السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:28 صباحاً
يُعلّمنا فلاسفة الفكر الوجودي أننا وحدنا نتحمّل مسؤولية خلق حياة ذات معنى في عالم سخيف ومُجحف.
تقف على الحافّة، وشعورٌ من التيه والارتباك يغشاك كالغيم. ولا تخشى السقوط فقط، بل تخشى أيضًا الرضوخ لدافع أن ترمي نفسك. لا شيء يدعوك للتراجع، فتزداد مشاعر الفزع والقلق والألم لتتبين جليًّا في ظاهرك.
يصف الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد هذا الأمر بأنه حالة من "القلق الوجودي"؛ لأنك عندما تواجه الهاوية، فإنك تشهد حريتك مباشرةً؛ إذ يمكنك أن تفعل كل ما يحلو لك – إما المضي قدمًا نحو الهوّة السحيقة أو البقاء حيثما تكون، فالقرار بيدك. وإدراك أن لديك الحرية المطلقة في تحديد مسار حياتك – أن تقفز أو لا تقفز- يجعلك تترنح كمصاب بالدوخة. وهذا ما يوضحه كيركجارد، الذي يرى بأننا نواجه ذات القلق في كافة خيارات الحياة، فكل قرار نتخذه هو اختيارنا نحن فقط.
يمكن وصف قضية كيركجارد التي تنص على أن الحياة سلسلة من الخيارات - وأن هذه الخيارات قد تجلب المعنى لحياتنا أو لا تفعل ذلك- بأنها حجر الأساس في الوجودية، فيتحمّل كل فرد المسؤولية الكاملة في أن تكون حياته هادفة وأن يعيشها بأصالة، بدلًا من إحالة المسؤولية على عاتق المجتمع أو الدين.
إن موضوع الأصالة هو المفضل لدى الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر: لماذا تبدو أعمالنا اليومية عقيمة عندما نواجه واقع الموت؟ فقد صديق أو قريب ما، يدفعنا لعيش الحياة بمسار جديد؛ نستقيل من عملنا، وفي المقابل نتوقف عن القلق بشأن المخاوف اليومية ونبدأ بالاهتمام بمجالات كنّا قد تجاهلناها من قبل.
يقترح هايدغر في كتابه "الوجود والزمان " أن معنى وجودنا يجب أن يكون مرتبطًا بمرور الزمن، فنحن كائنات مؤقتة - وُلدنا في عالم مسبوق العيش مع دينه وثقافته وتاريخه المؤرخ بالفعل، وكي نجد مغزى من هذا العالم، ننخرط في العديد من الأوقات الماضية. قد يكون لدينا عائلة، ونؤسس مهنة أو منزل، وبذلك نضع أنفسنا في مسار نحو المستقبل نوعًا ما. ولكن هناك حدٌّ لمشاريعنا، وهي النقطة التي يأتي كل شيء عندها إلى نهايته، سواء انقضى فعلًا أم لم ينقضِ، وهذا الحدُّ يتمثل في موتنا. هذا ما يطلق عليه هايدغر "وجودٌ نحو الموت".
على أيّة حال، نحن مستغرقون في عيش الأوقات الماضية ومنغمسون بكثرة اللهو الذي ينسينا ببساطة وجود حد أقصى لمساعينا؛ وفي هذا الصدد، يقول هايدغر، نحن نعيش حياة غير أصيلة، ولن تكون كذلك ما لم نؤسس حياتنا على أساس حقيقة موتنا، بهذا يمكننا إيجاد حياة أصيلة.
الأصالة ووسائل الإعلام
يرى كيركجارد أن الأخبار تمنع الناس من العيش بأصالة؛ إذ يصفها بوكالة تدخّل تعمل على حجب طريقنا إلى التجارب الحقيقية. والثقافة الجماهيرية تخلق فقدان أهمية الفرد، وهو ما يسمّيه التسوية. ووفقًا لكيركجارد فإن معظمنا يتبنّى -بشكل سلبي- الآراء التي تصدرها الأخبار، عوضًا عن إعمال الفكر الأصيل بصياغة آرائنا الشخصية.
الواقع يكمن في الفعل
يُخبرنا الفيلسوف الوجودي الفرنسي جون بول سارتر أننا وحيدون، ومهجورون على الأرض في غمار مسؤوليات لا حصر لها. وليس لدينا أي غرض آخر سوى الهدف الذي وضعناه لأنفسنا؛ ولا مصير آخر سوى الذي شكلناه.
ومع ذلك ما زال العديد منّا ينكر مسؤولياتنا، كما كتب سارتر، فنقع في سوء النوايا، ونخدع أنفسنا حول هذه الحرية الراديكالية.
في كتابه "الوجودية مذهب إنساني"، يبدو سارتر صريحًا وقاسيًا عندما يؤكد على أن: "مذهبنا يروّع الناس"، و"ليس لديهم أي طريقة أخرى ليطيقوا بؤسهم على أن يفكروا"، ويقول" :لطالما كانت الظروف ضدي، فأنا أستحق حياة أفضل بكثير من وضعي الحالي. وفي الحقيقة، لم أشهد أبدًا حبًّا عظيمًا ولا صداقة استثنائية؛ ولكن ذلك لأنني لم ألتق رجلًا ولا امرأةً يستحقون الحب والصداقة؛ وإذا لم أؤلف كتبًا عظيمة حتى الآن، فلأنني لا أملك وقت فراغ للقيام بذلك؛ وإذا لم يكن لدي أطفال أكرّس نفسي من أجلهم، فذلك بسبب أنني لم أعثر على شريكة حياتي. لذا أتحلّى في داخلي بمجموعة من الصفات والميول والإمكانيات الجاهزة لمواجهة الحياة، والتي تُضفي لي الجدارة ولا تتضح بمجرد النظر في أيٍّ من أفعالي الماضية".
ولكن للوجوديين فلا وجود للحب سوى تلك الأفعال التي تدل عليه ... ولا عبقرية غير تلك التي يُعبَّر عنها في الأعمال الفنيّة؛ كعبقرية بروست التي تكمن في مجمل أعماله الأدبية وعبقرية راسين الجليّة في سلسلة مآسيه، فخارج حدود الأفعال تنعدم المعاني.
"لا شك أن هذا الفكر قد يبدو قاسيًا لشخص لم ينجح في حياته. ولكن يتعين على الناس من جانب ما أن يفهموا الواقع لأنه الأهم، حيث أن الأحلام والتوقعات والآمال لا فائدة منها إلّا أنها تُظهر المرء على هيئة حلم مكسور، وآمال مخذولة وتوقعات غير مجدية؛ أو تُظهره بسلبية بعيدًا عن الإيجابية".
في نظر سارتر، نحن لا نساوي شيئًا سوى ما نفعله.
المبدأ الأول للوجودية هو أن الوجود يسبق الجوهر، وهذا يعني أن البشر لا يملكون غرضًا معينّا سوى ذلك الذي يحددونه لأنفسهم، كمؤقت الوقت مثلًا الذي يحددونه أثناء طهي البيض. ومن خلال أفعالنا فقط، نبدأ فيما بعد بتحديد هدفنا في الحياة. وكما يكتب سارتر: "ليس المرء سوى ما ينويه".
يخدع البشر بالرغم من ذلك أنفسهم في التفكير بأنه مقدّرٌ ما هم عليه، كما لو أنهم أجساد مادية لا تملك القدرة على فعل شيء، ويوجّهون مسؤولية أفعالهم على الآخرين أو على أي رمز أخلاقي. يكمن الواقع كما يقول سارتر فقط في الفعل. أما في الحياة، فنحن نكرّس أنفسنا ونرسم صورتنا خارج حدود الأفعال حيث لا شيء يحمل معنى.
التلاعب بالرغبة
عندما نقول بأن لدينا الحرية المطلقة في السعي وراء معنى حياتنا، فهو افتراض بأنه لا يوجد شيء يعترض طريقنا، ولكن الحال ليس كذلك أبدًا.
تشير الكاتبة والفيلسوفة الوجودية سيمون دي بوفوار في كتاب "أخلاقيات الغموض" إلى أننا عندما نكون أطفالًا، لا نتحمّل أي مسؤولية؛ ونعيش في عالم جاهز مع قيم جاهزة. وعندما ننضج ونتعرف على حريّتنا، نبدأ في تحمّل زمام أمورنا، إلا أن الكثيرين منا يعودون إلى التفكير الطفولي، مساومين في حريتهم من أجل الأمان. فما السبب؟!
معزول بعضنا عن أهدافه، وكثيرٌ منّا يُتلاعب بهم ليسعوا خلف رغباتٍ ليست رغباتهم. ويمكن تطويعنا نحو مساعٍ لا طائل منها، فنبتعد حينها عن صنع مستقبل قيّمٍ لأنفسنا.
إن المشكلة هي أن المُضطهَدين غالبًا يجهلون أنهم مُضطهَدون، فليس العالم في نظرهم إلا شيئًا عصيًا على التغيير، باعتباره "وضعًا طبيعيًا". ترى دي بوفوار، أن الخلاص الوحيد من هذه المشكلة هي الثورة؛ فتقول: "في الثورة فقط، قد يحقق المضطهد حريّته كرجل".
وكما تقول في عبارتها المشهورة: "إن الخلود والفناء مستحوذان على الحياة؛ وكل ما يمكن للحياة فعله أن تحافظ على خلودها، حينها لن تموت". فحسب دي بوفوار أن الحياة تتصف على أنها ذات تغيير مستمر، وأنها نظام غير مستقر؛ إذ يُفقد التوازن فيه ويُسترد باستمرار، فليس الجمود عندها إلا فكرة مرادفة للموت.