الخميس , 30 نوفمبر 2023 - 17 جمادي الأول 1445 هـ 6:33 صباحاً
فيليب آدمز إزاء نقد الذات: كيف يستعبدنا الناقد الذاتي، ومتلازمة ستوكهولم حول الأنا العليا، والقدرة على الإفضاء لتأويلات متعددة.
"عند التطرق لإمكانية أن نقف، بطريقة ما، إزاء نقد الذات يتوجبُ علينا أن نتخيل عالماً حيثُ الاحتفاء أقلُ ريبةً من الانتقاد."
لقد فكرت وما زلت أفكر كثيرًا في العلاقة ما بين التفكير النقدي والتشاؤم - ما هي نقطة التحول فيما وراء التفكير النقدي، ذلك المحور الرئيس للمنطق ذو الأهمية البالغة للتقدم البشري والحياة الفكرية، والذي يُعيق حشد دوافعنا الإيجابية ويهوي بنا في جرف الدمار الناجم عن التذمر العقيم ومرارة الاستسلام، ويولد مزيدًا من التشاؤم؟ فللبدء بتناول مسألة تتعلق بهذا الموضوع، وجدتُ نفسي أفكر من جديد في هذا الخط الرفيع الفاصل والقوي في الوقت ذاته ما بين التفكير النقدي والتذمر التشاؤمي. فعبوره يعني نفي ذواتنا من أرض المنطق الإيجابي والدخول إلى برزخ الإذعان للعجز السلبي.
إحدى الرسوم التوضيحية للفنان سلفادور دالي ضمن مجموعة مقالات الكاتب ميشيل دي مونتين
لكن متى ما تعدينا هذا الخط الفاصل، فذلك لا يكون بسهولة أكثر من قدرتنا على نقد الذات دون رحمة. فنحن نجنحُ للانحراف بعيدًا عن وضوح عملية تقويم الذات الضرورية لتحسين عيوبنا، وعوضاً عن ذلك نُفضي إلى توبيخ أنفسنا والاستهانة بها بسبب وجود نقاط ضعف لدينا، وذلك يكون عبر نوع خاص من التعذيب النفسي (المازوشية). فالسيكولوجيا الداعمة لذلك الدافع هو ما يبحرُ فيه كاتب التحليل النفسي البريطاني آدم فيليبس في مقاله الرائع بعنوان "إزاء نقد الذات"، الذي وُجد ضمن مجموعته المذهلة بمجملها بعنوان الملذات المُباحة (المكتبة العامة). فيليبس – الذي قد كتب أطروحة توضح فوارق مبهرة حول هذا التنوع في تجاربنا النفسية مثل أهمية "العزلة المثمرة"، وقيمة تفويت بعض الأمور، والفوائد المرجوة من عدم اليقين إزاء الخطوة التالية – يتفحص الكيفية التي جعلت من "نقد الذات الفتّاك والمُجحف في حق أنفسنا والذي قد أصبح إحدى أعظم ملذاتنا،" في بلوغه بُعدًا رباعياً للثقافة مُعترضاً على تحفة سوزان سونتاج بعنوان "ضد التأويل" ومُشيدًا بها كذلك. إذ كتبَ في مقاله:
عند التطرق لإمكانية أن نقف، بطريقة ما، إزاء نقد الذات يتوجبُ علينا أن نتخيل عالماً حيث الاحتفاء أقلُ ريبةً من الانتقاد حيث تكون بدائل الاحتفاء والانتقاد في هذا العالم بمثل حصر محدد لهذه المجموعة إذ بإمكاننا أن نُثني بكل ما في وسعنا على كل شيء.
يُجادل الكاتب أن دافع التعذيب النفسي لدينا لنقد الذات، ينبع من الحقيقة المتمثلة في أن الشك هو الركيزة لحياتنا. ففي نص بُنيت فكرته على تأملاته البارزة مسبقاً بشأن التناقض المتمثل في السبب الذي يجعل من خيبة الأمل أمرًا ضرورياً لكي نشعر بالرضا الرومانسي، يُراعي فيليبس إرثه الفكري المتمثل في:
من منظور فرويد حول الأشياء التي تُمثلنا، ففي المقام الأول، نحن مثل الحيوانات المتناقضة وجدانياً: فأينما أضمرنا الكره، وجدنا أننا نُكِنُّ الحبّ، وحيثما أضمرنا الحب، وجدنا أننا نُكنُّ الكره. فإذا كان بوسع شخص ما أن يُسعدنا، فبإمكانه بالمثل أن يكون مصدر خيبة أمل لنا، وإذا كان بإمكان شخص أن يسبب لنا الخيبة، دائما ما نعتقد أنه بإمكانه أن يُرضينا. فنحن ننتقد عندما نُصاب بالإحباط – أو عندما نحاول وصف خيباتنا، ولكن باستحياء – وبالمثل يكون الثناء عندما نشعر أكثر بالرضا، والعكس صحيح. فالتناقض الوجداني من المنظور الفرويدي، لا يعني المشاعر المختلطة، ولكن يُقصد به المشاعر المتعارضة.
المحبة والكراهية – مفردتان بسيطتان أو مألوفتان للغاية، ولكنهما ليستا باللفظتين المناسبتين إطلاقاً لما قد نرغب في قوله – فهما المصدر المشترك، والمشاعر الجوهرية التي نُدركُ بها العالم، وكما أنهما مترابطان بمعنى أنه لا يمكنك أن تشعر بأحدهما دون الشعور بالآخر، وكلاهما يهتدي بالآخر على نحوٍ متبادل. إذ تعتمد الطريقة التي نُكنُّ بها الكره للناس على الطريقة التي أحببناهم بها، والعكس كذلك. ونظرًا لأن هذه المشاعر المتضاربة هي "المصدر المشترك" فهاتان العاطفتان لهما بصمة في كل شيء نفعله. فهما الوسيط الذي نفعل عبره كل شيء. فمن منظور فرويد، نحن متناقضون وجدانياً حول أي شيء وكل شيء نهتم لأمره. إن التناقض الوجداني بالطبع هو الوسيلة التي نُدرك بها أن شخصاً ما أو شيئاً ما قد أصبح ذو أهمية لنا... فحيثما حلَّ الولاء وُجِدت دائماً الخيانة... وحيثما وُجِدت الثقة كان هناك الشك.
ربما لن نستطيع تخيُّل حياة حيث لا نقضي فيها قدرًا كبيرًا من وقتنا في انتقاد أنفسنا والآخرين، ولكن ينبغي أن نضع نصب أعيننا أن حب الذات يؤدي دورًا في ذلك النقد دائماً.
ولكن غُسلت أدمغتنا بدرجة كبيرة فيما يتعلق بالضمير عند نقد الذات، على نحو جماعي وفردي، إذ أصبحنا نشك بسهولة بذلك الاحتمال البديل. (كافكا، نصير الأدب الشهيد الجدير بالذكر في مسألة نقد الذات، سطرَّ هذا المرض على نحو مثالي بقوله: "ثمة شيءٌ وحيد وأكيد، ألا وهو عدمُ اكتفاء المرء بذاته.") كتب فيليبس في مقاله:
نقد الذات، والذات بوصفها أمرًا جوهرياً، كلاهما ضروريان لرسم شعورنا وصورتنا عن ما نسميه بذواتنا.
فلا شيء يجعلنا أكثر انتقادًا أو ارتباكاً – أكثر شكاً، أو هلعاً، أو حتى أقل سرورًا – من اقتراح الفكرة التي ينبغي علينا بها أن نتخلى عن كل هذا النقد دون هوادة، وأنه ينبغي علينا أن نكون أقل انبهارًا بذلك الأمر. أو على أقل الاحتمالات ينبغي أن تُرخى قبضة نقد الذات تلك علينا كما هو الحال.
إذ يُبينُ فيليبس أنه على الرغم من وجود هذا الجزء الناقد من أنفسنا فهو "جزء ضيق الأفق على نحو مثير للدهشة" فهو يعمل بمثابة شاكٍ يتذمرُ دون كلل ويحمل بين يديه مجموعة حافلة من انتقادات لا طائل منها حتى تُصبح من أي وجهة نظر موضوعية، بمثابة تعليقات مضحكة ومأساوية في الوقت نفسه:
فعندما نُقابل مثل هذه الشخصية في حدث اجتماعي ما، إذا جاز التعبير، نجد هذه الشخصية اللوامة، والناقد الذاتي بالداخل، فإذا بنا نفكر بوجود علةٍ ما في ذلك الشخص. إما أن يكون مجرد شخص ممل وقاسٍ. وإما أن نعتقد بأنه صادف شيئاً مروعاً في حياته. وأنه يعيش في تداعيات وآثار حدث كارثي ما، وعلى ما يبدو أن حكمنا سيكون صائباً.
إحدى الرسوم التوضيحية للرسّام موريس سينداك ضمن مجموعة (حكايات خرافية من ألمانيا)
صاغ فرويد مصطلحاً يُشير لهذه الأنا العُليا الناقدة والطريفة في داخلنا، ويقترحُ فيليبس أننا نعاني من وجود نوع ما من متلازمة ستوكهولم للانا العُليا:
دائمًا ودون وعي منا، نميلُ إلى تشويه شخصياتنا واعوجاجها. وبلا شك أن هذا العنف القابع في داخلنا لا يلين، لأننا لا نملك فكرة عن ماهيتنا دونما وجوده. وبالفعل، لا نعلم شيئاً عن أنفسنا لأننا نحكم على ذواتنا قبل أن يتسنى لنا رؤية أنفسنا (وكأننا في حالة هلع). أو لشرح الأمر بطريقة مختلفة، نحكم فقط على ما ندرك قدرتنا على الحكم عليه. فالأمر الذي لا يمكن الحكم عليه لا يمكن رؤيته. فماذا حدث لكل شيء لا يخضع لمبدأ الموافقة أو الرفض؟، لكل شيء لم نُلقن كيفية الحكم عليه؟ ...فالنفس المحكوم عليها يمكن الحكم عليها فقط ولكن لا يمكن التعرف عليها. نحنُ نعتقد أنها لفتة فاتنة منّا ألا نعترض على أمر ما، أو نطعن فيه، فهذا الطغيان الداخلي يتمثل في جزء واحد فقط من النفس، فهو جزءٌ صغير الحجم ولكنه عالي الحس.
يُجادل فيليبس في مقاله بأن الطغيان في الأنا العُليا يقبعُ في ميلها لتبسيط تعقيد الضمير لدينا لتأويل وحيد ومحدود، وليقنعنا بأن ذلك التأويل هو ما يمثل الواقع بدقة وبصورة كاملة:
إن نقد الذات لا شيء سوى أنه تعريف، وغالباً المبالغة في تعريف حدود الوجود. إلا أن ما يثير السخرية، إذا صح التعبير بهذه اللفظة، فحدود الوجود تُعرفُّ ويُتقيدُ بها قبل أن يتنسى لما يُسمى بالوجود أي فرصة للتعبير عن ذاته.
إننا نرضى بتأويل الأنا العُليا؛ ونُصدق لوم وتأنيب الذات بأنها حقيقية؛ وننبهر على نحو مبالغ فيه دون أن نلاحظ أن هذا هو ما أصبحنا عليه.
فبالأخذ بعين الاعتبار إرث فرويد الفكري والطابع المألوف للتجربة الإنسانية، يوضحُّ فيليبس نقطته المحورية بهذا الشأن:
بإمكانك أن تفهم أي شيء ذو أهمية – الأحلام، والأعراض العصبية، والأدب – عبر المبالغة في تأويلها فقط؛ ذلك يكون برؤيتها من جوانب مختلفة بكونها الناتج عن دوافع متعددة. إذ لا تعني المبالغة في التأويل بهذا السياق عدم الرضا بتأويل وحيد، ولكن على ما يبدو الاقتناع بأنه كذلك. وبالطبع، فإن المغزى المقصود – في هذا السياق هو شكوك فرويد أو خيبته المستمرة في علم التحليل النفسي – هو أنه كلما كان التأويل أكثر إقناعاً، وإلحاحاً، وحجية، قلّت مصداقيته، أو كما ينبغي أن يكون. إذ قد يكون هذا التأويل محاولة عنيفة لافتراض وضع حدٍ حيث لا يمكن وضعه.
ففي هذه النقطة، تغدو السخرية الفكرية من سوزان سونتاج واضحة. في الواقع كان من الأفضل أن تكون أطروحة سونتاج الكلاسيكية بعنوان "ضد تأويل ما"، لأن المحور الرئيس لحجتها يكمن تحديدًا بقدرة تأويل وحيد ما على تشويه وتمهيد أي نص، أو تجربة، أو أي قطعة أثرية ثقافية. (فكم سيكون الأمر سارا أن ترى لاحقاً، أن الناقد الذي تذمر من كتابة فيليبس بأنها موضعاً للتأويل الواسع، يغفل عن نقطة النقاش، وفي الوقت نفسه يُثبتها.)
فما يدعو إليه فيليبس ليس التخلي عن التفسير جملة وتفصيلاً، بل التطهير النفسي من الخضوع لتأويلات متعددة كوسيلة لمعارضة سلطة الأنا العُليا المزيفة وارخاء قبضتها الطاغية على تجاربنا الذاتية:
إذ ودّت السلطة أن تحلَّ محل العالم بنفسها. إذ تعني المبالغة في التأويل ألا يعيق مسيرك أكثر ما تقتنع به؛ هذا يعني أن نفترض أنه عندما نصدق تأويلاً واحدًا، سنسيئ فهم الأداة التي يُفسرها المرء، وبالطبع ينطبقُ ذلك على التأويل بحد ذاته.
رسمة توضيحية لفنانة القصص المُصورة كيت بيتون ضمن رواية (أكون أو لا أكون: اختر-مغامرتك- نُسخة مُجددة من هاملت)
بالإشارة إلى شخصية هاملت في مسرحية شكسبير، تلك الشخصية التي عُرفت "بعبقري تأنيب الذات " ينظر فيليبس في الجانب الجبان من نقد الذات:
لطالما جنح أبطال الأحداث المأساوية إلى التقليل من التأويل، ودائماً ما يكونون مُلوكاً باعتناقهم فكرة واحدة.
ففي الفصل الأول من مسرحية هاملت ذُكر: "لذا يجعلُ الضمير منّا جميعاً جبناء،" بينما في الفصل الثاني من المسرحية قيل:" لذا يخلقُ الضمير الجبناء." فإن كان الضمير يجعل منّا جميعاً أشخاصاً جُبناء، إذاً فنحن جميعاً نطفو على الموجة ذاتها؛ وهذه هي الطريقة التي يسيرُ بها الأمر فحسب. إذا كان الضمير يصنعُ الجبناء يمكننا ببساطة أن نتخيل ماذا يمكن له أن يصنع من الأشخاص. وفي كلتا الحالتين، يتّضح أنهما مختلفان، فالضمير هو ما يصنع منّا شيئاً ما؛ فهو الصانع، إذا لم يصنع الأنفس، إذاً فهو يصنع كذلك شيئاً يتعلق بتلك الأنفس. فهو فنان يعيشُ في داخلنا، يندرج من ذات نوع... الأنا العُليا ... التي تختارنا بوصفنا أنواع معينة من الشخصية: فهي، كما هو حالها، تُوضح لنا هويتنا الحقيقية. فهي ذات مكنون جوهري: الأنا العُليا تدعي معرفتها لنا بطريقة لا يمكن لأحد آخر أن يعرفنا بها، بما في ذلك أنفسنا. وكما أنها إله مخبول، فإذا به عليمٌ بكل ما بدا وخفا: فهي تتصرفُ وكما بيدها التنبؤ بالمستقبل عبر ادعاءها معرفة عواقب أفعالنا (ذلك عندما نعلم، في الجزء الواسع الخيال من ذواتنا، أن أغلب الأفعال يطالها اللبس من الناحية الأخلاقية، والتغير مع مرور الزمن في توقعاتنا؛ بمعنى أنه على ما يبدو لا يوجد فعل يودي بتدمير الذات لا يتعدى أنه فعلاً مدمرًا للذات فقط؛ ولا وجود لحسنة محضة؛ وببساطة هكذا هو الأمر).
بعد مرور أكثر من نصف قرن على مقولة إلينور روزفلت المشهورة: "عندما تتبنى معايير وقيم شخص آخر ... فأنت بذلك تُسلم استقلالك الذاتي [ومن ثم] وبقدر المدى الذي سلّمت فيه استقلاليتك، تغدو بمنزلة أقل لا تليقُ بالإنسان،" يطرح فيليبس نقطة للمناقشة تدفعنا لنتساءل عن معايير الأنا العُليا المستبدة:
إن الأنا العُليا هي المُفسر ذو السيادة ... فهي تخبرنا ما هو الأمر الذي نقتنع به بصفته الصورة الحقيقية لأنفسنا. ومعنى ذلك، أن نقد الذات هو أحد الملذات المُباحة. إذ يبدو أننا نتمتع بالطريقة التي تجعلنا نعاني و نأخذ الأمر باستخفاف بأنه كل يوم قد يحمل بين طياته نصيبه المفروض من خيبة الذات. فكل يوم نحن نفشل في محاولاتنا لكي نكون أشخاصاً جيدين كما ينبغي أن نكون؛ ولكن دون تزويد كياننا بالموارد، واللغة، لنتساءل من أو ماذا يُحدد وتيرة حياتنا؛ أو ما هو مصدر معايير العقاب هذه.
وفي إطار الانصياع للاستسلام لنقد الذات، يحذرُّ فيليبس من اقتراب ضميرنا إلى إطار الجبانة:
إن الضمير ... هو الجزء من عقولنا الذي يتسبب في فقدان صوابنا؛ يتصرف بمثابة الفيلسوف الأخلاقي الذي يمنعنا من تكوين مبادئ أخلاقية شخصية، وأكثر تعقيدًا ودقة؛ كما يمنعنا من معرفة ما يمكن أن تكون حدود نطاق وجودنا، عبر التجربة. لذا عندما يقول ريتشارد الثالث في الفصل الأخير من مسرحيته: "أيها الضمير الجبان، كم تحيقُ بي!" إذ اُقترح بديل جذري. وهو أن الضمير يجعل منّا جميعاً أشخاصاً جبناء لأنه بحد ذاته جبان. فنحن نؤمن ونشعر بأن هويتنا تنتمي لهذا الجزء المحظور من أنفسنا الذي يُدين ويُعاقب بجلاء؛ ومع هذا فإن هذا الجزء من أنفسنا والمفترض أن يكون موثوقاً فهو بحد ذاته جبان.
ويمكنني القول أن الإذعان للتشاؤم هو أكثر أشكال الجبن فتكاً ومعدٍ من الناحية الثقافية، — وهو إذعان يشير فيليبس أن مصدره يعود إلى نظام العقاب المتأصل في جذور الإطار الأخلاقي لثقافتنا، حيثُ الخوف من العقاب على ارتكاب السلوك السيء يُحفزّ السلوك الحميد كثيرًا. يقترحُ فيليبس، أن هذا المجهود الذي يُعززُّ البناء عبر الهدم ينتهي به المطاف إلى أن ننقلب ضد أنفسنا، كما هو حال خوفنا من العقوبة ينتقل إلى نقد الذات. (الجزء المتهكم يتجاوز الجزء البنّاء—ذلك يعني رفض الإقدام على أي شيء من شأنه تغيير الوضع إلى الأفضل— والاندفاع مباشرة إلى إيقاع العقوبة، سواءً أكانت عبر الإهانة أو الإدانة أو الشكل الأكثر جُبناً والسلبي العدواني الذي يجمعُ بين الإثنين، وهو ايماءة شح النظر بالعينين.)
بهذا يعود فيليبس مرة أخرى لمسألة التناقض الظاهري الأساسي، مناقشاً أهمية المبالغة في تأويل ضمير نقد الذات لدينا:
كيف يمكن أننا أصبحنا مفتونون بكراهية ذاتنا، مبهورون وساذجون جدًا أمام نقد الذات لدينا، وهي تفتقد للخيال كما هو حالها عادةً؟ ولماذا هذه الكراهية مماثلة لإصدار حكم دون وجود هيئة محلفين؟ إذ تمثل هيئة المحلفين، على أي حال، نوعاً من الإجماع كبديل لحكم الفرد المطلق ... نحن بحاجة إلى التفريق بين أشكال المسؤولية المترتبة على الأفعال المرتكبة، للتملص من احتقار الذات... هذا لا يعني أنه لا يوجد أحد مذنب قط؛ بل يعني أن الذنب سيبقى دائماً أكثر تعقيداً مما يبدو عليه؛ فالإحساس بالذنب دوماً ما يطاله التقليل في التأويل... إذ أن نقد الذات، عندما لا يكون مفيدًا بالطريقة التي يمكن أن يكون بها أي أسلوب لتصحيح الذات كذلك، يُصبح تنويماً مغناطيسياً ذاتياً. فهو حكم كأنه تعويذة، أو لعنة، وهو ليس كإجراء محادثة ما؛ فهو أمرٌ وليس مفاوضة؛ وهو عقيدةٌ وليس مبالغة في التأويل.
وبكل تأكيد، إن نقد الذات، لا يمكن استئصاله تماماً- ولا ينبغي أن يكون أيضًا، لأنه أحد أهم أدواتنا عند إعادة حساب السبيل لتوجيه حياتنا. ويقترحُ فيليبس أنه عبر إثراء قدرتنا على الإفضاء لتأويلات متعددة، يمكن أن يصبح نقد الذات "أقل انهاكاً وتعباً، ويغدو أكثر خيالاً وأقل بُغضاً."