السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:44 صباحاً
القطيع الإنساني
العقل وندهِ الغريزة
هل غرق العالم في جنونه؟
نحبُ نحن البشر أن نرى أنفسنا مخلوقات عقلانية ومنطقية. نحب أن نعتقد بأننا نملك "المنطق السليم"، فالإنسان المعتدل في تفكيره والعاقل لن يحث نفسه على القيام أو الاعتقاد بشيء يدرك تفاهته. ولكننا نرى بالرغم من ذلك أمثلة كثيرة في كل مكان تبين كيف أن الإنسان يفعل ويعتقد بعض الأشياء التي هي في حقيقة الأمر أقل بكثير من قدرته العقلية والمنطقية. نلتفت حولنا ونقول لأنفسنا "لا يمكن أن يكون الإنسان أكثر حماقةً من ذلك!" ومع ذلك يستمر بأن يكون بتلك الحماقة؟ أعتقد بأنني توصلت إلى إجابة سؤال: "لماذا يتصرف الناس بتصرفات أقل من قدراتهم العقلية". والإجابة هي أن البشر ما هم إلا قطيع إنساني، وأنه عندما يُنظر إلى السلوك وعلاقتهُ بفكر القطيع، فيمكن فهم وتفسير الكثير من التصرفات.
مثلاً، هل وقف على بابك أحد أعضاء الجمعية المسيحية "شُهود يهوه" أو المنظمة الدينية الهندوسية "هير كريشنا" مُحاولاً إقناعك لتؤمن بمعتقدهم؟ هل خضت نقاشاً مع أحدهم حتى آل النقاش إلى أن تتصادم فيه أفكاركم وتنقطع سبل التقائها، بالرغم مما قلته، وبغض النظر عن منطقك وعقلانيتك. بإمكانك أن تكون على حق، وصحة موضوعك الذي خضت النقاش فيه واضح وجلي، حتى الكلب الذي لا يفقه شيء، قد يكسب الجدال بفهمه وإدراكه الذي غاب عن خصمك. لا أقول إن رجل الدين أحمقاً ليدرك الحقيقة الجليّة. بعضهم لربما حصل على درجة علمية، أو وظيفة مرموقة في مجال التكنولوجيا، وربما أصبح عضواً في جمعية مِنسا الخيرية. كيف يعقل ذلك؟ أن تخوضا نقاشاً مطولاً، تقومانِ بعملياتكما الحسابية لتفسير نظرية لماذا يتباطأ الوقت بمجرد أن يتقارب مع سرعة الضوء، إلا أنه لا يزال غير مقتنع بكروية الأرض، فوضوحه كوضوح الشمس إلا أنهم عمّوا وصمّوا.
أقررنا مسبقاً بذكائهم الفذ، وقدرتهم العقلية البالغة لأن يفهموا ما تقوله. لا يوجد أدنى شك بأنك على حق وهم على خلافه، خلافاً لا يمكنك أن تستوعبه، كيف لهم أن يؤمنوا ما هم مؤمنون به. والأكثر تعقيداً، كيف أن رجل الدين متعنتاً باعتقاده، كما أنت متعنت باعتقادك. فهم في حقيقة الأمر قد صعب على ذهنهم إدراك كيف أنك متمسك برباطة جأشك ولم تجرأ على الانتحار، لتنضم إلى مخلوقات الفضاء مختبأً خلف مُذَنب هايل-بوب. من منا لا يريد الانضمام إلى مخلوقات الفضاء؟
المشكلة تقبع في كل مكان. إنها ليست فقط في شهود يهوه، أو هير كريشنا، أو طائفة الفرع الداوودي الدينية، أو ديانة المورمون، أو جماعة العهد الجديد الروحانية، أو الجمهوريون. فالجنون في كل مكان. فالوكالات الحكومية تتخذ قرارات عجيبة. والسياسيون يتجاوزون قوانين غريبة. والقضاة يُحكِّمون بقرارات مبهمة. والشركات تسنُ قواعد غير مألوفة. نسمع الكثير من الإشاعات عن فتيات سويات، طالبات مجتهدات فُصلن من المدرسة بسبب إحضارهن لدواء ميدول المسكن، للتخلص من تشنجات الآلام الحيض. جاك كيفوركيان، قديس "كنيسة الحق"، هو الآن حبيسٌ في السجن. مجلس التعليم في ولاية كنساس، يطالب بمساواة نظرية التطور بنظرية الخلق. المراهقون، من كان ليعلم، لازالوا يتعاطون التدخين بإدمان. الرجال يضعون ربطات العنق، والنساء يرتدين أحذيةٍ عاليةِ الكعب. ما الذي يحدث هنا؟ هل سمّم أحدهم مياه الشرب؟ كيف يعقل لمخلوقات تدعي العقلانية أن تتصرف بهذه الطريقة؟
الأعمال الخفية للعقل
إذا افترضنا أن الناس يتصرفون بأقل من قدراتهم الإدراكية، فذلك يترك لنا المجال في أن نستنتج بأن الإدراك ليس مهيمنًا في العقل. نستنتج بأن هناك عوامل مهيمنة أخرى غير الإدراك، وهي العوامل المسببة لأفعالنا التي نقوم بها ومعتقداتنا التي نؤمن بها. يجب علينا أن نتخلى عن ادعاء الذكاء، فالذكاء قد يحكمنا، لكن من الواضح أنه لا يحكمنا، أليس كذلك؟ لكن إذا لم يكن يحكمنا فماذا يفعل؟
ما الذي يحكم التصرف والمعتقد؟ قد تجد أن الإجابة على سؤالٍ كهذا صادمة. صادمة بحيث يصعب عليك تصديقها. في هذه المرحلة أريد أن أدعوك للقيام بتجربة عقلية صغيرة معي. بينما تقرأ بقية هذه المقالة، أريد منك تجربة خدعة الهبي القديمة LSD، بدون تناولك لحبوب LSD فعلياً. أريد منك أن تفصل عقلك إلى أجزاء منفردة من الوعي العقلي. معظم الناس هم فقط بعيدون خطوة واحدة، أو اعتادوا الانتباه على صوت واحد أو جزء عقلي واعي، فلم يعتادوا استخدام أصوات عدة ليستوعبوا أفكار جديدة. في هذا المقال، سأسعى إلى إرشادك لطريقة تعلم جديدة، أن تطبق ما تعلمته من تلك الطريقة في وقتك الحالي، حتى تفهم وظائف عقلك. في الواقع سوف يكون تطبيقاً مسلياً، مثل حل نوع جديد من الأحجية، وليس من الصعب تعلمها.
من أجل تِعداد مهام عقلك، سأصدر مجموعة مختلفة من الأصوات في عقلك وأطلق على كل واحد منهم اسماً. وبمجرد إصدار تلك الأصوات، سيمكنك سماعها. كل صوت سيتميز عن الآخر بجودة نغَمه، وبينما أنت تقرأ هذه الكلمات، هناك صوت يهمس بالكلمات المقروءة في ذهنك. وسنطلق على هذا الصوت "القارئ". حينما تقرأ هذه الكلمات، القارئ يصدر صوتًا في ذهنك يخيل إليك أنه صوتي الذي أتحدث به إليك. أملك صوتًا عميقًا وغليظًا مثل صوت باري وايت. هل تستطيع سماعه؟ كلا فأنا أملك صوتًا عاليًا وحادًا مثل صوت بي وي هيرمان. هل تسمعه؟ إذا أردت حقاً سماع صوتي، يمكنك زيارة صفحة "شركة سبرنت السيئة" وتسمع كيف يبدو صوتي حقاً، اختر صوتًا، وذلك سيكون صوت القارئ، وهو صوتي.
الصوت الثاني سيكون صوت "الناقد", والذي سيكون صوتك أنت. بينما تقرأ كلماتي هنا، وتسمع صوتي في ذهنك، ستسمع في الوقت ذاته صوتك يهمس إليك. "من يكون هذا الشخص يا ترى؟ هل يحاول التلاعب بعقلي؟ ما الذي يحاول الوصول إليه؟ وما الذي يفعله دواء LSD؟ ما الذي يجعله ذكياً؟ من الذي أرسله الله أم الشيطان؟ فالجمهوريون ليسوا برجال دين! أنتم أيها الليبراليون! لقد غسلنا أدمغتكم! وهذا مسلٍ". شخصية "الناقد" هي أنت، تتحدث إليّ كما لو أننا في خضم حديث. تسمع صوتك في ذهنك يخوض جداله مع صوتي عما تقرأه هنا. لا يمكنك أن تصدق كل ما تقرأه. قد تحتاج إلى شخص يقف بجانبك، يساندك، ليقيّم ويُصفيّ المعلومات التي تدخل عقلك، وتربط ما تعلمه بما تؤمن به. فـ "الناقد" بوابة الأمان لعقلك.
أما الجزء الثالث من الوعي "الَحَّاسّ" (فاعلٌ من حسَّ) ". فـ " الَحَّاسّ" لن يكون لديه صوت، لأنه في حقيقة الأمر لا يقول أي شيء. هي المشاعر التي تختبرها بينما تقرأ الآن. حينما أحكي لك أمور، ستشعر بالرضا والسرور إذ توافقت مع آرائك، أو ما أن تجدها مثيرة للاهتمام أو مسلية. ستشعر بالغضب والامتعاض ما أن تختلف معك في رأي أو تهين طريقة إيمانك أو القيم التي تحملها بقلبك بقداسه. بينما تقرأ هذه الكلمات، سوف تمر بتجربة انفعالات حول الأفكار المطروحة هنا. هي تجربة مشابهة لما يحدث عندما تقرأ أي شيء. الاختلاف الوحيد بينهما هو أنك على علمٍ بأن ما تقرأه يخلق لك تجربة حسيّة واعية. فـالَحَّاسّ، والذي يتواجد في حقيقة الأمر مع جزأين على الأقل، "القارئ" و "الناقد". وهذه الأجزاء تتواجد جميعها في الوقت عينه، تدرك وجودها في الوقت ذاته. كيف تشعر حيال ذلك؟
في هذه المرحلة، يجب عليك أن تلحظ الترتيب في الأحداث السببية الواقعة. بينما يقرأ "القارئ" هذه الكلمات، عقلك يُنشئ صوتًا، وهو صوتي أنا، والذي يتحدث إليك. وبينما تسمعني أتحدث، "الحاسّ" يستجيب إلى كلماتي بخلق انفعالات عما أقوله لك. الانفعالات تحفز "الناقد" للرد على "القارئ" والذي يتفاعل "الحاسّ" بدوره معه. فإذا كان الحاسّ يمر بتجربة انفعالية شديدة، فإنه يجبر الناقد على الرد بأسلوب يضع الحاسّ في راحة. فما يقوله الناقد هو في مصلحة الحاسّ. أريد الآن أن أسألك سؤالاً. هل تعتقد بأن الناقد ما هو إلا عبدٌ عند الحاسّ في ذهنك؟ هل من الممكن تقريب صورة الحاسّ بالزوجة المتذمرة، والتي تجعل من زوجها الناقد يقوم بكل أعمالها؟ تأمل الفكرة.
أنت الآن في وضع تأمل لاستجابة كلٍ من القارئ والحاسّ والناقد. تتأمل سلسلة الأحداث، القارئ يتحدث عن شيء، الحاسّ يتفاعل مع حديثه، والناقد يجيب، فيشعرك الحاسّ بإحساس مختلف. وبما أنك الآن مطلع على هذه الأجزاء الثلاثة الواعية، وكيف أنهم يتعاملون مع هذا السيل من المعلومات في واقع الأمر، ما هو الجزء المدرك؟ وما هو الشيء الذي يراقب الوضع كله؟ إذا كنت أنت الآن تدرك الأجزاء الواعية معاً، إذاً ما هو الإدراك؟
الجزء الرابع من الوعي سوف يطلق عليه "المشاهد". المشاهد ربما يكون لديه صوت أو لا يكون، الأمر متوقف على كيف يعمل عقلك. ففي عقلي أنا، المشاهد يرى صوراً. فطريقة تجربتي تعتمد على المشاهد حين يرى القارئ كشخص ذو وجه عام ومألوف يتحدث إليّ. فأكون أنا الناقد أستمع إلى حديث القارئ. أما الحاسّ، فهو الطفل المدلل، طفل أحدهم الذي لا يكف عن البكاء، ذو الستةِ أعوام يريد أن تسير جميع الأمور على طريقته هو. فالمشاهد بالنسبة لي ككاميرا التلفاز التي تقوم بتسجيل كل شيء. وهذا التسجيل يكون في مكانٍ عادةً ما يكون مكاناً أٌقوم فيه بالتفكير بعمق وأشعر بالرضا نحوه. لذلك ربما تختلف تجربتك.
فـكأن "المشاهد" عبارة عن "الذات السامية". فالجزء الرابع من الوعي هو جزء منك، والذي يراقب طريقة تعامل الأجزاء الواعية الثلاث مع المعلومات في واقع الأمر. الشاهد هو الوعي الذاتي، يراقب ذاته التي تراقب ذاتها. نوعاً ما هو كتعريف "العوديّة أو الاستدعاء الذاتي" في المعجم كأن تقول "راجع ذاتك". بالإضافة إلى أنك المُشاهد وتشاهد الأجزاء الأخرى، فدور المشاهد هنا أن يتخذ القرارات ويتحكم في "قاعدة البيانات الرئيسية" وتحديثاتها، وهذا الكوم من المعلومات هو ما يُكوِّن ذاتك. ربما الصورة تكون أقرب إذا ما شبّهنا ذلك بمجلس الإدارة في شركةٍ ما، أو الكونغرس الأمريكي. يا للهول! كونغرس في عقلي؟ أعتقد أن الحّاسّ استفرغ ما في معدته!
الشاهدُ أيضاً، هو الذي يحدد "التوجيهات الأساسية" وهي المبادئ التوجيهية المهمة في حياتك. فمن مهامه أن يحدد "أخلاقياتك" أو "معتقداتك" ومبادئ مهمة وعِبرْ، تَعبرُ بها في هذه الحياة. فهو يدمج تجاربك، يقيُّمها ويعطيها معنى، حتى تنتهج أسلوباً يرشدك في قراراتك المستقبلية. فالمنهج المُتبع في قراراتك المستقبلية هو ما يُكوّن لديك "قاعدة البيانات الرئيسية". فقاعدة البيانات الرئيسية تخزن عن القرارات معلومات حتى تُنشأ نمط معين عن السلوك.
فتكمن الفائدة من تخزين أنماط السلوك في قاعدة بياناتك الرئيسية، أن يُسْعفَ عقلك عند التفكير فيما يفعل عندما تجابهه أيةُ مشكلة. فعوضاً عن التفكير في حل، تلجأ إلى نمطٍ معين. وهذا ما يحرر المشاهد من قيود التفكير، ليتفرغ لمشاكل أخرى. هل تذكر أول مرة قدت فيها سيارة؟ تجربة معقدة بشكل رهيب. يجب عليك التعامل مع البنزين والمكابح وتوجيه المركبة، تقبع في زحام المرور، تنتظر إشارة المرور، ومرور السيارات الاخرى، وماذا إذا اصطدمت بأحدٍ ما ورآك شرطياً. من المدهش في الحقيقة إذا استطعت الوصول إلى نهاية الطريق. لكن الحال الآن كما لو أن المركبة تقود نفسها، حتى أنك لا تذكر تجربتك الأولى. وذلك لإن التجربة محفوظة في "قاعدة البيانات الرئيسية".
عندما تجري الأمور كالعادة، فذلك لأنك في موضع التحكم. فإذا حدث أمرٌ طارئ، شيءٌ ما يتعارض مع معلومات قاعدة البيانات الرئيسية، فعندها يُفعّل الحّاسّ تنبيهاته. فالحّاسّ هو الجزء العقلي الواعي يبدي الإحساس المناسب، عند مقارنته لسيل البيانات المدخلة مع قاعدة البيانات الرئيسية، يستدعي الموارد العقلية للتعامل مع البيانات المدخلة التي فشل مصادقتها في قاعدة البيانات. تخيل لو أنك تقود مركبتك على طريقٍ ما فإذا بأحمق يضغط على الفرامل. يتفاعل الحّاسّ مع الموقف، فيتفاعل المشاهد مبيناً بذلك أن قراراً فورياً يجب أن يُتخذ.
عادة لا يكون الحاسّ في حاجةً لتفاعل المشاهد. فعندما ينزعج، يتذمر ليجعل الناقد يخرج ما اختزنه المشاهد من معتقدٍ في قاعدة البيانات الرئيسية. على سبيل المثال، إذا قلتُ لكَ: "كان رونالد ريغان أفضل رئيس عاش على الإطلاق." أو إذا قلت: "كان بيل كلنتون أفضل رئيس عاش على الإطلاق". إحدى هاتين الجملتين سيتفاعل معها الحاسّ، الذي تقوده قاعدة البيانات الرئيسية، فيتفاعل الناقد للموقف معلقاً: "لابد من أنه مجنون!"، فهذا يحدث لأن المعلومة عن كلنتون وريغان هي بالفعل مُخزَنه في قاعدة البيانات وردة الفعل ماهي الا استجابة مُتنبى بها.
وهكذا، فإن ما تشعر به نحو ريغان وكلنتون هو مبنيّ على معلومة مختزنة في قاعدة البيانات الرئيسية، وليس مبنيًا على رأيك بهم. فالموقف الوحيد الذي قد يكون مبنيّ على ذلك حين يكون الموقف بلغ أقصى حدود المعلومة المُخزنة في قاعدة البيانات الرئيسية. فهذا الموقف يتطلب من المشاهد اتخاذ قرارٍ فوريٍ، وتحديث المعلومة المخزنة. هل تذكر عندما اعترف ريغان بأنه قايض الأسلحة مقابل إطلاق سراح الرهائن الامريكان في لبنان؟ هل تذكر عندنا أعترف كلنتون بعلاقته غير الشرعية مع مونيكا لونسكي؟ بعض مما شعرت به سابقاً ما هو إلا جهد الحاس في تخزين ودمج المعلومة التي تتعارض مع معلومة مختلفة أخرى في قاعدة البيانات الرئيسية، والتي تتطلب من المشاهد شرح المعلومة المتعارضة حول من هو الصالح ومن هو الطالح.
في نهاية المطاف، قد تتساءل ما إذا كان هناك المزيد من الأجزاء الواعية. بالأحرى هناك المئات والمئات. لكن هدفنا المناقشة والتجربة، لأجل ذلك تناولنا فقط أربعة من الأجزاء الواعية مع قاعدة البيانات. فذلك كفيل لإصابة أحدهم بصداع الرأس. ربما تريد أن تأخذ قسطاً من الراحة وتتناول قرصاً من الأسبيرين. كانت رحلة معقدة والقادم أكثر تعقيداً. سوف أحاول أن أبقي الأمر بسيطاً قدر الإمكان، لكنه موضوع في غاية التعقيد، يحتاج إلى تفكيرٍ بلا قيود، فلا يوجد شيء في "قاعدة البيانات الرئيسية للوعي الإنساني العالمي" لنربطه به. (ذلك كان تلميحاً إلى مجرى هذه المحادثة).
لماذا الأعمال الخفية للعقل ذو صلة بالموضوع؟
أنا سعيد لسؤالك هذا. فسؤالك له صلة بعدة أسباب، ومن المهم طرح أسس الأفكار التي سأستعرضها هنا. ومن المهم لك أن تستوعب العلاقة بينهم. ومن المهم أيضًا أن تستوعب ليس فقط طريقة عمل العقل بشكل عام بل بشكل خاص. فسبب أهمية ذلك، هي أن عقولنا أدوات غير مكتملة. فهذه العيوب، عيوب لها أهمية، والتي تؤدي إلى استنتاجات خاطئة عن طبيعة الواقع. هناك العديد من الجوانب التي نتشاركها في عقولنا والتي تجعل الوصول الدقيق إلى معلومة معينة أمرًا صعبًا، وحتى نفهم ذلك، يجب علينا معالجة عيوبنا العقلية والعلل المحيطة بنا.
إن جميع المعارف أيضًا لها صلة بهذا الموضوع، فنحن نفهم أيضاً كيف أن الشجرة تُقدّر ذاتها النباتية، ذلك أنها مخلوقة من الخشب، من الخشب الصلب، والأشجار كبيرة الحجم، تنمو وتملك أوراق ثم تموت، ماعدا أنها تعيش طويلاً. فكل تلك الجوانب المختلفة لفهم الشجرة، تأتي من ربطها بأشياء أخرى نعرفها. فعندما يرى الطفل شجرة لأول مرة، فعقله لا يستوعبها كشجرة. فالصورة تركز في الجزء الخلفي من العين، فتنتقل إلى العقل لترمز في قاعدة بيانات فارغة. فلا يوجد في قاعدة بيانات الطفل ما يرمز إلى الشجرة. فلأجل أن يفهم الطفل ماهية "الشجرة", يجب عليه تجميع عدد كبير من المعلومات ليستوعب ما تعنيه "الشجرة". فبدون المعلومات في قاعدة البيانات، فالشجرة لا ترمز إلى شيء. أيضاً، لفهم القوى التي تتجاوز العقل، على المرء فهم وتجربة الأعمال الخفية للعقل في الواقع.
سأقول أشياء هنا حقيقية، ولكن بتناقض مباشر مع قاعدة بياناتك الرئيسية. هناك أفكار يحاول عقلك بجدٍ الدفاع عن نفسه منها، إلا إذا جدد "المشاهد" المعلومة. جميعنا نحن البشر لدينا الكثير من البيانات الرديئة في قاعدة البيانات، والتي وجدت هناك كنتيجة حضارية أو قبائلية أو بسبب غرائز البقاء. فإذا قمت بعرض هذه المعلومة عليك مباشرةً، ستمنعك استجابتك التلقائية من فهمها حتى بدون أن تشعر بأنها قامت بذلك. لدي نظرية تقول إذا كنت تستطيع أن تدرك عملياتك العقلية وتنتبه لها، وتحاول التخلص من فكرة مزعجة، فعندها ستتعلم حيلة جديدة ستسمح لدماغك بالعمل خارج حدود عمله.
أنا لا أطالبك بأن تقبل أي شيء أقوله هنا وتؤمن به. في الحقيقة أنا لا أشجع الإيمان بأي شيء لا يمكن تفحصه. لأجل ذلك أنا أحاول أن أضع هذه التجربة التي من خلالها تستطيع أن تقود ذاتك بعيداً عن عقلك، وأن تتعلم لذاتك من ملاحظتك المباشرة، حتى تعرف أولاً مصادر وقيود عقلك، وتطور تقنيات تسمح لك باستخدام عقلك كأداة فعالة. هناك مواقف أواجهها يومياً والتي يتوجب عليّ استخدام عقلي في مناطق معيبة. لكنني تمكنت من فهم عيوب عقلي والعمل عليها.
ما أتحدث عنه هنا هو لماذا يؤمن الناس بأشياء ويعملون بها والتي تبدو بالنسبة لنا غبية بشكل لا يوصف. كم مرة نرى شخصاً يعاني من مشكلة شخصية، جلية للجميع باستثناء الشخص المعني، والذي لا يمكنه إطلاقاً استيعابها. يتجاوزون أحياناً المشكلة، وهم بنفسهم لم يتمكنوا قط من فهم ما استغرق منهم وقتاً طويلاً لمعرفة ذلك. يبدو أن بوسع الجميع رؤية مشكلة الآخرين إلا مشكلتهم. ما الذي يتطلبه لفصل النفس عن ذاتها ليتمكن الشخص من رؤية نفسه كما يروه الآخرون؟ إذا كان بوسعك ذلك، أن ترى نفسك على حقيقتها، بدون أن يتحايل عقلك على نفسه لحميك من الحقيقة المُّرة وغير المتقبلة. الفرق الوحيد بين رؤيتك لنفسك على حقيقتها ورؤية الآخرين لك، أنهم لا يملكون حواجزك العقلية الشخصية. كذلك، فأنت ترى حقيقتهم الشخصية لأنك لا تملك حواجز عقلهم الشخصية.
فالحواجز العقلية ليست محدودة فقط على الأفراد والسلوك الفردي. بل يوجد هناك أيضاً الحواجز القبلية والتي يتشاركها الجميع في القبيلة. على سبيل المثال، من الطبيعي على أتباع القائد الديني صن ميونغ مون الاعتقاد بأنه إله. فذلك من ضمن قاعدة بيانات القبيلة. فإذا كنت أحد أفراد هذه القبيلة، فستعتقد بأن مون إله، وإذا لم تعتقد ذلك، فستقصى عنها. إذا كانت الانتماء إلى الجماعة أهم من الحقيقة، فسيخدعك عقلك بالإيمان أن مون إله، وسيمنعك كذلك من الإدراك بغير ذلك إلا إذا كنت مستعداً لتركهم. لا يوجد شيء قد يخترق تلك الحواجز، لأن المنطق والعقل ليسا جوانب مهيمنة. فقاعدة بياناتك الرئيسية يُتحكّم بها من قِبل قاعدة بيانات أتباع مون. فإذا كان عقلك لا يتحكم بذاك القسم من المعلومات فـ "شاهدك" لا يستطيع تحديث المعلومة ولن يكون بمقدورك استيعاب المعلومات الحقيقية.
فلنتخيل أن المريخ غزا كوكب الأرض. هبطوا في سنة 1979 على إيران، واستولوا على عقول الطلبة الإيرانيين الذين وضعوا آية الله على رأس السلطة، والذي قاد في نهاية المطاف إلى اقتراع ريغان وكل ما حدث بعد ذلك نتيجة لكل هذا. هؤلاء المريخيين غير مرئيين، يغزون عقول كل من تلامسوا معه. فحتى هذه اللحظة، كل فرد في كوكب الأرض قد لُمِس من قبل المريخيين. إذا كان هذا صحيحاً، والذي هو ليس كذلك (أتمنى ذلك)، فكيف ستعلم إذا كان الذي تفكر به هو صنيع أفكارك وليس صنيع المريخيين؟ إذا فكرت بجد وبما يكفي، ستستطيع إنشاء مجموعة من التجارب الهادفة والتي ستسمح لك أن تعمل بشكل طبيعي بالرغم من الوعي الدخيل. فالتعامل مع العقل البشري ليس بذاك الاختلاف. يمتلك عقلك الكثير من الإمكانيات التي تستخدمها، ويمكنك التعلم كيف تستفيد منها. (ولكن ليس مع كنيسة السيانتولوجيا).
ربما ناقدك يحمي شاهدك، "حسناً ذلك لا ينطبق علي، فأنا لا أنتمي إلى أي طائفة دينية". لأجل ذلك أقول، أنت كذلك. فالمجتمع مُنظم على شكل قبائل، وجميعنا ننتمي إلى قبائل مختلفة، وقد تنازلنا عن جزء من قاعدة بياناتنا ليتحكموا بها. الجنس البشري هي قبيلة عالمية بحد ذاتها تتحكم في معظم معتقداتنا التي بعض منها خاطئ. ولأننا بشر وجزء من قبائل مختلفة، لدينا جميعنا مريخيين في دواخلنا، يعبثون بأذهاننا. فإذا كان بإمكاننا أن نستعيد السيطرة على عقولنا من القبيلة، فعندها نستطيع استخدامها لاكتشاف الحقيقة على ماهي عليه، ونغذي المعرفة في عقل القبيلة، حتى تصل وأعضائها إلى مستوى مختلف. وهذا ما تسعى إليه كنيسة الحق. تبحث عن الحقيقة على ماهي عليه، بغض النظر عن تفكير القبيلة.
غريزة الإنسان القبلية عادةً هي أقوى من المنطق والعقل
قبل ملايين السنين أشباه الإنسان بدأوا بالنهوض، ونُظموا إلى مجموعات صغيرة، تسمح لهم بالبقاء على قيد الحياة بشكل أفضل، على أن يؤدّي الذكر مهمته في الحماية والصيد، وتؤدي الأنثى مهمتها في تربية الأبناء. مع مرور الزمن تطورت مهارة اللغة مما سمح للأفراد بالتواصل. ولأن الأفكار أصبح سهلًا مشاركتها مع الاخرين، فقد أصبح من السهل أيضاً أن يتعلم الفرد شيئاً وينقله لفرد آخر دون حاجة هذا الفرد إلى أن يكتسبها بمفرده. فالمعرفة يمكن نقلها عن طريق كلمات الفم، فتسمح أن تبقى معرفة الفرد حتى بعد وفاته. فالآخرين بذلك يعتمدون على أعمال الآخرين فينشئون مستويات متطورة تكنولوجية، وأي فرد يستطيع أن يبتدع نفسه. لم يعد على الجميع إعادة اختراع العجلة. (أتسأل كم من الوقت لبث هذا التعبير؟). فبفضل اللغة، استطاع الناس التواصل والعمل معاً ومشاركة المعارف والمعارف القبلية. فمهارات التواصل سمحت لأولئك الذين يمكنهم التحدث، البقاء على قيد الحياة بشكل أفضل من أولئك الذين لا يمكنهم الحديث، فعقولنا متطورة لهذا الغرض من اللغة.
وبسبب اللغة أيضاً، أصبح الناس يتكلون على بعضهم البعض. لم نعد أفراداً كما السابق. فنحن نحتاج بعضنا للبقاء على قيد الحياة. بمعنى آخر، نحن جزء من منظمة، نشبه النحل وارتباطهم بالقفير. بالرغم من أن النحلة الواحدة هي بالفعل منظمة بذاتها، إلا أنها لا تستطيع النجاة والبقاء على قيد الحياة دون الحاجة إلى خلية نحل واحدة. أعتقد أنه صحيحٌ القول إنه في عالم النحل، أن القفيرة الواحدة تمثل منظمة، وما النحل إلا خلايا في هذا القفير.
على الرغم أن البشر أكثر فردية من النحل، فنحن نشبه النحل أكثر من كوننا عناكب. فنحن نعتمد على أحدنا الاخر للبقاء. على سبيل المثال، لم أصنع جهازي، ولم أبنِ منزلي، أو تجميع قطع سيارتي، أو أزرع طعامي الذي آكل، أو حياكة ملابسي التي أرتدي. فالقليل مما أنا عليه صنعته بنفسي. لقد عملت على تطبيق يعمل على ملايين من أجهزة الكمبيوتر التي تسمح لوظائفي العقلية بالعمل لدى الآخرين. فأنا أعتمدُ على المجتمع والمجتمع يعتمد علي. فنحن نتشارك المعرفة ونعمل معاً. ولكي نعمل معاً وضعنا القوانين ورسخنا سلطة الحكم التي بدورها تطبق هذه القوانين. لدينا التجارة، ووضعنا العملة، لتعزيز قدرتنا على التجارة. لدينا القدرة على كتابة وإرسال بريد إلكتروني وبيانات، فقدرتنا على مشاركة المعارف والمعلومات عززت قدرتنا على البقاء على قيد الحياة.
لكن هذه المعارف المشتركة جاءت بثمنها. من أجل الإبقاء على أصلنا، كان علينا أن نتخلى عن جزء من فرديتنا لمصلحة القبيلة. العديد من أسلافنا قاتل وقُتِل في حروب من أجل الحفاظ على حضارتنا القبلية. فقدرتنا على البقاء كأعضاء قبليون أصبحت مهارة غريزية هامة، وهي جزء منّا ومن معرفتنا التي ولدنا بها. جميعنا في حاجة إلى قبول القطيع من أجل الحصول على رفاهية العيش، وأن نشعر بالرضا عن أنفسنا. معظم الناس يخلق لنفسه معاناة نفسية، ليُرفض أو يفصل عن القطيع. فغريزة أن تكون قَبَلي قوية جداً، لدرجة أن معظمهم يقتلون أنفسهم لينفصلوا عن القطيع أو يرفضهم.
ولأننا نعيش في مجتمع متطور، فمعظم معارفنا اكتسبناها بفضل الآخرين. فمعظم تلك المعارف خاطئة، ولكن لأن القطيع يعتقد بصحتها، فهو مُتوقع منا أن نظنها كذلك، فليس من طبيعتنا أن نعتقد بأننا أفراد، أذكى من مجموعة من الآلاف أو ملايين من الناس الذين آمنوا بأشياء منذ قرون عدة. ولكن الكثير من الأحيان يكتشف فرد ما حقيقة جديدة، أو يكتشف شيء تظن القبيلة بأنه صحيح وهو عكس ذلك تماماً. وعندما يحدث هذا، فإن المعرفة بالغالب تُفقد، وذلك لأن الفرد قد خضع لرغبة القطيع.
ما هو القطيع؟
القطيع أو القبيلة هي أي منظمة تتكون من شخصين أو أكثر والذين اجتمعوا معاً لغرض معين. قد يكون القطيع صغيراً كشخصين يتقاسمان شقة لكل البشرية. بعض من البشر ينمتي إلى مئات من الأقاطيع، فستراهم ينتمون إلى قطعان مختلفة بين وقت لآخر طوال حياتهم. فالقطيع هو منظمة من الناس الذين يتشاركون بعض الأفكار المشتركة. فالقطيع يشمل جميع الأديان، والحكومات بمستويات مختلفة والتي تتضمن جمعية المُجَاوَرَة، مشجعين رياضيين، نوادٍ، أحزاب سياسية، غرف دردشة، ومحبي حديث الراديو، أصحاب أجهزة ماكنتوش، زملاء عمل، العقليون، الهبيين، الحانات، البارعون والمدارس. فكل المنظمات تملك مجموعة من القوانين ومعتقدات مشتركة. وأعضاء هذه المنظمات قد تخلوا عن جزء من قاعدة بياناتهم الرئيسية للقطيع. أصبح القطيع بذاته منظمة مفعمة بالحياة، كما هي خلية النحل. وفي حالات كثيرة، تكون هذه المنظمات حقيقية أو أكثر واقعية من الأفراد الذين أنشاؤها.
على سبيل المثال، إذا كنت مسيحياً، فمن المتوقع أن تؤمن بيسوع المسيح. فإذا لم تكن تؤمن به، فما الهدف من كونك مسيحي؟ كمسيحي، قد تنظم إلى طائفة محددة من المسيحية وتصبح عضو في كنيسة معينة. كعضو في الكنيسة، من المتوقع حضورك يوم الأحد صباحاً. أن ترتدي ملابس مهندمة وتتبرع بـ 10% من مالك. الواعظ هو المسؤول، ومن المتوقع أن تستمع إلى موعظته. فعندما يقول: قفوا وصلوا، يجب عليك ذلك. إذا كان يقود الناس في الصلاة، فحينئذٍ يصلِ الجميع معاً. وعندما تنشد، تنشد مع الجميع. وعندما يأمر الجميع بالوقف، الكل يقف. وعندما يأمر بالقعود، فالجميع يقعد. وعندما يأمر بالحديث بألسنة ولغات مختلفة، فيجب على أحدٍ ما تنفيذ بذلك. وعندما يأمر بالتصويت الجمهوري، فالجميع يصوّت بما أمر به.
فلأجل أن تكون عضو في قطيعٍ ما، فالعضو يتحتم عليه التنازل عن جزء من سيطرته على تفكيره وطريقة اتخاذه لقراراته، لوعي المجموعة. ففي حالات الأندية، عقاب الفردية هو الحرمان من العضوية. وفي حالة السلطة، الحرمان من ثروتك أو حريتك. وفي حالة الدين، المخاطرة بفقدان روحك الأبدية والاحتراق في نار جهنم للأبد. تعطي العضوية في القطيع للفرد إحساس المجتمع والعائلة. فيطور الفرد سمعته ومكانته الاجتماعية في القبيلة، فشعور قبول المجموعة له، مهم للرفاهية النفسية الفردية. إن الفرد الذي يتحدى الصلاحيات التي تكون ضمن القطيع، يخاطر بفقدان المصالح، واستحثاث غضب القطيع. دائماً هناك ثمنٌ يُدفع، وإذا لم يكن الفرد راغبٌ في دفعه، فعليه أن يقبل هيمنة القطيع على جزء قاعدة بياناته الرئيسية.