السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:45 صباحاً
البشر هم أعداؤنا، لهذا نريد قتلهم.
مخيم كوتوبالونج للاجئين , قرب بازار كوكس , بنجلاديش .
يتوافد شعب الروهينغا الفارين من العنف إلى بنجلاديش منذ 25 / أغسطس 2017 .
تخطى عدد اللاجئين الروهينغا في بنجلاديش حسب آخر إحصائية 600 ألف لاجئ مسلم فَروا من أعمال العنف في ميانمار. بدأت الممارسات الوحشية في ولاية راخين بعد أن قامت قوات الأمن الحكومية بحملة " تطهير عرقي " لسكان الروهينغا, ردًا على الهجمات التي شنتها القوات المسلحة التابعة لجيش " أراكان " على عدد من القواعد العسكرية الحكومية. تعرض شعب الروهينغا لانتهاكات خطيرة من حرق جماعي لآلاف القرى، والتعذيب، والعنف الجنسي والقتل غير المشرع.
ما الذي دفع قوات الأمن الحكومية للخوض في حملة التطهير العرقي؟ هل يفشل هؤلاء في الاعتراف بالسمات البشرية الفطرية لضحاياهم؟ أم أن أفعالهم تبرر فائضًا في أخلاقياتهم, ذلك الفائض الذي لا يمكن إرضاؤه إلا بمعاقبة البشر أمثالهم؟ ما الحافز الذي يدفعهم لمثل ذلك العنف؟
التفسير الشائع لمثل تلك الأعمال الوحشية هو أن الجُناة يعتبرون ضحاياهم حيوانات أو أشياء لا قيمة لها, فمن السهل إيذاء حيوان ضعيف أو كسر شيء لا قيمة له مقارنة بالبشر, فهذا يجعلهم أقل عرضة للندم عند تعذيب ضحاياهم، وقتلهم، وارتكاب انتهاكات خطيرة بحقهم. احتُجَ بذلك التفسير, (أي التجرد من الإنسانية) , لتسويغ أعمال العنف المختلفة, بدءًا من هولوكوست النازي، وتعذيب سجناء أبو غريب، وصولًا إلى التطهير العرقي الذي تعرضت له أقلية الروهينغا، إلا أن آخر دراسة أجريناها تشير إلى أن هذا التفسير ليس صحيحًا.
فالفشل في الاعتراف بإنسانية شخص ما يفسر شعورنا باللامبالاة تجاهه؛ ولكنه لا يفسر الرغبة المتولدة بإيذائه، والتلذذ بمشاهدته يعاني. لفهم تلك الرغبة المتولدة عند الجناة في التسبب بالألم للآخرين وإيذائهم علينا النظر في الباعث الرئيس, (أي الأخلاق) . فكما أظهرت الدراسة الأخيرة المنشورة في محضر الأكاديمية الوطنية للعلوم 2017 والتي ذكرت آنفًا, أن التجرُد من الإنسانية يعتبر مسوغًا لأعمال العنف الهادف, فالناس لا يرغبون بإيذاء ضحاياهم إلا إن كانت لهم غايات محددة تدفعهم لذلك (كإطلاق النار على شخص غريب لسرقة أمواله). ومع ذلك فإن التجرد من الإنسانية لا يجرنا لارتكاب العنف الأخلاقي , حيث تتولد الرغبة في إيذاء من يستحقون العقاب (كإطلاق النار على شريكك الخائن) . تظهر الدراسة أن العنف الأخلاقي يظهر فقط عندما يعتبر الجناة أن ضحاياهم بشر بخصائص بشرية قادرون على التفكير والإحساس والشعور بالألم والمعاناة.
هذا لا يعني أن مرتكبي هذه الجرائم لا يعتنقون آراء متطرفة وعنصرية تصل بهم إلى ازدراء ضحاياهم وإهانتهم واعتبارهم كالقرود والحيوانات الأخرى. ولكن بعد إجراء الدراسة تبين أن تجريد الضحايا من صفاتهم الإنسانية ليس له علاقة بالعنف الأخلاقي. ولنبرهن على ما توصلنا إليه من نتائج، سألنا عددًا من المشاركين عن مدى موافقتهم لأساليب العنف المختلفة كهجمات الطائرات المسيّرة، وعقوبة إعدام المجرمين، والأعمال الشّاقّة. ثم سألنا المشاركين فيما إذا كانوا يعتبرون الضحايا بشرًا مثلهم بغض النظر عما يحملونه من كراهية تجاههم، أي هل يدركون ويفكرون، وتعتريهم مشاعر الحزن والألم والغضب؟ وهل لديهم القدرة على الحب والعطاء كغيرهم؟
ما توصلنا إليه هو أن تجريد الضحايا من إنسانيتهم يعزز العنف الهادف وليس العنف الأخلاقي. فالأمريكيون الذين يعتبرون المدنيين العراقيين مجردين من الإنسانية كانوا أكثر دعمًا لهجمات الطائرات المسيرة، فسقوط الأبرياء ضحايا أثر جانبي في أثناء تعقب إرهابيي داعش يقلل من شعورهم بالذنب. فلا أحد يرغب في قتل شخص بريء دون مسوغ. وعلى العكس من ذلك، فإن تجريد إرهابيي داعش من إنسانيتهم لم يكن له تأثير في دعم المشاركين لتلك الهجمات. هذا يعني أن الناس يريدون بالفعل قتل الإرهابيين. فبتجريدهم من إنسانيتهم، كيف يمكن أن يدان الإرهابيون على جرائمهم وكيف لهم أن يشعروا بالألم الذي يستحقونه؟
كما قمنا بإجراء تجارب أخرى طلبنا فيها من المشاركين أن يتخيلوا أنفسهم يؤذون شخصًا ما إما لسلب أمواله، أو معاقبته على فعل غير أخلاقي. فبينت نتائج إحدى التجارب تأييدًا أقل من المشاركين لكسر إصبع شخص ما مقابل الحصول على مليون دولار عندما وُصف ذلك الشخص بإضفاء الصبغة الإنسانية عليه (مثل: جون شاب طموح وخيالي؛ لكنه سريع الغضب وغير مستقر نفسيًا) تمامًا كما تزعم نظرية التجرّد من الإنسانية. ومع ذلك، فإن إضفاء الطابع الإنساني على ذلك الشخص لا يغير شيئًا في دعمهم لكسر إصبعه إن كان شخصًا قوّادًا يستغل الفتيات القصّر لممارسة الدعارة. وفي تجربة أخرى عرضنا مبلغًا ماليًا أقل مقابل كسر إصبع شخص ما والحصول على ١٠ دولار فقط، فوجدنا أن المشاركين تخيلوا الشخص الذي أمامهم أقل منهم إنسانية وهذا ما يدعم نظرية تجريد الضحايا من إنسانيتهم للتخفيف من الشعور بالذنب عند إيذائهم. وعلي النقيض من ذلك، وجدنا أن المشاركين الذين تخيلوا ذلك الشخص مجرمًا يستحق العقاب على أفعاله غير الأخلاقية في اعتقادهم، لم يغير نظرتهم تجاه إنسانيته بل اعتبروه إنسانًا يستحق العقوبة. وفي بعض الحالات، تبين أن المشاركين يبررون إيذائهم للمجرم باعتباره أكثر إنسانية.
معظم الناس يؤمنون أن العنف سببه انهيار في مُثُلنا الأخلاقية وأحاسيسنا. فللحد من العنف، حسب ذلك الادعاء، علينا فقط أن نسترجع إحساسنا بالمبادئ الأخلاقية بتعاطفنا مع الضحايا. فلو كان بإمكاننا اعتبارهم بشرًا مثلنا، فلن نقوم بإيذائهم؛ لكن ما توصلنا إليه في البحث يفترض أن ذلك غير حقيقي. ففي حالات العنف الأخلاقي، تفترض أبحاثنا أنّ تدخُّل إحساسنا الأخلاقي هو ما يسبب العدوان. فعندما قامت قوات الأمن الحكومية في ميانمار بزراعة حقول الألغام على حدود بنجلاديش في محاولة منهم لقتل أقلية الروهينغا المسلمة الفارِّين من أعمال العنف، كان الدافع الرئيس لممارساتهم الوحشية هو الغضب الأخلاقي تجاه عدو شرير يحمل طابعًا إنسانيًا، ولم يكن التجرد من الإنسانية.
هل يعني ذلك أن تجريد الضحية من الإنسانية ليس له دور في العنف؟ حتمًا لا. فشعور اللامبالاة تجاه الضحايا عند تجريدهم من إنسانيتهم هو ما يسمح لكثير من الناس بتجاهل ما يحدث من فظائع وجرائم بحق الإنسانية. ففي كل مرة, تفشل زعيمة ميانمار أون سان سو تشي في إدانة الأعمال الوحشية التي ترتكبها قوات السلطة أو تنفي وجود حملة تطهير عرقي للأقلية المسلمة في البلاد . التجريد من الإنسانية قد لا يدفع قوات السلطة لقتل الأقلية الروهينغا، بل هو ما يجعلنا نقف متفرجين أمام ما يحدث من ممارسات وحشية.
ظهرت أول نسخة من هذه القصة في مجلة “علماء السلوك “ الإلكترونية في أغسطس ٢٠١٧ .