الجمعة , 20 سبتمبر 2024 - 16 ربيع الأول 1446 هـ 3:50 مساءً
قد يكون الأدب مصدرًا مُحفزًا للطب، ويكون الطب مصدر إلهامٍ للأدب، إنهما علاج تكاملي للإنسان.
في كل شهرٍ أو ما يقاربه، يزورني مريضٌ يدعى فريزر في عيادتي للرعاية الصحية الأولية، جندي نُشر في أفغانستان. فرغم مرور خمسة عشر عامًا على عودته إلى وطنه، إلا أن أشباح الذكريات التي خلّفتها المباني المحترقة ونيران القنّاصة لا زالت تسكنه. فهو لا يعمل، ونادرًا ما يخرج، يصاحبه الأرق، وليخفف من معاناته النفسية يقوم أحيانًا بتشريح ساعديه. فمنذ مغادرته للجيش، لم يصبح لديه صديقة أبدًا. كان فريزر ذا بنيةٍ قوية، لكن وزنه قد تهاوى. إن إهماله لذاته سلبه القوة والثقة بالنفس. الأدوية الطبية تفشل تمامًا في إخماد الرعب الذي يرتعش في ذهنه. اعتدت أن أراه في العيادة جالسًا على حافة مقعده، يمسح العرق من جبينه وصدغه. فأستمع إلى قصصه، وأراجع أدويته، وأقدم له نصيحةً عابرة.
عندما بدأ فريزر بالقدوم لزيارتي، كنت أقرأ إعادة نشر القوات (٢٠١٤م) لفيل كلاي - وهي قصص قصيرة عن العمليات العسكرية الأمريكية - وليس في أفغانستان وحسب، بل وفي العراق. لا يمكن لأي كتاب أن يحل محل التجربة، لكن قصص كلاي أعطتني طريقة للبدء في الحديث عمّا مر به فريزر. عندما انتهيت من الكتاب، عرضته عليه. لقد وجد الطمأنينة في ما وجدته مساعدًا للفهم، أخذت محادثاتنا اتجاهات جديدة عندما ناقشنا جوانب من الكتاب. تماثلهُ للشفاء سيكون طويلًا، لكني مقتنع بأن تلك القصص لعبت دورًا ولو كان بسيطًا في تعافيه.
يقال إن الأدب يساعدنا على استكشاف طرق الإنسانية، ويقدّم لمحة عن حياةٍ خارج حدود حياتنا، ويساعد على التعاطف مع الآخرين، ويخفف الحزن، ويوسع دائرة إدراكنا. ويمكن قول الشيء نفسه عن الممارسة الطبيّة السريرية في جميع أشكالها: من التمريض إلى الجراحة، ومن العلاج النفسي إلى العلاج الطبيعي. بل يمكن أن يساعد الإلمام بالأدب على ممارسة الطب مثلما تساعدني التجربة الطبيّة السريرية في كتابة كتبي بكل تأكيد. إني أرى هذين النظامين متشابهين أكثر من كونهما مختلفين، وأجادلكم بكونهما يشكلان علاقة تآزرية.
يقضي المرضى وقتًا أطول مع الكاتب أكثر ممّا يمكنهم قضاؤه مع طبيبهم، ويمكن أن تعتبر الساعات التي يقضيها شخص ما في القراءة والتأمل في كتاب وقتًا قُضي بشكل جيّد. ربما كان من شأن كتاب إعادة نشر
القوات أن يخفف بعضًا من حيرة فريزر وعزلته، ولكن عن طريق تحليل حدّة تجربته، ساعدني ذلك أيضًا على فهم ما مرّ به بشكل أكبر. هناك كتب أخرى لا تُحصى تقدم الشيء ذاته، يقدم كتاب ويليام ستايرون مرأى الظلام (١٩٩٠م) دليلًا بليغًا عن كيفية الشعور بمعاناة هذا الاكتئاب الشديد، وقد رأيت أن ذلك يمنح المعانين أملًا وتحفيزًا ليصبحوا مثل ستايرون لدرجة أنهم قد يجدون طريقًا للعودة إلى الحياة. إن قائمة الكتب التي ناقشتها مع المرضى على مر السنين كثيرة ككثرة المارين بالعيادة:
١) الكهرباء لراي روبنسون (٢٠٠٦م)، عن التعايش مع الصرع الشديد.
٢) الوفرة لآني ديلارد (٢٠١٦م)، عن استكشاف مكانة المعجزات في الحفاظ على حياتنا.
٣) بعيدًا عن الشجرة لأندرو سولومون (٢٠١٤م) عن تحديات رعاية طفلٍ معاق.
٤) قصيدة بين أوكري "إلى صديق إنجليزي في أفريقيا" (١٩٩٢) عن مناقشة الإخفاقات والنجاحات في أعمال المنظمات غير الحكومية.
هناك أوجه تشابه بين ابتكار وتقدير القصص الأزلية والفن، وابتكار وتقدير العلاج، كاللقاءات العلاجية. يساعد كلاهما على تبني ذات الموقف بدافع الفضول غير المحدود، وحب الإبداع، والدعوة إلى التعاطف مع مآزق الآخر، والامتزاج مع السياق الأوسع للحياة البشرية. فالطبيب يشبه الكاتب، إذن يعمل بشكل أفضل عندما يكون واعيًا وفطنًا تجاه تجربته الشخصية، وقادرًا في الوقت ذاته على رؤية تلك الشخصية في سياقها الاجتماعي.
إذا كان صحيحًا أن القرّاء يصيرون أطباءً جيّدين، وأن الأدب يساعد الطب، فمن الجدير أن نتساءل ما إذا كانت العلاقة متبادلة، فهل ممارسة الطب لديها ما تقدمه للأدب؟ من المؤكد أن القصص التي يسمعها الأطباء تجس نبض المجتمع. فغالبًا ما يكون الأطباء السريريون مؤمنين، ملتزمين بالسرية ويطّلعون على أسرار المجتمع بالطريقة التي كان فيها القسيسون في يوم من الأيام. قبل أكثر من 300 عام، كان روبرت بيرتون في كتابه "تشريح الميلانخوليا" (١٦٢١م) يضع القدّيسين مع الأطباء في نفس الكفّة عندما قال: "القسيس هو طبيب جيّد، أو يتعيّن عليه أن يكون كذلك ". أما الروائي الفرنسي رابليه فكان يتحلّى بكلا الأمرين.
في القرون السابقة، قدمت المهنتان نفس التعرّض لقطاع من المجتمع، والواجب المهني نفسه للوقوف شاهدًا على أزمات الحياة، ولمواجهة أسئلة الوجود العبثية الملحّة ذات الارتباط بالأدب.
كتب جون دون المعاصر لبورتون (إذ كان قسيسًا أيضًا) سلسلة من التأملات الشعرية بعد بقائه مقيّدًا من مرض يهدد الحياة. أشهرها، "صلوات للمناسبات القادمة" (١٦٢٤م)، ويؤكد أن القرب من الموت يمكن أن يعزز الشعور بالانتماء إلى المجتمع الإنساني:
"يُضعفني موت أي إنسان ... فأنا فرد من البشرية
لذلك لا تسأل لمن تقرع الأجراس، فذاك القَرع لك".
ليكون الأمر ناجحًا، فإن الممارسة السريرية تتطلب انتباهًا مدروسًا وتدريبًا عاليًا لتيارات المعلومات المنطوقة وغير المنطوقة. فالأطباء من كل التخصصات ينخلون التفاصيل من كلمات وأجساد مرضاهم ودون توقف. كما نتوقع أن يُرى الأطباء من خلال السرد المزيف الذي نعيشه، ليقوموا بدور المترجمين والنقّاد الأدبيين للقصص التي تُعرض للعالم.
وكتب آرثر كونان دويل في "جولة حول المصباح الأحمر" (١٨٩٤م): "لا داعي للخيال في الطب، فالحقائق ستفوق دائما أي شيء يمكن تخيّله." يمكن أن تكون مسارات حياتنا مضطربة أو غير متوقعة مثل أي قصة أو فيلم ولكن في الوقت ذاته، قد تتبع أساليب تلك القصص النمطية التي نعرفها منذ الحضانة أو رأيناها في السينما. ما الذي يفعله الكاتب عدا التعبير عن الشخصيات وجعلها نماذج لتجارب سابقة، وعرضها على القارئ لتصبح معترفًا بها؟ وما الذي يفعله الطبيب عدا التعرّف على قصة المريض، ليقول له "معاناتك تمتلك اسمًا"، ويحاول تعويده عليها من خلال تسميته لها؟
اللغة التي نستخدمها للتعبير عن الألم لديها القدرة على نقل تجربتنا عنه.
تسحرنا الكتابة الجيّدة عندما تستخدِم الاستعارة المجازية، وتشكّل بصيرتنا وتساعدنا على فهم العالم، منذ "الفجر ذو الأصابع الوردية" لهوميروس حتى "ليل الكتاب المقدس الأسود" لدايلان توماس. إن الاندماج العميق مع الأدب يمكن أن يساعد الأطباء على التشبيهات التي يستخدمونها: إذا كان السرطان غير قابل للعلاج ، فإنه ليس من المنطقي التفكير به كوحش يمكن إلحاق الهزيمة به ، بل كبيئة داخلية يمكن موازنتها. عندما شخّص "أناتول برويارد" المحرر السابق لقسم المراجعة في صحيفة ذا نيويورك تايمز بسرطان البروستاتا، قال إنه أراد من طبيبه أن يقول استعارةً مجازية لتمكنه من أن يتصالح مع حالته، فالطبيب يمكن أن يستخدم أي شيء تقريبًا. وكتب في "التسمم بمرضي" (١٩٩٢م). "لقد أحرق الفن جسدك في الجمال والصدق." أو "قد تبذل نفسك كرجل خيّر بذل كل ماله." أراد "برايمارد" لغة ليستحضر العِزّة من مرضه، لتساعده "على النظر إلى رفات جسده كسيّاحٍ ينظرون إلى آثار الأطلال العظيمة ".
أظهرت إيولا بيست في دراستها الشاعرية والدقيقة للتطعيم في كتابها "المناعة" (٢٠١٤م)، كيف أن تشبيه المناعة البشرية بحديقة مصانة أفضل من تشبيهه بساحة حرب. إن استخدام الحرب كاستعارة مجازية للصحة والشفاء قد يكون صحيحًا، لكنها تجلب أفكارًا مختلفة إلى عقل كل مريض، فالاهتمام بسرد القصص يمكّن الأطباء من اختيار التشبيه الذي يساعد المرضى بشكل أفضل، كما يساعدهم أيضًا على التعبير عن تجربتهم الداخلية لأطبائهم.
وصف الألم أكبر مثال يومي على ميلنا إلى استخدام التشبيهات في تجاربنا، فكر في المرة القادمة التي تشعر فيها بالألم، هل هو كالطعنات؟ هل يمزّقك؟ هل هو مضطرب وموجِع؟ إن الأعصاب التي تستقبل الألم لا تنقل أيًّا من هذه الأحاسيس، ولكن الدراسات أظهرت أن اللغة التي نستخدمها في التعبير عن الألم لديها القدرة على نقل تجربتنا عنه.
كتب الشاعر والطبيب العام ويليام كارلوس وليامز في مقاله السيرة الذاتية "الممارسة" (١٩٥١م) إذا ما تم التعامل مع صخب الطب وتنوعه بالعقلية المناسبة، فإنه يمكن للطب أن يكون ملهمًا وعاملًا مساعدًا. لقد غذّى الطب حِس الكاتب لدى كارلوس وليامز، بما معنى أن تكون انسانًا، وأعطاه المعجم الذي اعتمده في كتابته: "أما كنت مهتمًا بالبشرية؟ كان هناك ذلك الشيء أمامي. أستطيع الإحساس به، وشمّه ... كان ذلك يمنحني المصطلحات، المصطلحات الأساسية التي أُوضّح من خلالها الأمور على قدر العمق الذي أُفكّر به".
لاحظ سيغموند فرويد أن اختيار الأطباء للكلمات يؤثر دائمًا في طريقة فهم الناس وتعاطيهم لمصطلحات المرض: "جميع الأطباء وأنت من ضمنهم، يمارسون العلاج النفسي باستمرار، حتى عندما لا تكون لهم نية في ذلك أو لا يدركون ماهيته، وتساءل عمّا إذا كان الأطباء لن يصبحوا أكثر كفاءةً لو كانوا قادرين على استيعاب قوة الكلمات، وعزموا على استخدام هذه القوة بفاعلية أكبر.
إن جوهر عمل كل الأطباء والكتّاب هو التصميم على تخيّل أنماط حياتنا والتعرف عليها، وتخفيف اختلالاتها. ولكن هناك فرق جوهري: إذ يتمتع الكتّاب والقرّاء بالحرية لفقدان أنفسهم في عالمهم من الشخصيات والحبكات، في حين أن الأطباء يجب أن يظلوا متيقظين ومتفهمين، والأهم، أن يحافظوا على الوقت. يتعرض الأطباء الذين يسلّمون أنفسهم بالكامل لمعاناة مرضاهم للإنهاك. فمثل الميثاق بين الأطباء ومرضاهم كمثل ميثاق “فاوست”، ليُمنحوا عددًا لا نهائيًا من التجارب البشرية المتنوعة، مقابل خطر استنفاد التعاطف بشكل أقل أهمية ممّا يحدث للكاتب.
تشير أبحاث علم الأعصاب إلى أنه كلما تعاطفت مع شخص يعاني من مرض عقلي أو جسدي، كلما تصرف الدماغ كما لو كنت أنت المريض، فعندما تقاس نزعة الشفقة عند طلاب الطب الجدد، والأطباء المبتدئين والمتدربين وصولًا إلى أولئك الذين على وشك التقاعد، فقد لوحظ أنهم يتراجعون تدريجيًا مع التقدم في السن والخبرة، كما لو أن ممارسة الطب تجلب معها حمولتها العقلية والعاطفية التي تُثقل كاهل الأطباء.
وقد لاحظ أبراهام فيرغيز، الطبيب والروائي في جامعة ستانفورد، أن "ما نحتاجه في كليات الطب ليس دراسة التعاطف بقدر الحفاظ عليه". يمكن أن يكون للممارسة السريرية ثقلًا كبيرًا بالنسبة للبعض - وهذا هو السبب وراء عمل الأطباء في الغرب بدوام جزئي والتقاعد في وقت أبكر من أي وقت مضى. ولكن تنوع المجال الطبي الشديد يمنح بصيرةً وإلهامًا ورضًا وسلوانًا، قلما تواجد في غيره.
بعد عشرين عامًا من مسيرتي الطبية يمكن للطب والأدب أن يُعدّا وجهان للصفحة ذاتها.
في مقابلة للشاعرة سيلفيا بلاث مع قناة بي بي سي عام ١٩٦٢م، قالت “: "وددت أن أكون طبيبة ... شخص يتعامل مباشرة مع التجارب البشرية، قادر على العلاج، والشفاء، والمساعدة."
كانت تقارن صراحة "إتقان العمل" بين الأطباء وحياتها كشاعرة من الناحية العملية، مع حياتها كشاعرة اشتكت أنها شعرت كما لو أن "حياتها هباء تنثرهُ الرياح". فعندما كانت طفلة تقمّصت دور الطبيبة، وحضرت في مرحلة مراهقتها عمليات ولادة وشاهدت عمليات تشريح. لكنها فشلت في الانضباط الذي يعتمد عليه التدريب الطبي، وخشيّت أن أعباءه ستكون كثيرة.
تلك الأعباء حقيقية، ويجب على الأطباء أن يجدوا طرقًا لتحملها. لي الآن عشرون سنة في مسيرتي الطبية، وأعتقد أحيانًا أن الطب والأدب في حياتي وجهان لصفحة واحدة، وفي أوقات أخرى أشعر أنهما القدمان اليمنى واليسرى لمشيٍ ثابت، لكن لا يحمل أياً من هذه التشبيهات الإحساس بالثقل الذي يمكن أن تجلبه الممارسة الطبيّة التي يقوم حُب الأدب بعجنها. وعندما أنظر إلى العشرين سنة القادمة من الممارسة الطبيّة، أعلم أن عبء القصص سيصبح أثقل، ولكني أفضّل أن أتخيل هذا الثقل كصابورة تمنحك التوازن، وأما شاعرية الأدب فهي الريح التي يبحر بها، ومتى ما كان بإمكان الاثنين العمل معًا، فهناك محيط لا حدود له من البشرية لاستكشافه.