العوامل المثيرة للصّراع بين المجموعات، كالمزايا المادية التي تعود على أولئك الذين يستفيدون من القوانين المجحفة، أو الخطوات العملية التي قد تحسن الحياة العامة.
بالنسبة إلى ريموند، المؤسس للمفهوم الحديث للتعصّب العرقي، كان هذا هو الهدف الأساسي. بالرغم من أنه اُستخدِم كأداة للنضال والاحتجاج لوقت طويل ضد عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بالعرق، اعتمد ريموند تحليله للتعصّب العرقي لنقد العرقية بدون التأثير على عدم المساواة. تمنى لو أن التعصّب ضد ذوي الأصل الافريقي تُكشف أوراقه وتقتلع جذوره من المجتمع الاستعماري الفرنسي بدون أن يحدث تغيراً في أسس الاستعباد الاجتماعية والاقتصادية الأساسية. بمجرد اختفاء آثار التعصّب العرقي كما تخيله ريموند، سيكون هناك فارق في مكانة ووضع الأفارقة المستعبدين في سانت دومينغو، في حين أن مختلف الطبقات الارستقراطية العرقية ستبرر سلطتها على أساس علو شأنها بالفكر وليس بالعرق. إن عالم ريموند المثالي، بأشكاله الهرمية التسلسلية الجديدة التي تجعل من وجود العرقية شيئا مستحيلًا؛ ليس هو العالم الذي نعيش فيه اليوم، ولكن طالما أحاديثنا عن العرق وعدم المساواة توقف على مفاهيم غير مدروسة، فإنه لمن المجازفة أن ننتقل إلى "مدينته الفاضلة".
الاقتباسات من مقالة جولين ريموند "تأملات في أصل ونشأة تحيز الشعب ذي العرق الأبيض تجاه الشعب ذي البشرة الملونة"(1791) هي من ترجمة بلاك سميث.