الجمعة , 20 سبتمبر 2024 - 16 ربيع الأول 1446 هـ 4:18 مساءً
تأملات في كتاب "آلام العقل الغربي" لريتشارد تارناس
بدأ هذا المقال على أنّه ورقة علمية تُقدَّم في مادة لبرنامج الدكتوراه يدرّسها اللاهوتي والفيلسوف المنهجي، الأب إدوارد كراسيفاك، الذي يعمل كاهنًا وأستاذًا في المدرسة الدومينيكية للفلسفة واللاهوت في بيركلي بولاية كاليفورنيا.
وتضمّنت هذه المادة منهج القراءة المتأنية والتحليل النصّي، والحوار في قاعة التدريس، والتأمل في تاريخ الفكر الغربي المصوَّر في كتاب آلام العقل الغربي لريتشارد تارناس. وفي هذه الورقة التأملية الموجزة، أطرح الأسئلة الآتية التي طرحها كراسيفاك في كتابه عام 2015 م: "هل أعانك الكتاب لاستيعاب جذور عقليتك؟ ومن أي النواحي؟"
بما أنّي باحث في علم النفس اليونغي أو علم النفس التحليلي، وحاصل على شهادة جامعية في علم أعماق النفس، فلعلّ أساس منهجي المنظوري والتفسيري مبني على نظريات ومنهجيات كارل غوستاف يونغ والأدب العلمي التحليلي الناشئ الذي أسسه محللو العلم اليونغي -الخبيرون في هذا العلم والمستجدون فيه- وكذلك العلماء في التخصصات الأخرى الذين تأثروا بشكل كبير بكتابات يونغ. ويشمل هؤلاء العلماء، على سبيل المثال، جوزيف كامبل (الأساطير المقارنة / الأساطير الأدبية)، وميرسيا إلياد (تاريخ الدين)، ونورثرب فراي (نقد الأسطورة أو النظرية الأدبية النموذجية)، وغيرهم.
إن مسألة فهم "سلالتي العقلية" ضمن أتباع المفكر يونغ، قد ضربت وترًا حساسًا؛ إذ إنّه يواجه انتقادًا واسعًا يستهدف العلم اليونغي ككل، وذلك بسبب عدم وجود صرامة فكرية من جهة أتباع الفكر اليونغي، على الأقل حسب منظور الأكاديمية الرئيسة في أمريكا الشمالية. وبما أننا طلاب هذا العلم، يُفترض أن نأمل من الأكاديمية أن تأخذه على محمل الجد (إذ إنّ نظريات يونغ في هذه الأكاديمية لا تزال مركونة على هامش الاحترام)، وقد نبدأ في هذا المقال بفهمٍ أفضل لدور يونغ في علم أعماق النفس ضمن السلالة الفلسفية للفكر الغربي.
النتائج والمناقشة:
تناول ريتشارد تارناس هذا النقص الملحوظ في العلم اليونغي في كتابه "آلام العقل الغربي" من خلال تحديد مساهمات علم أعماق النفس في التراث الفكري والفلسفي للعالم الغربي. وعلى الرغم من مكانة يونغ مفكرًا مبدعًا للغاية، إلا أن أفكاره بالكاد تحدث في فراغ، فهي متأصلة في سياق تاريخي نتيجة تأثره بمفكرين سابقين من عهد أفلاطون إلى عهد كانط ونيتشه.
وكما لاحظتُ في معظم المجتمع اليونغى، فإن عدم الانتباه للتراث الفكري ليونغ وتأثراته يؤدي إلى النقص الملحوظ للأساس والمضمون الفلسفي الراسخ للنظريات والمناهج التحليلية ليونغ. ويمكن العثور على أساس فلسفي لنظريات يونغ النموذجية على مستوى معيّن للغاية –وهذا المستوى غير موجود في نظرة تارناس الشاملة تجاه ما يزيد عن جيلين من الألفية من الفكر الغربي-، ويوجد مثال على ذلك في كتاب "فلسفة الأشكال الرمزية" الذي ألّفه التابع الأمثل للفلسفة الكانطية الجديدة، الألماني إرنست كاسيرر. وقد ظهرت نظريات كاسيرر المهمة لأول مرة باللغة الإنجليزية في كتابه الكلاسيكي بعنوان "اللغة والأسطورة" (1946/1953)، والذي يبحث فلسفيًا في القدرة البشرية على التفكير المجازي والرمزي ونمو الأسطورة واللغة كساقين ينبتان من ذات الجذر التاريخي. وكما قالت الفيلسوفة والمترجمة سوزان كي لانغر عن كاسيرر، فإن نظريته للمعرفة "أصبحت نظرية للفاعلية العقلية، والتي مُنحت اهتمامًا دقيقًا وعلميًا لأنواع المشاعر والخيال بالنسبة لتصنيفات إدراك الحواس والمنطق". (لانغر، اللغة والأسطورة، (1946/1953)، ص. 7)
وفي المقابل فقد أشار تارناس (1991) بإيجاز إلى عمل كاسيرر فقط في "تسلسله الزمني" للمعالم الفلسفية الغربية الرئيسية؛ إذ إنّ تركيز كاسيرر على المشاعر والخيال يجعله مع يونغ وريثًا للرومانسية في الفكر الغربي، كما سنرى لاحقًا. لذا، فإن ملخص تارناس عن أكثر الفلاسفة والأفكار تأثيراً في الفكر الغربي يوفر إطارًا منطقيًا وتاريخيًا وثاقبًا من أجل فهم الإرث المتطور لعلم أعماق النفس الذي يكمن ضمن تاريخ الأفكار الغربية والمناقشات المستمرة منذ وقت طويل حول طبيعة الواقع والحقيقة.
الرومانسية والتنوير: تيّاران من الفكر والثقافة
صنّف تارناس (1991) علم أعماق النفس -ولا سيما علم النفس اليونغي- ضمن التراث التاريخي للرومانسية، ومن المفارقات، ردة فعل الرومانسية ضد "الجانب الوضعي من كانط" (ص. 371)، وهو المفكر الذي يتخذه يونغ محلًا للإعجاب. وكما أوضح تارناس، فقد برز تياران للثقافة من عصر النهضة، وهما "طَبعان أو مقاربات عامة للوجود الإنساني المميز للعقل الغربي" (ص. 366)، إذ ظهر تيار واحد من الفكر في الثورة العلمية والتنوير، و"العقلانية المُفرطة، والعلم التجريبي، والعلمانية المُريبة".
وأما التيار الآخر، وهو المكمّل الموازي للتيار الأول، فيعبّر عن تلك الجوانب من التجربة الإنسانية التي قمعها الفكر العقلاني في التنوير. واكتشف هذا الطبع الرومانسي التعبيرَ موجودًا في أعمال روسو وغوته وتشيلر والرومانسية الألمانية، وظهرت الرومانسية بشكلٍ كامل خلال أواخر القرن الثامن عشر والتاسع عشر. وما زال تأثير الرومانسية يصدح اليوم على هيئة قوّة جبّارة تظهر في تفكير الغرب وثقافته، وعلى هيئة ثقافة أساسية تشمل بليك ووردزورث، وشيللي وبايرون، وكيتس وهولدرلين، وإيمرسون ووايتمان وغيرهم، بما في ذلك خلفائهم بين معاصرينا.
أشكال منافسة للإنسانية:
على الرغم من أوجه التشابه الملحوظة في أفكار كلتا الثقافتين، بما في ذلك امتياز النزعة الإنسانية، تجدر الإشارة إلى وجود العديد من الفروق الرئيسية بينهما. فوفقًا لتارناس (1991)، "يرى الرومانسيون العالم كائنًا موحدًّا بدلاً من أنه آلة فردية، ويرفعون من قيمة الإلهام أكثر من تنوير العقل، ويؤكدون الدراما الأبدية للحياة البشرية بدلاً من التنبؤ الهادئ بالأفكار التجريدية الجامدة" (ص. 367). وكما أكد تارناس، فإن شخصية الذات البشرية المستقلة وأهدافها تختلف اختلافًا واضحًا في الثقافتين، وهي الفكرة التي ناقشها مطولاً ثيودور روزاك (1973) في كتابه "حيث تنتهي الأرض القِفَار" (Where the Wasteland Ends). ويمكن القول إن أبطال التنوير هم نيوتن وفرانكلين وآينشتاين، بينما أبطال الرومانسية هم غوته وبيتهوفن ونيتشه. ووضح تارناس هذه المقارنة بإيجاز في عبارته: "طُوبائية فرانسيس بيكون ليست كطُوبائية بليك".
ويتجلى هذا الاختلاف، على سبيل المثال، في مفاهيمهما المتفاوتة حول الطبيعة. "وبدلًا من الهدف البعيد للتحليل الرصين"، لاحظ تارناس (1991) أن "مفهوم الطبيعة عند الرومانسيين هي تلك التي سعت النفس البشرية للانخراط فيها وتوحيدها بالتغلب على الثنائية الوجودية، ولم يكن الظهور الذي يرجونه ذا فلسفة آلية، بل كان ذا جوهر روحي" (ص. 367). فبالنسبة لوردزورث وأتباع الرومانسية، لا تعد الطبيعة أنموذج الآلة الذي يفضله النموذج العلمي الناشئ. ومن وجهة نظر وردزورث، فإنه "يرى الطبيعة على أنها مقترنة بالمعنى والجمال الروحي". ومثال آخر، تشيلر الذي "يرى الآلية الموضوعية للعلوم بديلاً ضعيفًا للآلهة اليونانية التي كانت قد أحيت الطبيعة للقدماء".
الرومانسية والتوجّه إلى الباطن:
هناك فرق مهم آخر بين التنوير وأحاسيس الرومانسية يتبين في رؤيتهما المتضادة حول وعي الإنسان وظاهرة الإدراك. فعند أتباع الرومانسية مثل بليك ونوفالي، أو ميلفيلي وكيركغارد، أو نيتشه وباوديلير، هؤلاء يرون أن أهمية الإدراك تأججت بوقودٍ من الحسِّ المُكثَّف الحديث للوعي الذاتي و"التركيز على التركيبة المعقّدة للذات البشرية" التي تكون فيها "العاطفة والخيال أعلى أهمية من العقل والإدراك".
النظرة الحديثة المتوجهة إلى باطن الإنسان لإبصار ملامح الوجود:
إن اكتشاف أسرار الباطن كالأمزجة والدوافع، والحب والرغبة، والخوف والرهبة، والصراعات والتناقضات الداخلية، والذكريات والأحلام، بالإضافة إلى "تجربة...حالات لا يمكن التعبير عنها من الإدراك...وسبر أغوار النفس البشرية، واستحضار العقل الباطني إلى العقل الواعي، لم تكن إلّا أساسيات للاستبطان الرومانسي" (تارناس،1991، ص. 368).
ومن هنا وضعت الرومانسية القاعدة النظرية والشاعرية لعلم أعماق النفس: "انضم الخيال والشعور الآن للحسِّ والعقل، مما ساعد في فهم العالم بشكلٍ أعمق" (ص. 369).
المنظور التفسيري الراديكالي لنيتشه:
بالإضافة إلى ذلك، قدّم نيتشه، الذي حققّ تأثيرًا عميقاً على كل من فرويد ويونغ، تشككاً ونسبيةً راديكالية إلى ادعاءات الحقيقة للعلم والدين. وكتب نيتشه: "على عكس الفلسفة الوضعيَّة التي توقفت عند الظواهر، فلا توجد إلا الحقائق، وأود القول: إن الحقائق على وجه الدقة لا تعدُّ حقائقًا، بل هي محضُ تفسيرات [التوكيد مضاف]" (نيتشه، كما ورد في كتاب تارناس، 1991، ص. 370). وعلى النقيض من ادعاءات الوضعيَّة حول الحقيقة عند لوك وهيوم، دعا نيتشه إلى منظور تفسيري راديكالي، أو بالأحرى تعددية وجهات النظر التفسيرية التي تتساوى إلى حد ما في ادعاءات الحقيقة؛ إذ لم تقدم أي سلطة محددة -ولا فلسفية (كما في أفلاطون)، ولا دينية (العقائد المسيحية في جميع العصور الوسطى)، ولا علمية (من عهد كوبرنيكوس فصاعدًا) – لم تقدم سلطة مسلًّم بها يمكن من خلالها إثبات الحقيقة. ونتيجة قيامه بذلك، أصبح نيتشه أكثر الفلاسفة والمفكرين تأثيرًا في عصر الحداثة (منذ كانط)، وأول فيلسوف ما بعد الحداثة.
لاحظ تارناس (1991) أن الفيلسوف نيتشه أصبح شاعرًا. فقد رفع نيتشه الفلسفة إلى مستوى الفن، وهو تراث مضى به قدمًا المفكر الوجودي والروائي ألبير كامو (1951/1991) في عمله الفلسفي الهام "الإنسان المتمرد" (The Rebel) بما في ذلك مقالاته عن نيتشه. وفي نظر الأخير، لم يكن هناك أي أساس لتأكيد "الحقيقة" المُطلَقة. فيرى تارناس (1991) –متحدثًا باسم نيتشه- أن "الحقيقة لم تكن شيئًا يثبته المرء أو يدحضه؛ بل هي شيء يخلقه" (ص371). وعند نيتشه والفكر الرومانسي عمومًا، لم يكن مفهوم العالم هذا قابلاً للاكتشاف من حيث العقل التجريدي أو إثبات الحقائق، بل كان "تعبيرًا عن الجمال وقوة الخيال". وباختصار، طورت الرومانسية نظرية جديدة للمعرفة، تتجاوز الحدود التي أنشأها هيوم ولوك والجانب الوضعي لكانط، وهي بهذا تحدد "معاييرًا وقيمًا جديدة للمعرفة الإنسانية".
نظرية المعرفة المزدوجة للعلوم والإنسانيات:
رأى تارناس (1991) أن نظرية المعرفة المزدوجة المُعبّر عنها في الانقسام بين العلوم والإنسانيات قد نشأت انطلاقًا من هذا التمييز بين العقلانية التنويرية والشاعرية الرومانسية التعويضية للخيال. وفي هذه المقاربة، هناك نوعان من الحقيقة هما: الحقيقة العلمية من جهة، التي تستند إلى التجريبية والقياس، والحقيقة الفنية من جهةٍ أخرى، التي يمكن وصفها على أنها مُستعصية على الإثبات باستخدام أساليب البحث العلمي الكمي، بيد أنها مُتاحة باستخدام أساليب التعلم النوعي. وظهرت الحقيقة العلمية مختلفةً عن الفنون والعلوم الإنسانية، بما في ذلك الدين. ومن هذا المنطلق، برز مفهوم جديد عن الإله، ليس إله الحرفيّة المسيحية والعقيدة المسيحية ولا عقيدة الرُبُوبيّة، بل إله التصوف الذي يُعدُّ "القوة الخلّاقة المُبجَّلة في الطبيعة" (ص. 373). ويتمتع الفن غالبًا (كالموسيقى والأدب والرسم) بنوعية دينية بالنسبة للرومانسيين؛ ساعيًا وراء ذاتية الجمال في عالم آلي وجامد.
ومع هذا، ظهرت أهمية جديدة للرواية، والبحث الإبداعي والانضباط الخيالي في أعمال المؤلفين من ستندال حتى هرمان هسه، فمن خلال هذه الأدبيات، دخلت الظواهر الواسعة للخبرة البشرية في فلسفات كل من برجسون وهوسرل وهايدغر. وأكّد تارناس، مُشيرًا إلى نيتشه -مرة أخرى- أن "الحقيقة لا يجب أن تُقلّد، إنما تُبتَكر" (ص. 374).
وظهر تشعبٌ معقدٌ بسبب التباين بين الطبع العقلاني والرومانسي، فزعم كل من "الشعراء الرومانسيين، والمتصوفين المتدينين، والفلاسفة المثاليين، والمهلوسين المناهضين للثقافة" وجود حقائق ما وراء المادة وجادلوا لصالح "علم الوجود في الإدراك البشري" متحالفين ضد العقم في النزعة العلمية. (تارناس، 1991، ص. 375). وقال تارناس أن الرومانسية استمرت في إبصار الثقافة الداخلية في الفنون والأدب، وكذلك الرؤية الدينية والميتافيزيقية، في حين أن العلم فرض الواقع الخارجي لعلم الكونيات:
أصبحت كل من شعبة الإيمان العقلاني لعصر القرون الوسطى وشعبة العلوم الدينية في مطلع العصر الحديث تندرج ضمن إحدى المجموعات الآتية: الذاتية أو الموضوعية، والداخلية أو الخارجية، والإنسان أو العالم، والعلوم أو الإنسانيات. وأُسّس الآن شكلٌ جديدٌ من الكون ذي الحقيقة المزدوجة (ص. 376).
تعهّد علم أعماق النفس بتأليف حديث:
وفقًا لتارناس (1991)، حاول مفكرون مثل غوته وهيغل إنشاء تأليف جديد، مثلما فعل كارل جي يونغ. ومع انتقال العصر الحديث إلى مراحل لاحقة، فإن "الرومانسية ستعيد التفكير في العقل الحديث من حقل آخر تمامًا .. بتركيزٍ جديدٍ على النفس" بصفتها مبعثًا للمعنى والهوية في عالمٍ خالٍ من القِيَم الثابتة. ولقد اكتشف العلم المتأثر بالرومانسية تأثيره الإبداعي الأكثر رسوخًا في "علم أعماق النفس لفرويد ويونغ"، ويعدّ كلاهما متأثرًا بشِدَّة بفَيضِ الرومانسية الألمانية التي انبثقت من غوته عبر نيتشه" (ص. 384). استمر فرويد في الثورة الكوبرنيكية التي أقصت البشرية من مركز النظام الكوني، وكذلك الفكر الثوري لداروين، الذي أعاد الطبيعة البشرية إلى مستوى الطبيعة (أي أن أصل الإنسان حيوان بيولوجي)، وأول من طرح هذه الملاحظات هو الفيلسوف جاكوب نيدلمان (1965/1976) في كتابه "منطق الكون" (A Sense of the Cosmos) ومع فرويد، لم يعد البشر سادة حتى في منازلهم، خصوصًا بالنظر إلى تأثير العوامل اللاواعية واللامنطقية في الفكر والسلوك البشري.
كان كل من فرويد ويونغ من الأطباء النفسيين، وعلماء الاجتماع الذين يعملون لتأسيس التحليل النفسي ليكون ضمن العلوم المشروعة، لكنهم عادوا إلى الأساطير – التي لم تُفهم على أنها صورة علمية موضوعية للكون أو العالم الخارجي، بل فُهمت على أنها ظواهر تُمثل الكيان غير الواعي للنفس البشرية الذي يصعب الوصول إليه. وإذا كان فرويد يميل أكثر ليكون من علماء التنوير، فإن إرث الرومانسية سيصبح أكثر وضوحًا في علم النفس اليونغي، لا سيما ابتكار يونغ للعقل اللاواعي الجماعي ونظريته للنماذج النفسية التي تعود إلى أفلاطون، والتي تكتسي الآن حُلّة جديدة بأشكالٍ تتمحور حول الإنسان. إن نماذج يونغ القديمة التي تعد أشكال رمزية متكررة على نطاق واسع، عادت نوعًا ما إلى شكلية نماذج أفلاطون الأصلية، ولكن أصبحت نماذج يونغ -على مستوى آخر تمامًا- تعابيرًا تُبدي الجانب الغامض من النفس البشرية.
وتتمثل اكتشافات يونغ في الآتي:
توسع نطاق علم النفس جذريًا من حيث الاهتمام به والنظرة المتعمقة له. وحُللت الآن التجربة الدينية والإبداع الفني والأنظمة الباطنية والخيال الأسطوري بمصطلحات غير مُختزلة والتي تذكرنا بشدة بالنهضة الأفلاطونية الحديثة وبالفكر الرومانسي. لهذا اقترح علم أعماق النفس لفرويد ويونغ، أساسًا مشتركًا ومثمرًا بين العلوم والإنسانيات ... ورغم أن الأساس حساس تجاه الأبعاد العديدة للتجربة الإنسانية ... إلا إنه يسعى إلى الصرامة التجريبية (ص. 384).
وهذا ما يلخص العقلية اليونغية بخطوط عريضة -وهي العدسة النظرية والعملية الأساسية التي ركزتُ عليها في بحثي- وتعدُّ العقلية اليونغية مُتجذرة منذ ظهور الرومانسية وتمثّل علاجًا ضروريًا لعقم العقلانية العلمية والعالم الذي يثبت بشكل متزايد أنه لا قيمة له وخارج عن عصر التنوير. وباختصار، كما استنتج تارناس (1991)، "يبدو أن النفس الحديثة بحاجة ماسّة لفضائل أعماق علم النفس" لمواجهة العزلة الواسعة الانتشار والظواهر الاجتماعية والثقافية ذات الصلة التي تميز العصر العلمي والعلماني أكثر فأكثر. وفي تكوين علم أعماق النفس ليونغ، نشأت "عقيدة جديدة للإنسان المعاصر، سبيلًا لشفاء الروح الذي يجلب التجدد والانبعاث" (ص. 387). علاوة على ذلك، ووفقًا ليونغ، فإن هذا السبيل ممكن أن يقود لحالة من الكمال أو التفرد النفسي عبر عملية نفسية تحويلية تنعكس في صور الأساطير المتكررة من الأحلام والديانة والفن. ومع ذلك، فإن علم النفس اليونغي المشتبه به قد يكون ضمن الأكاديمية العلمية السائدة. ونظرًا لهيمنة السلوكية، تظهر جيوب الاستجابة بوضوح، كما أشارت سوزان رولاند (2010)، إلى التأويل اليونغي في مجال الفنون والإنسانيات.
الخاتمة:
لقد أثبت يونغ أنه وريث حديث للفكر الرومانسي، وذلك في فلسفته الإنسانية المتمثلة في مفاهيمه حول الطبيعة المقترنة وأن الإله يُعدُّ صورة ذاتية، وتركيزه على التصور الداخلي والعقل اللاواعي، وقيمه حول الشعور والإبداع والخيال، وما إلى ذلك. وفي استقلاله عن ادعاءات الحقيقة الموروثة والسلطات الدوغمائية للفلسفة الرسمية والأديان المُنظّمة والعقلانية العلمية وتفكيكها، وضع يونغ نظرياته ومناهجه على أنها منظور مهم في الحوار المُستمر عمّا بعد الحداثة. وستُناقش خصائصه البارزة في الجزء الثاني من هذه التأملات في كتاب "آلام العقل الغربي".
نبذة عن الكاتب:
رون بوير طالب دكتوراه في قسم الآداب والدين في كلية جراديوت ثيولوجيكل يونيون (اتحاد الدراسات العليا اللاهوتية) وجامعة كاليفورنيا في بيركلي. وحاصل على درجة الماجستير في برنامج علم أعماق النفس، من جامعة ولاية سونوما. وكما أنه يعد شاعرًا -حائز على جائزة بالشعر-، ومؤلفًا روائيًا، وكاتبًا سينمائيًا. ويعيش بوير في كاليفورنيا الشمالية.