الخميس , 03 أكتوبر 2024 - 29 ربيع الأول 1446 هـ 5:28 مساءً
ما فعله المترجمون العرب
كان أكثر من مجرد حفظ للفلسفة اليونانية
كتب الفلاسفة في العصور الأوروبية القديمة باللغة اليونانية كثيرا، وكانت الفلسفة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالحضارة الهيلينية حتى بعد فتح الروم للبحر الأبيض المتوسط وزوال الوثنية، تعمق المفكرون الرومانيون المبرزون أمثال شيشرون وسينكا في الأدب اليوناني، حتى أن شيشرون سافر إلى أثينا تكريما لموطن أبطاله الفلاسفة، وبصراحة تجاوز الإمبراطور ماركوس أوريليوس الحد في كتابه التأملات بكتابته باللغة اليونانية، فحاول شيشرون وتبعه بوثيوس في البدء بكتابة الفلسفة باللغة اللاتينية ليصبح عُرفا، وخلال أوائل العصور الوسطى كان جزء من الفكر اليوناني متاحا باللاتينية بصورة غير مباشرة.
وفي مكان آخر في الجزء الشرقي من الإمبراطورية الرومانية حيث كان الحال أفضل، تمكن البيزنطنيون المتحدثون باليونانية أن يستمروا في قراءة أعمال أفلاطون وأرسطو بلغتها الأصلية، أما الفلاسفة في العالم الإسلامي فقد وصلوا مرحلة مختلفة في احتضان الفكر الهيليني؛ ففي بغداد في القرن العاشر تمكّن القراء العرب من قراءة أعمال أرسطو بقدر قراءتهم له باللغة الإنجليزية اليوم.
والفضل يعود إلى حركة الترجمة المموّلة في فترة الخلافة العباسية، ابتدأت الحركة في النصف الثاني من القرن الثامن بإشراف عالي من الخليفة وعائلته، وكان هدف هذه الحركة هو إدخال الفلسفة اليونانية وعلومها في الثقافة الإسلامية، وكانت الإمبراطورية الإسلامية تملك الموارد اللازمة لتحقيق هذا الهدف، ليست الموارد المادية فحسب بل وكذلك الثقافية. بقيت اليونانية كلغة للنشاط الفكري بين النصارى في سوريا منذ آخر العصور القديمة وحتى نهضة الإسلام، لذلك لجأ المسلمون الأرستقراطيون للنصارى عندما قرروا ترجمة العلوم والفلسفة اليونانية، ففي بعض الأحيان كان يترجم العمل اليوناني إلى اللغة السريانية ومن ثم إلى العربية، فكان ذلك عبارة عن الانتقال من مجموعة لغوية إلى أخرى والذي يعد تحديا كبيرا: فكان أشبه بالترجمة من اللغة الفنلندية إلى اللغة الإنجليزية بدلا من اللغة اللاتينية إلى اللغة الإنجليزية، كذلك في البداية لم يكن هنالك مصطلحات للتعبير عن الأفكار الفلسفية بالعربية.
ما الذي دفع السياسيين في المجتمع العباسي لدعم هذا المشروع الضخم والصعب؟ لا شك أن جزءا من الجواب هو الاستفادة الشاملة من 'المجموعة العلمية' وهي النصوص الأساسية للتخصصات التي لها تطبيقات عملية واضحة مثل الهندسة والطب، ولكن ذلك لا يفسّر لماذا يكافئون المترجم بسخاء لكي يترجم ميتافيزيقيا أرسطو أو تاسوعات أفلوطين إلى اللغة العربية، يقترح كبار الباحثين في حركة الترجمة من اللغة اليونانية إلى العربية مثل ديمتري غوتاس في كتابه الفكر اليوناني والثقافة العربية (1998) أن الدافع وراء ذلك كان سياسيا بحتا، كان يريد الخليفة أن يؤسس هيمنة ثقافية تنافس الثقافة الفارسية والثقافة البيزنطينية المجاورة، فأراد المجتمع العباسي أن يظهر قدرته على الحفاظ على الثقافة الهيلينية أفضل من البيزنطنيين المتحدثين باليونانية، المضللين بانعدام منطقية اللاهوت النصراني كما كانوا من قبل.
لقد وجد المفكرون المسلمون مواردا في النصوص اليونانية تدافع عن دينهم وتساعد على فهمه فهما أفضل، وأحد أولئك الأوائل الذين تبنوا هذه الاحتمالية هو الكندي والذي يعتبر أول فيلسوف يكتب باللغة العربية (توفي حوالي سنة 870 قبل الميلاد)، وهو عالم مسلم ثري تنقل في بيت الحكمة وأشرف على نشاط العلماء المسيحيين الذين يستطيعون الترجمة من اليونانية إلى العربية كانت النتائج متفاوتة، فحلقة ترجمة ميتافيزيقيا أرسطو تكاد تكون غير مفهومة في بعض الأحيان (ولكي نكون منصفين نسوّغ بأن الميتافيزيقيا اليونانية كذلك غير واضحة) لكن ترجماتهم لكتابات أفلوطين غالبا ما تتوسع في الصياغة الحرة وإضافة المعلومات الجديدة.
وهنالك مثال مشوق لأحد سمات الترجمات من اللغة اليونانية إلى العربية وربما الترجمات الفلسفية جميعها، إن الذين ترجموا الفلسفة من لغة أجنبية يعلمون أن محاولة قراءة الترجمة يتطلب من القارئ الفهم العميق لما يقرأه، فيكون المترجم في موضع حرج في تخير كيفية ترجمة النص المصدر إلى النص الهدف، وحينها يكون القارئ (الذي قد لا يستطيع قراءة النص الأصلي أو لا يمكنه الوصول إليه) بين يدي المترجم واختياراته.
وهنا مثالي المفضل على ما سبق، يستخدم أرسطو الكلمة اليونانية eidos والتي تعني "form" كأن تقول "المواد مصنوعة من صورة ومادة" وكذلك تعني "species" بمعنى "الإنسان نوع يندرج تحت فصيلة الحيوان" ولكن اللغة العربية كاللغة الإنجليزية تملك معنيين مختلفين للكلمة ذاتهاform) تعني صورة، species وتعني نوع) ولذلك ينبغي على المترجمين العرب في كل مرة يمرّوا على كلمة eidos أن يكتشفوا إلامَ يشير أرسطو من هذين المعنيين، أحيانا يكون ذلك جليا ولكن أحيانا لا يكون كذلك، وفي المقابل تتعدى ترجمة فلسفة أفلوطين للعربية مثل هذه القرارات الضرورية للمصطلحات حتى تصل إلى عمق النص، تعيد استعمال الفكر الأفلاطوني الجديد في أن المبدأ الأول الأعلى والبسيط هو الخالق العظيم للأديان الإبراهيمية، وذلك يساعد على إظهار ارتباط فلسفة أفلوطين بعلم اللاهوت التوحيدي.
ما هو دور الكندي بذاته في كل ما سبق؟ بصراحة لسنا متأكدين كليا، ولكن يبدو لنا بأنه لم يترجم بنفسه وقد لا يكون ضليعا في اليونانية، ولكنه أُرِّخ بأنه "صحح" فلسفة أفلوطين العربية وشمل تصحيحه إضافة أفكاره الخاصة إلى النص، يتضح لنا أن الكندي ومعاونيه كانوا يظنون أن الترجمة "الصحيحة" هي التي تعكس الحقيقة وليست تلك التي تنقل النص المصدر بكل أمانة إلى النص الهدف.
ولكن لم يتوقف الكندي عند ذلك بل أنه كتب سلسلة من الأعمال المستقلة وغالبا كانت على هيئة خطابات أو رسائل إلى مؤيديه من ضمنهم الخليفة بعينه، وشرحت هذه الرسائل أهمية وصلاحية الأفكار اليونانية، وكيف تتلاءم هذه الأفكار مع شؤون الإسلام في القرن التاسع، فكان الكندي حلقة وصل بين الفكر الهيليني والفكر الإسلامي، ولكن لا يعني أنه اتبع الأسلاف القدماء الذين كتبوا باليونانية بشكل أعمى، بل إن أصالة حلقة الكندي تكمن في اتخاذه للأفكار الهيلنية وأقلمتها، فعندما كان يحاول بناء هوية إله القرآن استنادا على المبدأ الأول لأرسطو وأفلوطين فإنه قام بذلك باستخدام ترجمات كانت تقرّ بأن المبدأ الأول هو الخالق. كان الكندي يعلم ما قد ننساه اليوم، ألا وهو أن ترجمة الأعمال الفلسفية قد تكون طريقة فعالة لخلق فلسفة.