الخميس , 05 ديسمبر 2024 - 4 جمادي ثاني 1446 هـ 6:07 صباحاً
موت اللغات
تحمل اللغات المهددة بالاندثار قيمة عاطفية للبشر، لكن هل هناك أسباب عقلانية فلسفية تبرر الحفاظ عليها؟
شهد عام 2010 وفاة بوا سينيور، التي تُعتبر آخر متحدثة حية للغة آكا-بو (Aka-Bo)، وهي اللغة الأصلية لقبائل جزر أندمان في خليج البنغال، وأشارت التقارير الإخبارية التي تحدثت عن وفاة بوا سينيور إلى أنها كانت إحدى الناجين القلائل من كارثة تسونامي التي حدثت عام 2004– والتي قيل أن شيوخ هذه القبيلة وكبارها تنبأوا بحدوثها– ونجت من الاحتلال الياباني عام 1942، ثم نجت كذلك من السياسات الوحشية التي مارسها المستعمرون البريطانيون على وطنها؛ لكنها للأسف لم تنجو أخيرًا من العزلة التي فرضتها عليها لغتها كونها آخر المتحدثين بها؛ حيث تقول عالمة اللغويات أنفيتا آبي، التي عرفت بوا سينيور لسنوات عديدة: "بعد وفاة والديها، أصبحت بوا آخر المتحدثين بلغة آكا-بو لمدة ثلاثين إلى أربعين سنة، وكثيرًا ما كانت وحيدة بسبب عائق اللغة مما جعلها تتعلم النسخة الأندامانية للغة الهندية من أجل التواصل مع الآخرين".
دائمًا ما تكون قصص اندثار اللغات قصصًا مأساوية وذات وقع حزين على المرء، لكن لماذا يحدث ذلك؟ فلغة آكا-بو مثل العديد من اللغات المنقرضة الأخرى التي لم يحدث موتها أي فارق في حياة الغالبية العظمى من الناس، مع ذلك لا تزال الإنسانية تشعر أن موت لغة ما يُفقدها شيئًا قيمًا وعزيزًا على نفسها.
من جانب آخر؛ يقابل هذا الموقف رأي يعتبر أن الحفاظ على لغات الأقليات مجرد مضيعة للوقت والموارد؛ لذلك كتبت هذا المقال لمحاولة فهم هذه المواقف المتضاربة بشأن موت اللغات.
يتمثل أبسط تعريف للغة الأقلية في أنها اللغة التي يتحدث بها أقل من نصف سكان بعض البلدان أو المناطق، وهذا التعريف يجعل اللغة الصينية (الماندرين) – أكثر اللغات استخدامًا في العالم – لغة أقلية في العديد من البلدان. وعادةً عندما نتحدث عن لغات الأقليات فإننا نعني تلك اللغات التي تعتبر لغات أقليات حتى في البلدان التي يتحدث بها الناطقون بهذه اللغة على نطاق واسع، وهذا ما سنركز عليه هنا؛ لأننا سنهتم في هذا المقال بشأن لغات الأقليات المعرضة لخطر الانقراض، أو تلك اللغات المهددة بالاندثار لولا الجهود النشطة المبذولة للحفاظ عليها.
إن مشاعر الحزن التي تنتابنا عند موت إحدى اللغات هي أمر معقد بلا شك؛ لأن وفاة بوا سينيور لا يمثل اندثار لغة وحسب؛ بل يمثل أيضًا خسارة ثقافة كانت بوا جزءًا أصيلًا منها طوال حياتها، وهي ثقافة أصيلة حظيت باهتمام علماء اللغة وعلماء الإنسانيات، والتي كان انقراضها نتيجة الممارسات المجحفة والظالمة من الاضطهاد والعنف، بالإضافة إلى ذلك تعدّ فكرة وجود آخر شخص حي يتحدث بلغة ما فكرة تبعث على الحزن والتعاطف بحد ذاتها. حيث عانى بعض الناس مثل بوا سينيور من خسارة جميع من كانوا يستطيعون التكلم معهم بلغتهم الأم في ما مضى، ومن هنا نجد أن جميع هذه الأشياء– استمرار المعاناة الإنسانية حتى موت ثقافة كانت مزدهرة، والشعور بالوحدة، وفقدان الأحبة– أمور سيئة بحد ذاتها، بغض النظر عما إن كانت تتضمن موت إحدى اللغات أم لا.
فنفهم الآن أن جزءًا من الحزن الذي نشعر به عند موت إحدى اللغات لا علاقة له باللغة نفسها، ونلاحظ كذلك أن لغات الأغلبية المزدهرة لا تندرج في سياق القصص المأساوية؛ لذلك لا تثير مشاعرنا بنفس الطريقة التي تفعلها لغات الأقليات، وليس غريبًا أيضًا أن يستخف بعض الناس بموضوع لغات الأقليات باعتباره اهتمامًا عاطفيًا ليس إلا؛ فقد لاحظ الباحثون في مجال السياسات اللغوية أن لغات الأغلبية تميل إلى أن تكون ذات قيمة بسبب فائدتها وقدرتها على مسايرة التقدم، ووجدوا في الجانب الآخر أن بعض الناس يعتبرون لغات الأقليات عائقًا أمام هذا التقدم والتطور، وينظرون إلى القيمة التي يمنحها البعض لهذه اللغات الأقلية مجرد قيمة عاطفية فقط.
إننا نميل إلى الاعتقاد بأن "الإفراط العاطفي" ارتباط عاطفي مبالغ فيه تجاه شيء ما، وهو مبالغ فيه لأنه لا يعكس قيمة ذلك الشيء الذي تربطنا به هذه العلاقة، وهكذا نفهم وصف الفيلسوف الراحل جيرالد آلان كوهين ممحاة بالية عمرها ستة وأربعون عامًا اشتراها عندما أصبح محاضرًا للمرة الأولى بأنها شيء "لا يحب أن يخسره" لأننا جميعًا نقدر مثل هذه الأشياء– ممحاة رافقتنا لعقود من الزمن، ورسومات أطفالنا، وتذكرة قطار قديمة لرحلة قطعناها يومًا لرؤية شخص نحبه– التي لا قيمة لها عند الآخرين؛ لذلك إن كانت قيمة لغات الأقليات هي بالأساس قيمة عاطفية فلا بد أنها قيمة مشابهة لتلك التي كان الفيلسوف كوهين يمنحها لممحاته القديمة، وسيكون أمرًا فظيعًا أن يحطم أحدهم ممحاته أو يضيعها عمدًا، لكن يبقى من غير المعقول أن يتوقع كوهين من المجتمع استثمار موارد هائلة في المحافظة عليها، قد ينطبق الأمر نفسه على لغات الأقليات، حيث أن القيمة التي تشكلها هذه اللغات للبعض لا يبرر إلزام المجتمع ببذل جهود واسعة في سبيل الحفاظ على هذه اللغات.
لكن هذا المفهوم لقيمة لغات الأقليات عليه اعتراضان هما: أولًا: أن القيمة التي ترتبط بلغات الأقليات ليست قيمة عاطفية بحتة؛ فاللغات عموماً موضوع مثير علميًا، فهناك مجالات دراسية كاملة مخصصة لدراسة اللغات، وتفاصيل تاريخها وعلاقاتها مع اللغات الأخرى وعلاقاتها مع الثقافات التي وجدت فيها، وغيرها من المواضيع، إن فهم اللغات يساعدنا على فهم طريقة تفكيرنا أيضًا، حيث يعتقد البعض أن اللغة التي نتحدث بها تؤثر على بنات أفكارنا، بل يعتقدون حتى أن اللغة هي التي تجعل الفكر أمرًا ممكنًا. وهذا الادعاء يبني فرضياته على النظرية المسماة بنظرية "سابير –وورف" (Sapir-Whorf) التي وصفها اللغوي وعالم الإدراك ستيفن بينكر بأنها "خاطئة تمامًا".
ترتبط فرضية سابير وورف بمجموعة متنوعة من الأساطير والخرافات المشكوك في صحتها مثل: الاعتقاد السائد والخاطئ بأن لغة الإسكيمو تحتوي على عدد ضخم من الكلمات الدالة على الثلج، لكن فكرة الفرضية الأساسية ليست خاطئة كما يعتقد بينكر. ومع أنه لا يوجد سوى القليل من الأدلة التي تثبت استحالة حدوث الفكر بدون وجود اللغة، إلا أن هناك الكثير من الأدلة التي تثبت أن اللغة تؤثر على الطريقة التي نفكر بها وعلى طريقة اختبارنا للعالم وإدراكه. فعلى سبيل المثال، نجد أن الأفراد الذين يتحدثون لغتين، مثل أولئك الذين يتقنون الألمانية والإنجليزية، يصفون حركة الأشياء بشكل مختلف حسب اللغة التي يستخدمونها، أما ثنائيو اللغة ممن يتحدثون الإسبانية والسويدية فيعرضون مرور الوقت بطريقة مختلفة حسب اللغة التي يستخدمونها، ووجد الباحثون أن من يتحدثون الفارسية والهولندية يفهمون طبقات الصوت بشكل مختلف أيضًا. وعلى ما يبدو فإن حتى بينكر يجد علاقة قوية بين التفكير واللغة، حيث يعتقد أن الأفكار إنما تصاغ بلغتها الخاصة، وهو ما يدعوه بـ"لغة الفكر" (mentalese). مع هذا، لا يمكن حل هذا الجدال حول علاقة اللغة بالفكر وتسويته إلا تجريبيًا، وذلك من خلال دراسة أكبر عدد ممكن من اللغات ومتحدثيها أيضًا، وهذا ما يثبت أن اللغات قيّمة لأسباب غير عاطفية.
ثانيًا: لنلقي نظرة عن كثب على القيمة العاطفية، لماذا نسمي بعض طرق التقدير والتقييم بـ"العاطفية" أصلًا؟ إن تفحصنا هذه المسألة فسنجد أننا غالبًا ما نستخدم مفهوم القيمة العاطفية عندما نرى أحد الأشخاص يقدر أحد الأشياء لأن لديه علاقة شخصية تربطه به، كما في حالة كوهين وممحاته. يدعو كوهين هذا النوع من القيم بالقيمة الشخصية، وسنجد أن هذه الأشياء ذات القيم الشخصية لا تحظى إلا بقيمة ضئيلة جدًا عند الأشخاص الذين ليس لديهم أي علاقة شخصية معها، ومن طرق التقييم العاطفية الأخرى أيضًا هي تقدير قيمة شيء ما لأنه يرتبط بشخص أو شيء مهم بالنسبة لنا، وهذا النوع من القيمة هو سبب ازدهار سوق تواقيع المشاهير، وهو السبب الذي يجعل الآباء والأمهات حول العالم يلصقون رسوم أطفالهم على باب الثلاجة.
إن مصطلح "عاطفي" مصطلح مثير للازدراء نوعًا ما، حيث أننا كبشر ننظر إلى العاطفة بنظرة دونية مقارنة مع أنواع القيم الأخرى، كقيمة الفائدة العلمية على سبيل المثال، وإن كنا عادةً ما نسعد بالانغماس في الارتباطات العاطفية بين بعضنا عندما لا تسبب لنا هذه الارتباطات أي نوع من المضايقات. لا تشكل عاطفة الآباء تجاه رسومات أطفالهم أي مصدر إزعاج للآخرين بعكس شعور العاطفة تجاه لغات الأقليات التي غالبًا ما تسبب قلق للآخرين؛ نظرًا إلى ما تتطلبه هذه العاطفة من بذل مجهود وتوفير موارد لدعم لغات الأقليات، وهذا بدوره ما يفسر سبب تفكير بعض الناس في موضوع لغات الأقليات كأمر لا يستحق عناء النظر إليه.
مع هذا ليس من السهل تجاهل مفهوم "الإفراط العاطفي" أو إقصائه؛ فعند التمعن جيدًا سنجد أن ثقافتنا ترتكز على قيم تبدو إلى حد كبير قيمًا عاطفية: لننظر إلى المقارنة التالية: جميعنا نتفق أن إصرار كوهين كما فعل، عندما رفض استبدال ممحاته القديمة بواحدة جديدة أمرًا عاطفيًا، لكن عندما يرفض متحف اللوفر عرضًا من مزور محترف لاستبدال نسخة الموناليزا الأصلية بنسخة محسنة تزيل الضرر الذي لحق باللوحة الأصلية على مر السنوات، فمن غير المرجح أن ننظر إلى هذا القرار على أنه قرار عاطفي، بل على العكس من ذلك؛ سيصبح خبرًا صادمًا يتصدر عناوين الصحف العالمية إن قَبِلَ المتحف بعرض كهذا، إن مواقفنا المتناقضة المتمثلة في هاتين الحالتين تخفي حقيقة تشابه القيم المندرجة في كليهما، ففي كلتا الحالتين يضع البشر لأحد الأغراض لها تاريخ معين قيمة أعلى من عنصر آخر له تاريخ مختلف وحسن إلى حد ما.
نرى هذا النوع من القيم في كل مكان تقريبًا؛ فحينما نحافظ على أشياء مثل قلاع القرون الوسطى، وبرج أيفل، ومدرج روما القديم لا نفعل ذلك بسبب فائدتها بل بسبب أهميتها التاريخية والثقافية، لذلك عندما حطم مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) معروضات متحف يعود تاريخها إلى خمسة آلاف عام بعد استيلائهم على الموصل عام 2015، نفهم لماذا ركّز الصحفيون الغاضبون جل اهتمامهم على انتماء هذه التحف المدمرة إلى ثقافات قديمة ومندثرة، فالأهمية التاريخية والثقافية جزءًا من سبب تقديرنا للغات عمومًا، بل ويؤكد الفيلسوف نيل ليفي أن هذه الأهمية هي السبب الرئيسي للقيمة التي تحظى بها اللغات، ومع أن هذه الأساليب في تقييم الأشياء تُوصف بأنها عاطفية في بعض السياقات إلا أنه إن كانت لغات الأقليات ذات قيمة جزئية لأسباب عاطفية فقيمتها إذن تستدعي المحافظة عليها مثلما نفعل ذلك مع الأشياء ذات الأهمية التاريخية والثقافية.
وفي حين أن تقدير لغات الأقليات يُعتبر عادة أمرًا عاطفيًا، إلا أنه غالبا ما يحظى بالإعجاب والاحترام، يروي الفيلم الوثائقي "لا نزال نعيش هنا"، "We Still Live Here" 2010)) قصة إحياء لغة وامبانواج، وهي لغة أمريكية أصلية اندثرت منذ أكثر من قرن، احتفل هذا الفيلم بإعادة إحياء لغة وامبانواج، وبجهود جيسي ليتل دو بيرد التي تصدرت قائمة جهود إحياء لغة أسلافها الأصلية، والتي أصبحت ابنتها أول متحدثة أصلية لهذه اللغة التي بُعثت للحياة من جديد؛ نالت بيرد زمالة ماك آرثر لتنفيذ مشروعها، وجذب نجاحها تكريمًا واهتمامًا واسعًا من وسائل الإعلام، بما في ذلك جائزة "أبطال بيننا" (Heroes Among Us) التي منحها لها فريق بوسطن سيلتيكس لكرة السلة.
من ناحية أخرى وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، نجد كاترينا إيسو، البالغة من العمر ثمانية وأربعين عاما، وهي إحدى آخر ثلاثة متكلمين باقيين للغة ننج (N|uu)، وهي لغة جنوب أفريقية (تتشكّل على أصوات النّقر) فخلال العقد الماضي أنشأت كاترينا مدرسة داخل منزلها لتعليم الأطفال المحليين لغة ننج في محاولة للحفاظ عليها، وتقديرًا لجهودها حصلت كاترينا عام 2014 على وسام الشرف الباوباب الوطني (the Order of the Baobab) من رئيس البلاد جاكوب زوما، إن كلًا من إيسو وبيرد حظيتا بتغطية إخبارية عالمية بسبب الجهود التي بذلتاها في سبيل الحفاظ على لغاتهن الأصلية، والتي لاقت استحسانًا كبيرًا باعتبارها مساهمات إيجابية لمجتمعاتهم.
يفسر "الإفراط العاطفي" سبب أفضلية دعم اللغات الطبيعية المهددة بالاندثار بدلًا من دعم اللغة الكلينغونية المصطنعة على سبيل المثال.
من حسن الحظ أن الموقف العاطفي أمر يحظى بالاحترام؛ لأنه من دون وجود هذه القيمة العاطفية- أي أن نصب تركيزنا فقط على القيمة العلمية والأكاديمية للغات- سيصعب تفسير سبب تفضيلنا الحفاظ على لغات الأقليات الموجودة حاليًا على إعادة إحياء لغات مندثرة لا تجذب أي اهتمام اليوم، أو تفسير سبب دعمنا لغات طبيعية مهددة بالانقراض مثل لغات اللينكان (Lencan languages) في أمريكا الوسطى بدلًا من دعم لغات اصطناعية مثل لغة الفولابوك (Volapük) التي انشأها قس كاثوليكي روماني في ألمانيا في القرن التاسع عشر، واللغة الكلينغونية (لغة مخترعة شهيرة ظهرت في سلسلة أفلام حرب النجوم) أو تفسير سبب لماذا علينا الحفاظ على اللغات الطبيعية المهددة بالاندثار بدلًا من ابتكار لغات جديدة كليًا.
حتى الأشخاص الذين لا يتعاطفون مع الجهود الرامية لدعم لغات الأقليات، فسيتفهمون -كما أعتقد- رغبة أيسو في الحفاظ على لغة الننج أكثر من تفهمهم لدافع حملة تدعو لخلق لغة مصطنعة جديدة ونشرها بين البشر، حقا لا وجود لمثل هذه الحملات على الرغم من حقيقة أن إنشاء لغة جديدة والترويج لها سيكون أمرًا مثيرًا علميًا، إن سبب أفضلية الحفاظ على اللغات الطبيعية الموجودة حاليًا بدلًا من إنشاء لغات جديدة يرجع إلى القيمة التاريخية والشخصية التي تحظى بها الأولى، وهما تحديدًا نوع القيم المرتبطة بمفهوم الإفراط العاطفي.
نعم إن لغات الأقليات ذات قيمة حقًا، لكن هل يعني ذلك أنه ينبغي على المجتمعات الاستثمار في دعمها؟ كلا، ليس بالضرورة، قد تفوق أهمية عدم دعم لغات الأقليات قيمة اللغات نفسها، وهناك سببان يفسران ذلك: الأول: حجم العبء الذي سيلحق الناس في سبيل دعم لغات الأقليات، والسبب الثاني هو: فوائد تقليل التنوع اللغوي.
في حين أننا قد نقدّر لغات الأقليات لسبب مماثل لتقديرنا قيمة قلاع القرون الوسطى، إلا أن هناك اختلافًا كبيرًا في كيفية الاستمرار في الحفاظ على هذين النوعين من الأشياء، فالحفاظ على لغة أقلية من شأنه أن يُلقي حملًا ثقيلًا على الناس مقارنة بعبء الحفاظ على قلعة مثلًا، حيث يمكننا أن نُبقي على القلعة بسهولة عن طريق تعيين أشخاص يقومون بمهمة الحفاظ عليها بمقابل مادي، لكننا لا نستطيع الحفاظ على لغة الأقلية عن طريق دفع أموال للناس مقابل القيام بأعمال المحافظة عليها، بل بدلًا من ذلك علينا أن نحرص على أن يجعل الناس تلك اللغة جزءًا كبيرًا من حياتهم إن أرادوا أن يصبحوا بالفعل متحدثين أكفاء في تلك اللغة، ثمة أشخاص يفعلون ذلك من باب التطوع، لكن إن أردنا من اللغة أن تنمو وتتجاوز دائرة مجموعة من الأشخاص المتحمسين، يجب علينا إذًا فرض تغييرات في نمط حياة الناس سواء أشاءوا ذلك أم أبوا، وغالبًا ما سيتضمن هذا الأمر أيضًا وضع تشريعات تضمن تعلم الأطفال لغة الأقلية المعنية في المدارس.
إن وضع سياسات مثل هذه في مجال التعليم سيكون موضع خلاف وجدل، حيث سيعتقد بعض الآباء أنه من المستحسن لأطفالهم تعلم لغة أغلبية نافعة بدلًا من تعلم لغة أقلية أقل نفعًا لهم، إن لغات الأغلبية التي تدرس للناطقين بالإنجليزية- الفرنسية، والألمانية، والإسبانية، والإيطالية– ليست مفيدة كما يبدو لهم بادئ الأمر، لأن تعليم الطفل لغة ما لا يعد أمرًا مفيدًا إلا إن كان ذلك سيزيد من عدد الأشخاص الذي يمكنه التواصل معهم، ويساهم في زيادة عدد الأماكن التي بوسعه الذهاب إليها، ولربما يكون مفيدا أيضًا إن كانت تلك اللغة لغة بلد مجاور، ولأن اللغة الإنجليزية لغة تستخدم على نطاق واسع في بلدان مثل فرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا؛ يستطيع المتحدث بالإنجليزية لوحدها التواصل والتفاهم جيدًا عند زيارته لهذه الدول، ولكن في حالة قرر استثمار جهده في تعلم إحدى هذه اللغات، يمكنه أن يتوقع عائدًا ضئيلاً نسبيًا على استثماره من ناحية الفائدة.
إن كان الناس في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية مهتمين بتعليم أطفالهم لغات تعود على أطفالهم بالنفع، إذن من الأفضل أن نعلمهم لغات لا يجيد متحدثوها الأصليون اللغة الإنجليزية إلا قليلًا، مثل اللغة العربية ولغة الماندرين الصينية، التي لا تُدرس عادة في مدارس الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، حقًا هناك بعض المتحدثين الأصليين للغة الإنجليزية ممن يعتقدون أن تعلم أي لغة أجنبية أمر لا جدوى منه – انظر مثلا إلى المغتربين البريطانيين النمطيين الذين يعيشون في إسبانيا لكنهم لا يبذلون أي جهد لتعلم الإسبانية– لكن من الواضح أن الأهل الذين يدعمون فكرة تعليم أطفالهم بعض اللغات الأجنبية لا يؤيدون هذا الرأي، لذلك نجد أن الأشخاص الذين يدعمون تعلم الأطفال الناطقين باللغة الإنجليزية اللغة الفرنسية والألمانية والإسبانية ولكن لا يدعمون تعليمهم لغة أقلية محلية، سيواجهون صعوبة في الدفاع عن موقفهم حول موضوع الفائدة الفعلية لتعلم تلك اللغات الأغلبية، في تلك الحالة لماذا إذن يَنظر كثير من الناس إلى تعليم الأطفال الناطقين بالإنجليزية لغات الأغلبية مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية على أنه أمر حسن؟ أعتقد أن جواب ذلك هو الأسباب نفسها التي تجعل العديد من الناس يدّعون أنه من الجيد تعلم لغة أقلية: وهي تكوين فكرة عميقة عن ثقافة غير مألوفة، والقدرة على إظهار الاحترام من خلال التحدث إلى الناس بلغتهم المحلية، وصقل المهارات المعرفية التي نكتسبها عن طريق تعلم لغة ما، وغيرها من الأسباب.
وهناك نوع محدد من الإثراء يستقيه الأطفال– والناس عامة– من تعلم لغة أقلية مرتبطة بمجتمعهم، حيث يمنحهم ذلك نظرة جديدة على ثقافة مجتمعهم وتاريخه، كما يكتسبون القدرة على المشاركة في الجوانب الثقافية التي عادة ما تكون مغلقة أو حتى غير مرئية بدون معرفة تلك اللغة، أي الفرص والأحداث الموجودة في لغة الأقلية، إنني لا أقول ذلك عفو الخاطر حيث أكتب لكم هذا عن تجربة، فقد قضيت الأشهر الثمانية عشر الماضية محاولا تعلم اللغة الويلزية، لقد ولدت ونشأت في ويلز، مع ذلك لم يكن لي أي اتصال أساسي باللغة الويلزية حتى وقت قريب.وبعودتي إلى ويلز الآن مع فهمي المتواضع للغة الويلزية، شعرت بأن هذه البلد المألوفة منذ زمن بعيد أصبحت معالمها شيئًا فشيئًا أوضح لي من منظور جديد. إنني أشعر بالسرور والاهتمام عند مقابلة شخص من متحدثي الويلزية، وسعيد حقًا أن ابن أخي يتعلم اللغة الويلزية في المدرسة، هذه البديهيات القوية والمحافظة– لشخص غير محافظ مثلي– هي مفاجئة غريبة تقريبًا، لكنها ليست فريدة من نوعها، بل ترتكز هذه البديهيات على الفوائد التي يذكرها الناشطون المتحمسون من أجل دعم لغات الأقليات.
لم تصبح اللغات مندثرة أو قابلة للاندثار إلا لأنها واجهت الصعوبات القاسية، لذلك نجد تاريخ موت اللغات تاريخًا عنيفًا.
أخيرًا لننظر إلى سبب مغاير تمامًا يجعلنا نقاوم الرأي القائل بأنه يجب علينا دعم لغات الأقليات، وهو أن التنوع اللغوي يشكل عائقًا أمام نجاح عملية التواصل، ثمة قصة في الكتاب المقدس حول هذا الموضوع، وهي أن الرب وكعقاب على بناء برج بابل، قام ببلبلة لغات كل البشر على وجه الأرض من خلال جعلهم يتكلمون بألسنة مختلفة بعد أن كانوا يتحدثون بلغة واحدة من قبل، ومع ندرة قيام رأي يقول أن تنوع اللغات بين البشرية هو أحد اللعنات أو نوع من الابتلاءات؛ إلا أننا نلاحظ أنه في مجالات التواصل الأخرى– مثل تمثيل الأرقام ومقاييس الأطوال والاحجام- نستحسن كبشر اعتماد لغة موحدة قياسية، فتتضح مزايا تبني لغة واحدة وضوحًا كاملًا أمام أعيننا، حيث أن فعل ذلك سيمكّننا من السفر إلى أي بقعة في العالم، ونحن واثقين من قدراتنا على التواصل مع الأشخاص الذين نقابلهم هناك، وسنوفر المال المصروف على أعمال الترجمة التحريرية والفورية، بالإضافة إلى تبادل أخبار التقدم العلمي والأخبار الأخرى بين الناس بشكل أسرع وأكثر شمولا، وعندما نحافظ على التنوع اللغوي سنُبقي في الوقت نفسه على العقبات التي تعيق عملية التواصل بيننا، لذلك ألن يكون من الأفضل السماح بموت أكبر عدد ممكن من اللغات وانقراضها، لتصبح أمامنا لغة مشتركة (lingua franca) عالمية واحدة فقط؟
ربما يبدو ذلك حلمًا بعيد المنال، لأنه من الصعب نشر لغة مشتركة واحدة بين الشعوب بطريقة سليمة وعادلة، فالفكرة ذاتها تستدعي مجموعة من السياسات القمعية التي تكلمنا عنها سابقًا؛ ونجد مثالًا تاريخيًا على إحداها في جهود الاتحاد السوفياتي للقضاء على اللغات المحلية وإجبار جميع مواطنيها على التواصل باللغة الروسية فقط؛ لم تصبح هذه اللغات عمومًا لغات منقرضة ومعرضة للانقراض بطريقة لطيفة، أو من خلال اختيار الأجيال اللاحقة بحرية الانتقال إلى لغة ذات أغلبية أكبر؛ فتاريخ موت اللغات إنما هو تاريخ قاس كما يظهر في عناوين الكتب التي تتناول هذا الموضوع: "موت اللغات"، (Language Death, 2000) لدافيد كريستل، وكتاب "الأصوات المتلاشية: انقراض لغات العالم"، (Vanishing Voices: The Extinction of the World’s Languages, 2000) لدانيال نيتل وسوزان رومين، وكتاب "الإبادة اللغوية في التعليم"، (Linguistic Genocide in Education, 2008 ) لتوف سكوتناب- كانغاس.
لهذا سيكون من الصعب احتضان لغة مشتركة دون إلحاق الضرر بمتحدثي اللغات الأخرى، وإن كنا حقًا جادين في التصرف بشكل عادل بشأن لغات الأقليات، فإن مجرد الامتناع عن إلحاق الأذى بالمجتمعات المتحدثة بلغات الأقليات لن يكون أمرًا كافيًا، ونظرًا إلى المظالم التي عانت منها هذه المجتمعات في الماضي، لربما يكون من حقها التعويض عما عانته وهو رأي شائع أيضًا بين الناشطين المدافعين عن لغات الأقلية، ثمة نقاش يدور بشأن الشكل الذي يجب أن يتخذه هذا التعويض، لكن من الواضح أنه لا يشمل محو اللغة المحلية واستبدالها بأخرى.
لا يستطيع العالم أن يصبح ذا لغة واحدة مثل حضارات ما قبل بابل الموصوفة في الكتاب المقدس، إلا بمشيئة الله في خلق الحياة من جديد ومنح البشر لغة واحدة بدلًا من العديد من اللغات، أما الآن وقد أصبح لدينا عالم غني بالتنوع اللغوي، والعديد من اللغات التي تنهل من تاريخ عميق وثقافة مميزة، والعديد من اللغات التي نجت من سوء المعاملة والاضطهاد المستمر، والتي لا يزال الناس داخل مجتمعات هذه اللغات وخارجها يمجّدونها ويدافعون عنها، لن نجد سبيلًا للعودة إلى حالة اللغة البشرية الواحدة دون التضحية بالكثير والكثير من الأشياء القيمة والمهمة.