السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 1:15 صباحاً
كيف تبنى مفكرو منتصف القرن العرب أفكار فرويد
مؤيدو عبد الناصر يهتفون له في القاهرة، في عام ١٩٥٦م. الصورة لموقع ويكيبيديا.
لقد رحبَّ العالم العربي الأدبي بمؤسس علم التحليل النفسي سيغموند فرويد، وقرأ الروائيون والنقاد الأدبيون والاخصائيون النفسيون والمعلمون والطلاب العرب كتابات فرويد وأعادوا قراءتها عدة مرات، إنه أحد أكثر مفكري القرن العشرين إثارة للخلاف، وقد أصبح له في مصر ظهورًا بارزًا باعتبارها القوة المحركة لحياة العرب الثقافية. فقد ذُكر في مقالٍ بدورية الهلال، وهي دورية ثقافية معروفة، أنه في عام ١٩٣٨م غدا هناك جيل جديد من الطلبة المصريين الذين تشربت أذهانهم أفكار فرويد حول نشاط اللاوعي والنزعة الجنسية.
فأثناء الحرب العالمية الثانية والغارات الجوية الألمانية على مصر في عام ١٩٤١م، كتب الكاتب المصري علي أدهم مقالاً يتضمن توليفاً لأفكار فرويد المتعلقة بغريزة الموت. وذكر أدهم أن غريزة الموت في الحرب والتي تتحرك صوب الطرف الآخر لم تكن مجرد وسيلة لتلبية الملذات الجنسية، بل كانت أداة لتلبية نزعة العدوانية والخصومة أيضاً. وبعد عامين، صدر للأخصائي النفسي من الوسط الأكاديمي يوسف مراد، والذي ذهب لتأسيس مدرسة مهتمة بعلم النفس كامتنان للمنهج والأفكار الفرويدية، كتابٌ معروف بعنوان (شفاء النفس، ١٩٤٣م). وعرفَّ الكتاب القراء على علم التحليل النفسي كمدرسة فكرية قدمت الأساليب لإعادة ترميم الذات، وبالأخص لتلك الأرواح التي تحت وطأة المعاناة.
لم يخضع فرويد مطلقاً لمنهج العلماء، بل ولم تقتصر أفكاره على إطار سياق الجامعة. إذ كانت أول ترجمة علمية لمسرحية سوفوكليس "أوديب ملكا" على يد عميد الأدب العربي "طه حسين" في عام ١٩٣٩م فلولا هذه الترجمة لكانت أي معرفة بفرويد ناقصة. إذ أعقبها سريعاً نسختان مقتبستان من هذه الترجمة. ففي النسخة المقتبسة الأولى للكاتب المسرحي توفيق الحكيم في عام ١٩٤٩م، أُعيد صياغة محور الصراع بالمسرحية ليكون بذلك ليس بين الإنسان والقدر، بل ليدور بين الحقائق والوقائع(المخفية)، مما يُعدُّ بلا ريب قراءة فرويدية. ولكن يعودُ الفضل لنجيب محفوظ، الروائي المصري الحائز على جائزة نوبل للأدب، في المقام الأول لأنه هو من أحيا "عقدة أوديب" في نفوس القراء العرب. إذ تعرف القراء في بارعة نجيب محفوظ "السراب" التي صدرت في عام ١٩٤٨م على " كامل رؤبة لاظ "، وهو بطل الراوية بطباعة الانطوائي الشديد وتعلقه واهتمامه الشديدان اللذان ينصبان على والدته ذات الطباع المتسلط. إذ يخبرنا نجيب محفوظ عن تعلق كامل بوالدته بأنه كان يتميز "بمحبته المخيفة التي فاقت حدودها المعقولة ... وهو نوع من المحبة التي تُخلفُ الدمار". فيرسم نجيب محفوظ لوحة نفسية معقدة للشاب، بصفته شخصية مضطربة تنبع لديه مشاعر اللذة والألم من عالم انعزالي يتسم بالبؤس خُطت حدوده على يد والدته. ففي فترة شبابه، يُغرٍقُ كامل نفسه في أرض الأحلام يومياً هرباً من واقع بئيس. وفي نهاية المطاف يجدُ نفسه محفوفاً بالذنب الجنسي، دونما مقدرةٍ على المعاشرة في حياته الزوجية. وليس بغريب أنه في عام ١٩٥١م اقترح معلم مصري يُدرسُّ علم الفلسفة لطلاب المرحلة الثانوية اجراء فحوص نفسية ما قبل الزواج بغرض تفادي الزيجات غير السعيدة بسبب وجود عُقد أوديب دونما حل.
ولربما كان أكثر استخدام مثير للدهشة لمبدأ عقدة أوديب في مصر ليس الذي كانت تحتضنه صفحات الروايات، بل في قاعات المحاكم. ففي أواخر الأربعينيات، دافع محمد فتحي، بروفيسور في علم النفس الجنائي في القاهرة، بحماسة عن صلة نظريات فرويد المتعلقة بالعقل اللاواعي أمام المحكمة، وعلى وجه الخصوص لفهم الدوافع وراء ارتكاب جرائم القتل. وفي سلسلة من المقالات لعامة الجمهور، قال فتحي بأن علم التحليل النفسي وعلم الجريمة تخصصان متماثلان بالكامل. إذ أن علم التحليل النفسي، كما أشار فتحي، يمكن أن يساعد على تفسير السلوك الإجرامي، أي الأسباب العميقة أو الدوافع الكامنة وراء ارتكاب الجرائم العنيفة، بل حتى سلوك محققي الشرطة. وكما يمكن للمحللين النفسيين أن يعرفونا على أكثر شخصية فاتنة على الإطلاق، وهو نوع من أنواع الشخصيات الذي صاغ له فرويد مصطلح "المجرم الناشئ بمحض الشعور بالذنب". فمثل أولئك الأشخاص ارتكبوا جرائمَ بدافع الرغبة في العقاب على نزوات شعورهم بالذنب اللاواعي. فهو تأنيب ضمير يسبق تجاوزات هؤلاء المجرمين ولا يعقبها. فقد قدم فتحي أمثلة مبهجة كما في حالة شاب أعزب متعلق بامرأة تكبره سناً الذي يحاول قتل زوجها. فمثل هذه الجريمة، في حال أنها قد اُرتكبت، من شأنها أن توفر عقاباً للرغبة اللاواعيه في ارتكاب سفاح المحارم وقتل الآباء. فقد كانت نظريات فتحي محل نقاش حاد بين المصريين. ويدعي اخصائيو علم النفس الأكاديميين بأن فتحي انصاع لعامة الجماهير متجاوزاً حدود القدرة التفسيرية التي أدلى بها بشأن عقدة أوديب وارتباطها بالنزعة الإجرامية، وهناك كثير من أفكار فرويد تستحق النضال كما يرى المصريون.
من الجدير بالذكر أن المصريين وغيرهم من العرب قرأوا أفكار فرويد واختلفوا فيها قبل ترجمتها إلى اللغة العربية بفترة طويلة. كما كان مصطفى زيوار، أحد مترجمي أفكار فرويد الأوائل إلى اللغة العربية، أول عضو عربي بمؤسسة باريس للتحليل النفسي. فقد كان زيوار يعمل بمثابة مُرشد للعديد من المحللين النفسيين المصريين الذين سينطلقون بدورهم في مسيرة مهنية لامعة بمصر، وفرنسا وغيرها من بلدان الاغتراب. إذ وصف مصطفى صفوان، وهو شخصية بارزة وأحد طلاب زيوار، بأن معلمه شخص قد "يُقسمُ بفرويد قبل أن يُقسمَ بالله". و أشرف زيوار على سلسلة أساسات علم التحليل النفسي، التي تضمنت ترجمة المحاضرات التمهيدية حول علم التحليل النفسي وما وراء مبدأ اللذة في أوائل الخمسينيات على يد إسحاق رمزي، وأعقبه زيوار بالمشاركة في ترجمة دراسة حول السيرة الذاتية لفرويد في عام ١٩٥٧م، وأيضاً ترجمة صفوان البارزة لكتاب "تفسير الأحلام" الذي صدر في عام ١٩٥٨م، بالإضافة إلى العديد من أعمال فرويد الجوهرية الأخرى. فقد عَمِلَ زيوار عملاً دؤوباً لكي يصل علم التحليل النفسي إلى جمهورٍ واسع. انطلاقاً من القاهرة في أواخر الخمسينيات، فقد استضاف سلسلة من برامج الحوار الإذاعية المشهورة حول علم النفس، يتناول فيها المشاكل اليومية مثل تدخين الحشيش، ولعب القمار والاكتئاب.
ففي الخمسينيات والستينيات، بدأت مثل هذه المواضيع تحتل بؤرة الاهتمام في مصر. فقد أنشأ الرئيس جمال عبد الناصر نظاماً يتضمن برامج طموحة للرعاية الاجتماعية. وفي الواقع، انخرطت مجموعة حركة الضباط الأحرار، والتي انبثق منها عبد الناصر، بالنظريات المتعلقة بعلم النفس قبل توليهم السلطة في ثورة عام ١٩٥٢م، إذ وجدوا أنها مُجدية في الفحوصات النفسية لضباط الجيش والطيارين. فيما بعد، وبإنشاء المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في منتصف الخمسينيات، اتخذ عديدٌ من علماء الاجتماع من مختلف المشاكل الاجتماعية والثقافية مواضيعاً لدراساتهم، وغالباً ما جذب ذلك المحللين النفسيين إلى مدار عملهم. فعلى سبيل المثال، أُجريت دراستان ضخمتان حول ممارسة البغاء وتدخين الحشيش في القاهرة، بين عامي ١٩٥٧م و١٩٦٠م، ومن عام ١٩٦٠م وحتى عام ١٩٦٤م، على التوالي. إذ كانت الدراسة الثانية تحت إشراف زيوار بنفسه.
وعند البعض، ولكن ليس للجميع بأي حال، أصبح مفكرو الفرويديه في جمهورية مصر المستقلة الجديدة، والمحللون النفسيون أداة للحكم قادرة على خلق موضوع ما بعد الاستعمار يخلو من الشرور الاجتماعية والنفسية. فاستخدام علم التحليل النفسي كمحاولة لخلق مواضيع للإنسان أو إصلاحها يمثل نزعة خطيرة، وهي ليست فريدة من نوعها لمصر مطلقاً. وهذا بالتحديد بسبب ما يقدمه علم التحليل النفسي، فمن نظرة عميقة، هو إدراك الحقيقة المتمثلة في أن البشر يستغلون الآخر كأداة للذة وانتقادها، سواءً أكانت تلك اللذة سعياً نحو الحصول على المعرفة أو خلق المواضيع القابلة للحكم ومواءمتها بسهولة أكثر مع بيئاتهم السياسية والاجتماعية. فعند المحاولة الحماسية المبذولة في خلق مواطن قومي خالٍ من الاستعمار، نَسِيَ المحللون النفسيون في بعض الأوقات مثل هذه العبر من النقد الأخلاقي والفلسفي على مسؤوليتهم الخاصة.