السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:20 صباحاً
لغةٌ واحدةٌ لا تُغني
مع كثرة المقالات التي تتناول أبحاثاً جديدةً حول ثنائية اللغة في السنوات القليلة الماضية نلحظ أن بعضها يرى أن ثنائية اللغة توقد الذهن فيما يحاول آخرون وبوضوحٍ إثارة الشكوك حول الثقة فـ"هل تُعتبر ثنائية اللغة ميزة؟"، وهذا ماتساءلت عنه ماريا كونيكوفا (2015) في النيويورك تايمز، ويعكس تضارب الآراء هذا جدلاً حقيقياً في الأدبيات العلمية المعرفية، فقد شوهد عدد من التأثيرات على المهارات غير اللغوية وكذلك على القدرات والوظائف في بعض المجموعات، لكن لم تتكرر بعض هذه النتائج.
وعلى الرغم من كل هذه الضجة التي أثيرت حول إيجابيات ثنائية اللغة، إلا أن معظم الباحثين الآن يتخذون منهجاً دقيقاً لاكتشاف جوانبها المختلفة، ولفهم أفضل لتأثيراتها على الأفراد، بدلاً من النقاش القديم والمتمحور حول الميزة المعرفية لها وإذا ماكانت تمنح أفضلية للأفراد أم لا.
الجدير بالذكر أن لها أنواع متعددة تختلف فيما بينها بفروقات بسيطة، فهناك "ثنائية اللغة المتزامنة" وتكون عند اكتساب الفرد لغتين منذ الولادة، أما من يتعلم لغة واحدة في المنزل وأخرى يستخدمها مع زملائه في المدرسة فيُعد "ثنائي لغة متتابع مبكر" ، في حين أن "ثنائي اللغة التتابعي المتقدم" هو من ينشأ على لغة ثم يتعلم أخرى وذلك بانتقاله إلى بلد جديد، إن الفروقات بين هذه الأنواع الثلاثة مُعتبرة، فكل صنف منها يقود لمستويات مختلفة من المهارة والطلاقة في مختلف جوانب اللغة بدءًا من النطق حتى القراءة والاستيعاب.
وفي دراسة حديثة لباتريشيا كوهل وزملائها من جامعة واشنطن اختبروا تأثير الاستماع والتحدث كطريقتين لاستخدام اللغة الثانية، فقد استخدموا تقنية تُدعى بـ(DTI) أو التصوير الموسع للانتشار والتي تتعقب تدفق المياه عبر الدماغ لقياس الاختلافات في المادة البيضاء بين ثنائيي اللغة الذين يتحدثون الإسبانية والإنجليزية معاً وبين أُحاديها والذين يمارسون اللغة الإنجليزية فقط وجميعهم يعيشون في الولايات المتحدة، وقد استعملوا تلك البيانات بالتزامن مع تقارير القياس الذاتية في اللغة الثانية لمهارتي الاستماع والتحدث لتحليل تأثير هاتين المهارتين في التجارب على المادة البيضاء في الدماغ.
وقد نتساءل عن سبب التركيز على المادة البيضاء تحديداً، والتي تضم في تركيبها الأساسي كلاً من المحاور والمقذوفات النحيلة والطويلة القادرة على إرسال إشارات عبر الخلية العصبية، فإن دراستها ماهي إلا وسيلة لقياس الترابط بين مناطق الدماغ المختلفة، وإذا ما نظرنا للدماغ البشري على أنه كأس ماء فإن الجمجمة هي الكأس نفسه ويمكننا تشبيه المادة البيضاء بمصاصة -الشرب- في ذلك الكأس، والتي تُضَيق تدفق المياه في الاتجاه الذي تسير فيه المحاور، أما الـFA التباين الجزئي يحدد الشكل العام لتدفق المياه في الدماغ ،وهو أحد أشهر طُرق قياس التصوير واسعة الانتشار، أما طريقة الانتشار الإشعاعي أو الـRD فهو تقنية أكثر دقة تساعد الباحثين في تحديد النقاط الضعيفة على جوانب المصاصة وهي المناطق التي قد تتسرب منها المياه، ففي الأدمغة السليمة يكون مستوى الـ FA أو التباين الجزئي عاليا وهو التدفق الأحادي الذي يسير باتجاه واحد، ويكون الانتشار الإشعاعي أو الـRD منخفضاً وهو تسرب المياه في اتجاهات أخرى.
ولقد وجدت كوهل وزملائها أن لدى أحاديي اللغة انخفاضاً في مستوى الانتشار الإشعاعي (RD) لكن هناك مستوى عال من التباين الجزئي في مناطق متعددة من المادة البيضاء أكثر من تلك التي لدى ثنائي اللغة وهذه ميزة لأحادي اللغة، إلا أن الموضوع لا يؤخذ بهذه الطريق، فعند دراسة تأثير تجارب ثنائيي اللغة الفعلية أو قياس الوقت المحدد للوقت الذي يستغرقه الاستماع للغة الثانية و التحدث بها، وجدوا أن هذه التجارب قللت من الفوارق بين ثنائي اللغة وأحاديها.
وإن الوقت الذي يقضيه الفرد في الاستماع للغة الثانية مرتبط بتدني الانتشار الإشعاعي في المناطق المسؤولة عن الإنتاج اللغوي في الدماغ (الجانب الأمامي من الحزمة الجبهية القذالية السفلية)، أما التدفق الأحادي فيرتفع في مناطق الدماغ المسؤولة عن فهم اللغة واستيعابها وذلك عند التحدث باللغة الثانية.
ومن الناحية العلمية فإن لدى ثنائيي اللغة وأحاديها نفس المستوى من المادة البيضاء وذلك ما أثبته الباحثون عند متابعة التجارب ومقارنتها، وهذا التماثل يظهر لدى ثنائيي اللغة ممن قضوا على الأقل أربع سنوات من عمرهم في الولايات المتحدة وتظهر الاختلافات في أولئك الذين لم يمكثوا فيها سوى سنتين أو أقل .
ولقد توَصَلتْ هذه الدراسة في نتائجها إلا أن ثنائية اللغة ماهي إلا أحد العوامل الكثيرة المؤثرة في الدماغ، ومن تلك المؤثرات أن غالبية ثنائيي اللغة مهاجرين أما أكثر أحاديي اللغة فهم مواطنين، وأن الإجهاد والتغذية المبكرة ما هما إلا عاملان مؤثران في المستوى الأساسي للمادة البيضاء وهذا يختلف باختلاف البلدان، وإن المقارنة بين ثنائيي اللغة من المهاجرين وأحاديها من المواطنين تُعد مقارنةً ظالمة، فالتركيز على الفروقات العامة لايثري المجال، لذا علينا التعامل مع الاختلافات بين أصحاب اللغة الواحدة وثنائيها بعناية والاهتمام بتأثير تجارب ثنائيي اللغة، لأن الحصول على مادة بيضاء صحية لايكون إلا بممارسة اللغة أخرى.
وتعزز هذه الدراسة أهمية ثنائية اللغة فليس من المنطق أن نجمع كل الدراسات حولها ونعممها إذ يجب علينا أن نأخذ بالاعتبار المجتمعات التي يتفاعلون معها والخلفيات الثقافية المتعددة التي ينتمي لها أصحاب اللغتين، بعيداً عن النتائج المعرفية المعلنة ومزاياها التشريحية، ففي كل سنة يتعلم ملايين الناس اللغة الإنجليزية بجانب لغاتهم الأصلية لأسباب مختلفة، (فعدد متعلمي اللغة الإنجليزية يفوق عدد الإنجليزيين بثلاث مرات ).
وإن تجربتي في تعلم اللغة الإسبانية عززت اهتمامي بالعلوم المعرفية واللغات عموماً، ولم أكن لأكتب هذا المقال لو أني اكتفيت بلغتي الإنجليزية دون غيرها، فثنائية اللغة ميزة لا جدال فيها وينبغي علينا أن نبحث باستمرار عن تأثير اللغة الثانية في الدماغ.