السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:38 صباحاً
هربرت جورج ويلز ضد جورج أورويل:
لازالت شكوكهما مستمرة حتى اليوم حول ما إذا كان العلم هو أقوى آمال البشرية مستمرة
’رجلٌ يحارب الجهل’ – ما هو دور العلم؟
في خضم اكتشافات واختراعات العلم الحديثة البارزة –مثلًا، 2017 وحدها أخرجت تعديل جينات الجنين الوراثيّة، وموقع قارّة ثامنة تحت المحيط، وإمكانيّة إعادة استعمال المعززات الصاروخية الخاصة بالسفن الفضائيّة- من السهل أن ننسى وجود شكوكٍ حول قدرة العلم على الحفاظ على الجنس البشري. هربرت جورج ويلز و جورج أورويل، اثنان من أشهر الشخصيّات الأدبيّة للقرن العشرين، ناقشا هذا الموضوع تحديدًا قبل 75 عامًا.
كان ويلز -أحدُ مُنشئي مفهوم الخيال العلمي- مؤمنًا بشدّة بقدرات العلم. أورويل على الصعيد الآخر كان ينظر إلى العلم بعين الشكّ مشيرًا إلى محدوديّته كدليل لأمور البشريّة.
على الرغم من أن شكوك ويلز وأورويل كانت في عصر النازيّة، لا زال صدى آرائهم يتردد في الشكوك الحديثة حول العلم والسياسات. على سبيل المثال في عام 2013، عالم الأحياء ريتشارد داوكنز سوّغ الثقة بالعلم بهذه الأقوال: "العلم يعمل، الطائرات تطير، السيّارات تقود، الحاسباتُ تحسب. إن جعلت العِلم أساس العلاج، ستُعالجُ الناس. إن جعلت العِلم أساس تصميم الطائرات، ستطير الطائرات. إنه مجدٍ ...". من جهة أخرى بيتر بيدوار الحاصل على جائزة نوبل قد ناقش علانية أن هنالك الكثير من الأسئلة المهمة التي لا يستطيع العلمُ إجابتها، مثل "ما هو الهدف من الحياة؟" و "لأي الأغراض يجب أن يُستخدمَ العلم؟"
التحديات التي تواجه العالم كتغيُّر المناخ، وإطعام بليوني إنسان يفتقرون لمصدر غذاء مؤمَّن، قد يكون من الطبيعيّ اعتبارُ العلم أمل الإنسانيّة الوحيد، لكن أن يُتأمَّل من العلم ما لا يمكنه أن يُعطي هو في الحقيقة بخطورة الفشل في الإقرار بقدراته العظيمة.
قصص هربرت جورج ويلز الخيالية جسّدت تفاؤلًا علميّا.
ويلز: إيمانٌ تامٌّ بالعلم
وُلد هيربرت جورج ويلز في كينت في إنجلترا عام 1866. بعد حادث في طفولته أرداهُ طريح الفراش اكتشف ويلز حبّه للقراءة، ودرَس ودرّس العلوم على يد عالم الأحياء توماس هكسلي حائزًا بذلك على شهادة في علم الأحياء، وليزيد دخله عمل كصحفيّ مستقلّ ناشرًا كتابهُ الأول "آلة الزمن" في عام 1895.
اليوم يُعرف ويلز –الذي توفّي عام 1946- بكاتبِ قصص خيال علميّ، ومن أبرز أعماله "جزيرة الدكتور مورو" و"الرجل الغير مرئيّ" و"حرب العوالم"؛ لكن في أيّامه كان ويلز معروفًا أكثر بصفته مفكَرًا مشهورًا له توجهاته السياسية المتحررة وآمال عالية فيما يتعلق بالعلم.
تنبأ ويلز بالعديد من معالم التطورات العلمية للقرن العشرين، بما فيها الطائرات والسفر للفضاء والقنبلة الذّريّة. وقد رثى في عمله "اكتشاف المستقبل" "القوّة المُعمية للماضي على عقولنا"، وحاجَّ أنه على المتعلمين استبدال الكلاسيكيات بالعِلم منتجين بذلك قادةً بإمكانهم التّهكن بالماضي كما يتوقّعون أطوار القمر.
حماسة ويلز للعِلم كان لها مضامين سياسّية، تأمُّلاتُه للتدمير الذاتي للجنس البشري في رواياته، أيقن ويلز أن أفضل آمال الإنسانية يكمن في خلق حكومة عالم واحدة تحت إشراف العلماء والمهندسين محتجًّا بأنه على البشر وضع الدين والجنسيّة جانبًا ووضع ثقتهم في قوة الخبراء المتّزنين المدرَّبين علميًّا.
كان لِأورويل نظرة سلبيّة لقدرة العِلم.
أورويل: مرتابٌ من النّزعة الكماليّة
بعد حوالي أربعةِ عقدٍ من وفاة ويلز، وُلد جورج أورويل عام 1903 لأبٍ بريطاني يعمل موظفًا مدنيًّا في الهند، ترعرع في انجلترا وكان طفلًا كثير المرض، لكنّه أحبّ الكتابة منذ سنٍّ مبكرة؛ ولأنه درس في جامعة إتون فقد افتقد إلى المصادر ليكمل دراسته وأصبح شرطيًّا في بورما لخمس سنواتٍ.
بعد عودته لإنجلترا بدأ يعمل صحفيًا، كانت كتاباته عن مواضيع مثل حياة الفُقراء العاملين، والجانب المُظلم من الاستعمار، كما أنه كتب كميّة لا بأس بها في النقد الأدبيّ، على مشارف نهاية حياته نشر العملين الذَين يُعرف بهما: "مزرعة الحيوان" و"1984".
يُعد أورويل اليوم واحدًا من أعظم كُتّاب القرن العشرين، كلمة "أورويليّ" -بالإنجليزية Orwellian- دخلت اللغة لتصف الحكومات الاستبداديّة التي تستخدم المراقبة والتضليل والدّعاية للتلاعب برأي العامّة، أورويل طرح أيضًا تعبيرات مثل (douplethink) الذي يعني تقبُّل فكرتين مُتناقضتين، thought police)) ويعني الجماعة التي تحاول التحكُّم بآراء ومعتقدات النّاس و (big brother) وتطلق على الشخص أو المنظّمة التي تمارس سُلطة دكتاتوريّة على الآخرين.
كان توجّه أورويل أقل من ويلز من ناحية الاهتمام السّامي بالجنس البشري، متحدّثًا عن النّزعة الكمالية (وهي الرغبة في خلق مجتمع مثالي) كتب في مقالته "لمَ لا يؤمن علماء الاجتماع بالمُتعة؟" إن مُحدثي فكرة الكماليّة كأنّهم "رجل يؤلمه سِنُّه، لذا يعتقد أن السعادة تكمن في عدم وجود ألم السِّن ... أيًّا كان من يحاول تصوّر المِثاليّة فهو ببساطة يكشِف عن فراغِه".
العِلم وحده ليس كافيًا:
لم يكن أورويل خجولًا فيما يتعلق بانتقاد نظرة صديقه ويلز العلميّة والسّياسيّة، في مقالته "ما هو العلم؟" وصف حماسة ويلز للتعليم العلميّ بأنها في غير محلّها لأسباب: أحدها هو لأن حماسته ارتكزت على تصوّرات أن اليافعين عليهم أن يتعلموا أكثر عن النشاط الإشعاعي أو النجوم بدلًا من أن يتعلموا كيف "يفكرون بطريقة صحيحة".
رفض أورويل أيضا فِكر ويل في أن التدريب العلمي يرفع ذكاءَ وتحصيل الشخص العلميّ في كل الموادّ أكثر من شخص يفتقر إليه، واحتجّ أورويل بأن هذا النوع من الأفكار المنتشرة أدت بطبيعة الحال إلى اعتقاد أن العالم سيكون مكانًا أفضل فقط إذا "كان تحت تحكّم العلماء"، الفِكر الذي يرفضه قطعيًّا.
أخصائيون علميّون لم يمنعوا بعض العلماء من أن ينحازوا للحماسة النازيّة.
أشار أورويل لحقيقة أن مجتمع العلماء الألماني قد تصدّوا بضعف شديد لهتلر وأخرجوا العديد من الرجال الموهوبين للقيام ببحوث الزيت الصناعي والصواريخ والقنابل الذرّية، "لولاهم" كتب أورويل "لما بُنيت آلة الحرب الألمانيّة على الإطلاق"، ما يزيدهم إدانة هو أن العديد من العلماء قد سكتوا عن "فظاعة العلم العنصريّ‘".
اعتقد أورويل أن التعليم العلميّ يجب ألّا يركّز على تخصص معين مثل: الفيزياء والكيمياء والأحياء، وبدلًا من ذلك يجب أن يركز على زرع "عادات عقليّة متّزنة، ومشكّكَة، وتجريبيّة"، وبدلًا من أن نعلّم العامّة تعليمًا علميًّا فقط، علينا أن نتذكر أن "العلماءَ أنفسَهم سيستفيدون من القليل من التعليم" في العلوم المتعلقة "بالتاريخ أو الأدب أو الفنّ".
أورويل انتقاديّ أكثر فيما يتعلق بدور العلماء في السياسة، في مقالته "ويلز وهتلر وحالُ العالم" عامل أورويل النداءات بشأن حكومة عالمٍ موحّدة على أنها ادعاءات مثاليّة لا فائدة منه، السبب الأكبر أنه "لن تفكّر ولا واحدة من أعظم خمس قوّات عسكريّة في الموافقة على شيء كهذا"،
على الرغم من وجود رجالٍ ذوي ألبابٍ قد حملوا نفس الفكر لعدّة عقود؛ لكنهم "بلا قوّة، وليسوا على استعدادٍ للتضحية بأنفسهم".
بعيدًا عن النزعة القوميّة اللعينة، التي يقدّرها أورويل فقط إلى هذا الحد: "الأمر الذي أبقى إنجلترا قائمة خلال العام الماضي" لكنّ "المشاعر الوطنيّة متأصّلة بلا سبب، الشعور الرّاسخ عند المُتحدثين باللغة الإنجليزيّة إنهم أعلى مكانةً من الأجانب؟"، كتب أورويل أن الطاقة التي تشكّل العالم تنبع من شعور أن "الأذكياء يسقطون كالآثار".
وعد العلم وحدوده: الشكوك مستمرّة
المُفارقة بين آراء هاتين الشخصيتين العظيمتين يجب ألّا يُغالى فيها، في حين أن ويلز كان يدافع عن العلم، إلّا أنه يعلم أن ازدهار العلم قد يفضي أيضًا إلى تعاسة الإنسانيّة، فقد تنبأ بالتطوّر الهائل للقوة العسكريّة المدمّرة الكامنة في القنبلة الذّرّيّة، إضافةً إلى صنع تقنيات قد تخترق الخصوصيّة.
بالنسبة لأورويل فقد عرف ذلك دون بحث علميّ أو اختراع تقنيّ، لم يستطع البريطانيون مواكبة التطور العسكريّ الألمانيّ المستمر، إلا أن أورويل لم يفكر لثانية أن رجال دولته عليهم العودة إلى الوراء واستخدام الحفّارات والمذرات أسلحة للحرب، كما أنه دعا إلى اقتناء الرّجال وتعلّمهم كيفية استخدام البنادق.
لذلك نظرة ويلز ونظرة أورويل لقدرات العلم لم تنتهِ بتناقض تامّ، بالنسبة لويلز عادات العقل العلميّة هي بالضبط الضرورة التي بها ستتوازن سياسة العالم، بالنسبة لأورويل على الصعيد الآخر التفكير العلميّ البحت جعل البشر عرضة للاحتيال والتّلاعب مما يزرع بذور الاستبداد. الكثير من الآمال تُعقد على العلم؛ لكن نظرة موضوعية صادقة ستؤكد على محدوديّة العلم.