السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:53 صباحاً
المساحات المألوفة
عن الكاتب: غيليان دارلي كاتبة ومذيعة متخصصة في الهندسة المعمارية والمناظر الطبيعية، آخر كُتبها مع ديڤيد مكاي هو Ian Nairn: Words in Place (٢٠١٣)، وتعيش في لندن.
أنشأ غاستون باشلار في كتابه "جماليات المكان" Poetics of Space فلسفة البيت الغنية بالعاطفة والذكرى.
اشتريت نسختي من كتاب "جماليات المكان" لغاستون باشلار من مكتبة Triangle للجمعية المعمارية في وقت لا يزال فيه مفتاح الهاتف الداخلي في لندن يبدأ ب"٠٧١" وبينما كنتُ المراسلة المعمارية لصحيفة الأحد The Observer، كانت تلك النسخة على الرف فوق مكتبي منذ ذلك الحين مدخرة للهدأة وأوقات السكون، والآن انزلقتُ ثانية في مواجهة مع مفاتن هذا الكتاب الدائمة والمثيرة منعشة ذكرياتي معه في لحظة نادرًا1 ما يسمح فيها الفراغ السائد من التخطيط والتصميم باستجابة ذاتية بل وشاعرية.
نُشر (La Poétique de l'Espace (1958 أولاً باللغة الانجليزية في عام 1964م بعد عامين من وفاة باشلار ثم في كتاب ورقي الغلاف في عام 1969م ثم أُعيد إصداره في عام 1994م، وهو كتاب دلالي صغير، كان مؤلفه فيلسوفًا محترمًا جدًا تحول في مهنته لاحقًا من العلم إلى الشعر، ولم يكن شيء من رحلته الفكرية تقليديًا لا سيما قياسًا بالمعايير الصارمة للحياة الأكاديمية الفرنسية والنهضة، وكان من جذور إقليمية في شامبانيا وموظفًا في مكتب البريد وقد سما سموًا كبيرًا من خلال إصراره الفكري على أن يحتل منصبًا في الفلسفة في جامعة سوربون، وكان باشلار بكل المقاييس محاضرًا فذًا وكان يُعرّف بنفسه على الصفحة التي يتجول فيها كألطف وأنبل مرشد سياحي تأمُل أن تجده بأنه "مدمن للقراءة المنهجية" التي تهدف إلى توسيع المدارك، وتعميق الأصداء، وتعزيز الصلات، وقد ظهر كتابه الأخير "جماليات المكان" سريعًا على قوائم القراءة الأكاديمية وفي مدارس العمارة والفن, مُكدَسًا إلى جانب أعمال أفضل المنظرين والممارسين الثقافيين المعروفين ومن المدهش أنه لا يزال هناك.
أصبح "باشلاري" اختصارًا ثقافيًا للإمكانيات الغنائية لاستحضار الذكرى من المباني وكان هذا الكتاب من أحدث لها وله مكانة خارج فرنسا، ولعل الفصل الأول الذي يتناول "البيت من القبو إلى العلية" هو كل ما سيقرأه الطالب، إذ أن اعتماد باشلار على الشعر مع الاستطراد إلى علم النبات وكارل جونغ والكثير غيره آسر للألباب إلا أنه دائمًا مقتضب بخلاف الرابط المباشر والحتمي بين أفكار المراقبة في كتابات ميشيل فوكو وجذورها في فكرة بانوبتيكون لجيرمي بنثام، ووفقًا لاستفتائي الاستطلاعي الدولي المحدود عبر الأجيال فإنه لا يزال غالباً كتابًا مرجعيًا أكثر من مقروء.
غاستون باشلار في مكتبته عام 1961. ألتقط الصورة بيرنارد باسكوتشي
في عام ١٩٦١ أُجريت مقابلة مع باشلار البالغ عمره نحو ٨٠ عامًا في مكتبه الصغير والخانق بمنزله في باريس، وكان يجلس بارتياح بادٍ، وكأنه محصور في المساحة الوحيدة الخالية بين أكوام الكتب المترنحة والمكدسة من الأرض إلى السقف ومن ملفات إلى كتيبات رفيعة والفيلسوف مجسدًا بلحيته السقراطية المتألقة وشعره الأبيض الجامح، قال بلطف لمحاوره المذهول: الحياة تعني التفكير ومن ثم التصالح مع العيش، وقد أقر باستماعه إلى أخبار المذياع كل يوم.
وكما قال فوكو عن باشلار بعد سنوات قليلة: بأن نهجه المتميز كان تجنب كل التسلسلات الهرمية محددة المعالم وأي أحكام عالمية: "إنه يلعب ضد ثقافته بثقافته"، حيث يقف بعيدًا بمعزل عن التيار السائد موجِدًا ثغورًا وتنافراتٍ وظواهرَ صغيرة تستطيع أن تصنع نهجه الخاص، وكان الشعر بكل أنواعه هو مادته الخام.
طور عمل باشلار السابق نظرية القطيعة الإبستمولوجية (المعرفية) والتي لاقت قبولًا واسعًا لدى فوكو وغيره إذ تحرر الاعتقاد العلمي مما قيّده أو أعاقه مسبقًا، وبطرق متواضعة متروكة لتفسير القارئ. آذن باشلار الآن بانفصال واضح بالمثل عن العقم المرهق لحداثة ما بعد الحرب في الهندسة المعمارية عن طريق إعطاء أهمية لما لا يُنسى في إطار المعتاد، وقد اعتبر أن "المساحة المأهولة تتجاوز المساحة الهندسية" لكن وكالمعتاد لم تعد كلماته سوى تضمين للقيمة المعتبرة للذكرى المطبوعة أو صبغة المعنى.
وفي الكتاب يرشدنا إلى بيت حقيقي أو وهمي (حسب اختيارك) جُمعت سبل راحته وألغازه وسُلط عليها الضوء في مكان وزمان غير محددين إلا من خلال حدود أحلام يقظتنا وأشواقنا وذكرياتنا – تلك الصور الداخلية التي يمكن – كما يقول – أن نخلق منها عوالم جديدة، ويثير الفيلسوف ماضيًا مثاليًا ويقارن بين المتناهي في الصغر والمتناهي في الكبر ويعيدنا إلى الطفولة، وهناك في البيت يذكرنا كيف أننا نميل إلى النظر أسفل سلالم القبو بتوجس بينما نحدق للأعلى تجاه العلية بشغف دائم، ويوضع الشك مقابل الوعد والظلام مقابل النور، فهذا المنزل هو مفتاح للذات الداخلية "حيث أن الطفولة أعظم بالتأكيد من الواقع".
قسّم باشلار المنزل التخطيطي إلى كيان عمودي وآخر مركزي، "مجموعة صور تمنح البشرية برهانًا أو أوهامًا للاستقرار"، واستخدامه للظاهراتية المعمارية يدع العقل حرًا لشق طريقه ومتهيأ دائمًا لما يمكن أن يظهر في الطريق، فالمنزل هو "طبوغرافيا وجودنا الحميم" كل من مستودع الذكرى ومأوى الروح – وببساطة بطرق كثيرة المساحة في رؤوسنا، ولم يقدم أي اختصارات أو سبل تجنب، إذ أن "الظاهراتي لابد أن يتتبع كل صورة حتى النهاية."
وبعد رحلة عبر "أنفاق قلاع أسطورية محصنة ... ومجموعة من أقبية للجذور" يفرض على قرائه تناقضًا تامًا بنبرة وصورة متغيرة صادمة يُكشف فيه بوضوح تحامله على التحضر والمنفعة الظاهرة للمساكن المصنوعة على نطاق واسع: "في باريس ليس ثمة منازل، ويعيش سكان المدينة الكبيرة في صناديق جبرية" فهذه المباني ليس لها "جذور" كما يسميها حيث أنه لا يوجد أقبية في ناطحات السحب:
تقضي المصاعد على بطولة تسلق السلالم لذا لم يعد ثمة أي مزية للعيش عاليًا بالقرب من السماء، فأصبح البيت أفقيًا محضًا، فالغرف المختلفة التي تؤلف أماكن المعيشة محشورة في طابق واحد وجميعها يفتقد واحدًا من أهم المبادئ الرئيسة لتمييز قيم الألفة وتصنيفها.
كما أنه ليس ثمة مساحة متوسطة؛ فيصبح كل شيء ميكانيكيًا "ومن كل جانب تفر المعيشة الحميمة".
ومن المفزع أن تقرأ بعد حريق برج غرينفيل – هذا الانفجار المذهل والفريد – في لندن في يونيو الجاري أن المجتمع قد غض بصره عنهم في واقعهم المرير، ويبدو باشلار مستندًا على رؤية متطرفة حيث لا بد للأفراد فيها من الدفاع عن أنفسهم، وليس ثمة أي فقرة أخرى في الكتاب فيها رسم بياني أو تفصيل، لكنه كان يكافح – كما أقر – كل من باريسَ والأرق مستعيدًا توازنه فقط حين عودته إلى استقراء الشاعر راينر ماريا ريلكه الثمين لمصباح محترق في نافذة كوخ ناسك الذي تستحضره الإضاءة الأخيرة (أو الأولى؟) المضاءة في الشارع أثناء مسيرنا إلى المنزل، والآن يمكن للمنزل أن يضطلع مجددًا "بقوى الحماية ضد القوى التي تحاصره" قبل التحول إلى عالمه الخاص به.
الرحلة إلى الألفة: أثارتها بعناية الأدراج والدواليب والخزائن وقبل كل شيء الأقفال.
رجل مسن بقلب لا يزال في فرنسا الريفية ولهجة إقليمية واضحة تُبرهن ذلك، فما الذي يجب على المدينة الحديثة غير المألوفة تدريجيًا باقتصادياتها وسياساتها أن تمنحه؟ وقد أحجم عن الإشارة إلى ما إذا كان التفسخ الاجتماعي للرؤية الجمعية التي صورها ناجمة عن مجتمع رأسمالي أو شيوعي محذرًا من النفعية المغلقة بإحكام شديد، ولم يطرح معظم القراء السؤال عن براءته الظاهرة تلك.
في الداخل في "جماليات المكان" فإن الرحلة إلى الألفة أثارتها بعناية الأدراج، والدواليب، والخزائن، وقبل كل شيء الأقفال، رغم أنه يحذر بحدة نوعًا ما من استخدامها استعارات مبتذلة (معترضًا بشدة على فكرة العادة) إلا أن صفحاته تقدم إغراءً مستمرًا للهروب، للانغماس في مسار ذاتي عرضي موفق، لذا وضحت أماندا ڤيكري في استكشافها للحياة المنزلية للنساء العاديات في القرن الثامن عشر (Behind Closed Doors (2009 كيف كانت المالكة لحاوية بسيطة مغلقة في منصب يفوق أقرانها مباشرة، قفل وحيد جعلها أوفر حظًا بصورة لا يمكن تصورها من خادمة أخرى بالكاد تملك مخبأ خلف لوح خشبي جداري أو تحت لوح أرضي، وقد أشار ذلك الصندوق أو الدرج بمفتاحه إلى إجراء ضئيل وثمين للخصوصية، وتأمين للمساحة الشخصية لا سيما في الغرف المشتركة المزدحمة.
رفاه الحيوان (أو الانسان) الدافئ المحمي في عشه، أو شرنقته، أو كوخه من الطقس السيء المستعر بالخارج هو مفهوم بدائي للملاذ الذي يمكننا جميعًا أن نتشاركه كبارًا كنا أم صغارًا، فالحاجة إلى مأوى آمن تترجم إلى بنية داخلية ذات مزايا كركن الموقد الذي يأوي فنونًا وحرفًا أو مقاعد بجوار النار أو نزعة فرانك لويد رايت الدائمة لمدفأة هائلة مدفونة في قلب المنزل، أو حتى لمسة الستينات الفريدة، أو حجرة المحادثة – مع أو بدون السجادة الوبرية المميزة. ويعتقد الكاتب البريطاني كين ووربول أن ملاحظات باشلار تنطبق تحديدًا على التطورات الحديثة في تصميم دار الرعاية التي أعيد فيها تشكيل -بالتركيز على الصورة الرنانة نفسيًا للمنزل- الموقد وطاولة المطبخ و"أماكن الانتظار اليائس المألوفة والمطمئنة لتصبح أماكن للتأمل ولحصاد الذكريات ولاكتشاف الذات".
ومن الغريب أن يُرحبَ في أواخر الستينات الحداثية بفيلسوف استبعد بعناد البيئات القاسية والظروف الصعبة للعالم الخارجي في الثقافة الشعبية، أو السياسات، أو العمارة، بينما يكتب أساسًا عن الصورة الحنونة لمعيشة البحر الأبيض المتوسط (المتوسطية) القروية الريفية.
شارك باشلار بعضًا من الغرائز والخيارات الموضحة في شكل رسوم بيانية في كتابArchitecture without Architects المؤثر للكاتب والمهندس المعماري الأمريكي بيرنارد ردوفسكي (١٩٦٤)، وقد بدأت حياة هذا الكتاب بعرض في معرض نيويورك للفنون الحديثة مدعومًا بشخصيات جليلة في البانتيون المعماري المعاصر، مثل: والتر غروبيوس، وجيو بونتي، وكنزو تانج. وفي الاحتفال بالمباني المغرية للإنسانية وضح ردوفسكي الصفات (الثابتة تقريبًا) للعمارة المحلية: أنماطها، وموادها، وتصميمها الغريزي، وكيف نقلت الذكرى وآوت "تقلبات المناخ وتحدي الطبوغرافيا"، وكانت باختصار كل ما لم تكنه الحداثة في السراء والضراء.
ومن المدهش أن و. هـ. أودن قد صاغ مبكرًا كلمة topophilia (توبوفيليا) عندما كان يكتب مقدمة إعجاب لطبعة أمريكية لقصائد جون بيتجيمان Slick but not Streamlined في ١٩٤٧م، وفي الآونة الأخيرة كتب أودن مجموعة من ١٥ بيتًا بعنوان Thanksgiving for a Habitat (١٩٦٠-١٩٦٤)، كانت احتفاء بالرضا الداخلي في كوخه النمساوي، وكانت منظومة حول غرف المنزل ومن بينها كهف المعنى (مكتبه) والقبو، والعلية، وغرفة نومه "كهف التجرد"، ويختتم قصيدة العنوان بسعادة بالكتابة عن "مكان ربما أدخلُه وأخرج منه معًا"، فهل قرأ أودن (الناطق بالفرنسية) حينها رحلة باشلار في منزل الذكريات – تلك الجنة التوبوفيلية؟
وبحلول الوقت الذي كتب فيه ناقد العمارة البريطاني بيتر رينر بانهام رسالة حبه للصحراء الجنوبية الغربية Scenes in America Deserta (١٩٨٢) كان حتميًا تقريبًا أن يلجأ لباشلار للإيضاح حيث "أصبح أكثر مرجعية مذكورة في مسائل المكانية في الأوساط التي أتنقل فيها"، ولخيبة أمل بانهام، وجد أن المفكر المشار إليه "بخيل ومدافع ذاتي" عن أغراضه إذ أن الكبر الموعود "مقولة فلسفية لحلم اليقظة" كان فقط في داخلنا، وهذا غامض جدًا لمؤرخ العمارة القاسية الجديدة، ومن المحتمل أن ملاحظة باشلار المرتجلة بأن كثبان الرمال المتناهية في الكبر قد لا تكون سوى "صحراء مراهق..الصحراء الموجودة في كل أطلس مدرسي" أهانت بانهام الذي أسرَت الصحراء قلبه مؤخرًا.
"خزانة" أماكن لعب الأطفال: مكتبة صغيرة مكنوزة تحت بعض السلالم؛ عالم من العواطف في الزاوية.
من أجل ذلك كله كان عالم بانهام العصري للمهندسين المعماريين الأمريكيين الخارجين عن إطار المألوف – لاسيما ما بعد الحداثة، تشارلز مور، والمنظّر كريستوفر أليكساندر مؤلف A Pattern Language (١٩٧٧) – أسيرًا منذ زمن طويل لكتاب باشلار، ولمور أفكار قوية عن علاقة العمارة بالتاريخ وعن تصميم الأماكن العامة – خلاف المنزل الخاص – التي تؤدي إلى إنعاش المجتمع، كما كتبت الناقدة الأمريكية أليكساندرا لانغ أن لمور نزعة خاصة للمساحات الداخلية المتروكة: "الزوايا والشرفات والغرف العلوية والأرفف المصممة لخلق مساحة للمقتنيات، والهوايات، وملجأ للأمزجة المختلفة، ومنصات لمحادثات أكثر ألفة"، وقد أشار إليها كجعاب لكنها كانت بالتأكيد مجرد مساحات جمالية مجمعة، أو ربما تصنف إلى جانب برنارد باليسي –المهندس المعماري والبستاني المناظري للقرن السادس عشر الذي أُعجب به باشلار – والذي يشمل تحريه لمبنى الحصن في الطبيعة بزّاقة تفعل ذلك بلعابها وقد ذكّرت باشلار بأيامه الماضية في العلوم الطبيعية، ونقل باشلار قراءهُ إلى "نقطة حساسة من الموضوعية" ملاحظًا أن أصغر التفاصيل "تزيد مكانة الشيء" ومقتبسًا من قاموس لعلم النبات النصراني، والذي جسد الحلزون كما لاحظه "رجل بعدسة مكبرة".
كان القراء الإنجليزيون القدامى لباشلار في حقول العمارة والتصميم في تراجع عن الحداثة الشكلية واقتلاع الجذور، وتدريجيًا انتشرت الموجات، وقد منح المهندس المعماري الهولندي المحترم هيرمان هيرتزبيرغر فيSpace and Learning (٢٠٠٨) باشلار، إيماءة ساحرة عندما أشار إلى "خزانة" أماكن لعب الأطفال الصغار: مكتبة صغيرة مكنوزة تحت بعض السلالم والاستخدام المبتكر للزوايا، والأركان المتوفرة وفي كل مكان يوفر "الكنغر بصفته أنموذجًا" الأمان والملاذ، ومقبض الباب الذي يكون على مستوى نظر طفل صغير، والدرج الذي يَأَوي الكنوز، وعالم من العواطف في الزاوية، وتلا ذلك كولين وارد مؤلف The Child in the City (١٩٧٨) وأكثر الكتّاب البريطانيين إدراكًا للبيئة المعمورة إذ احتفى بفكرة باشلار "للواقع المجرب" في الطفولة بصفتها وريدًا للذاكرة الغنية التي يمكن أن تثار في مرحلة البلوغ.
وفي عبارته الجميلة "قراءة حجرة" شجع باشلار القراء على التفكير في مكان ما في ماضيهم: "لقد فتحت بابًا لأحلام اليقظة"، وللرد على ذلك المطلب الشخصي جدًا فقد عكس وصفه "للأشكال العاطفية للمساحات داخل المنازل والشقق" بصورة مفيدة أفكار جنغيان للكاتبة النسوية الإنجليزية الفرنسية ميشيل روبرتس حيث واءمت الخيوط النصية والمكانية من يوميات في مذكرتها Paper Houses (٢٠٠٧)، وتكوّن روبرتس رحلتها في الحياة كرحلة في المدينة متنقلة من مكان إلى آخر داخل وخارج الخيال، كما ترد على أقبية جنغيان والأماكن المطمورة، وربما المخيفة مقارنة بالغرف العلوية والنور والآمنة التي كما يؤكد باشلار "يمكن دائمًا أن تطمس مخاوف الليل" إلا أنها بالضرورة تضاريس الناقد الألماني والتر بنجامين، وبعد عقود من أوج ما بعد الحداثة، والمجادلات العالقة، والمبهمة غالبًا حول "الإقليمية النقدية" لا يزال كتاب باشلار يقدم "عشاً للأحلام وملاذًا للخيال" كما كتب جون ستيلغو أستاذ تاريخ المناظر الطبيعية في جامعة هارفارد في مقدمته لطبعة ١٩٩٤.
وترى المكانة الراسخة لكتاب "جماليات المكان" باعتباره نصًا رئيسًا لباشلار ذائع الصيت، وربما كان المهندس المعماري السويسري الحائز على جائزة بريتزكر بيتر زومثور يحاكيه في خطابه أثناء تسلمه للوسام الذهبي الملكي من المعهد الملكي للمعماريين البريطانيين في ٢٠١٣ عندما تحدث عن تجرد الهندسة المعمارية من الرمزية التطفلية، والمشبعة بالتجربة، مؤدية إلى الهدف الأسمى "خلق مكان عاطفي"، وهناك تضافر واضح بين رغبة زومثور لأن يعتبر قبل كل شيء "مهندس مكان" ورؤى باشلار الدقيقة والرومانسية حيث يبرز النور والمواد (تشمل عودة متقدمة للمحلية من حيث لغة المحليين) والبيئة التي تكثفها مواقع نائية ومحددة، مثل المنزل قيد الإنشاء الآن -في جنوب ديفون في برنامج Living Architecture.
يمكن أيضًا لهذه الطريقة أن تشير إلى نشر لمستويات المعنى والواقع داخل بنية موجودة، وتقول المهندسة المعمارية لDow Jones في لندن بيبا داو أن كتاب "جماليات المكان" أصبح منذ زمن طويل "كتابي المفضل والأهم في العمارة"، وقد تعرفت داو وشريكها ألون جونز إلى كتابات باشلار عن طريق داليبور فيزلي مدربهما في السنة الأولى بكلية الهندسة المعمارية في جامعة كامبردج، وتقدم الطريقة الشاعرية احتمالات غنية لاستخراج معنى أوسع وعلم الظواهر، والتدريب الجائز للخيال، فمثلًا تقدم الآن كنيسة القرون الوسطى للقديس Mary-at-Lambeth في جنوب لندن – بعد أن هجرت تقريبًا– سلسلة من المساحات المتميزة في حياتها الحالية مثل Garden Museum الذي عملت فيه داو جونز على مرحلتين متتاليتين، فأصبحت هذه الكنيسة مستودعًا للفضول حيث تعرض كنوزًا مرتبطة بالبستاني وحاصد النباتات العظيم جون تراديسكنت الأكبر، مؤسس معرض أشموليان في أكسفورد بالإضافة إلى معرض آرك الأصلي في South Lambth التي نما منها، وقد أضافوا وراء الجدران الخارجية "ديرًا" في المنتصف ومنها يستلقي تراديسكنت تحت تابوت قبره المنحوت العجيب الذي يعد عالمًا من الفضول بحد ذاته.
لكن يبدو لي أن كتاب "جماليات المكان" لاقى الصدى الأضخم في الحقل الأوسع للتصميم الحضري من خلال عمل المدني الأكاديمي الأمريكي كيڤين لينش وغيره، وكانت الرحلة بين الأفق المفتوح، وباتجاه ألفة شبه المطوق في قلب Townscape الحملة (أو الحركة) التي شنها المهندس المعماري البريطاني غوردون كولن، ومحرر مجلة Architectural Review هربرت دي كرونين هاستينغز على صفحات المجلة منذ ١٩٤٨م فصاعداً.
بقدر ما يكون إلهامًا للمصمم المدني بقدر ما يكون مصدرًا للأثاث المعدني الثمين للطفل الصغير.
كان الوزن الفكري لاحتفاء نيكولاس بيفسنر بالتخطيط "المناطقي" أو الجماعي في أكسفورد مثلًا أقل وضوحًا، ولاحقًا شكر هاستينغز على تشجيع تحوله الممتع إلى التصويري – المصبوغ بإتقان بفرشاة الحداثة في نظر العالم – مانحًا إياه "نعمة الخلاص من نزر يسير فقط من التناقض".
وسع كولن وزميله إيان نايرن التحليل المرئي الذي اقترحته Townscape لعدد من المدن الأمريكية في مساهمة لكتاب Exploding Metropolis (١٩٥٧) الذي حلل بإيجاز – إلى جانب العمرانية جاين جاكوبز – بالكلمة والصورة الخصائص المكانية المميزة، والمحددة للمدن من أوستن إلى سان فرانسيسكو ومن نيويورك إلى بيتسبرغ، وتشارك Townscape والاستطلاع المعاصر لأفكار "المطل والملاذ" - المصطلحات المستخدمة استخدامًا واسعًا في نظرية المناظر الطبيعية، وهي للجغرافي البريطاني المتأخر جي أبليتون –شيئًا من استكشاف باشلار للألفة "المتناهية الصغر" مقابل "المتناهية الكبر" وهذا تسلسل جارٍ فبقدر ما يكون إلهامًا للمصمم المدني بقدر ما يكون مصدرًا للأثاث المعدني الثمين للطفل الصغير.
وحدد لينش في The Image of the City (١٩٦٠) الدور الحاسم لإحساس المكان والذي "بحد ذاته يعزز كل نشاط بشري يحدث هناك ويشجع الإيداع لأثر الذكرى"، ويمكن – كما يعتقد – تمييز هذا الانقسام "للمكان" إلى روح وفكرة ماديًا، ومفاهيمي إلى الحدود، والمسار، والعقدة، والإقليم، والمعلَم، وقد قادت فكرة "القدرة التصويرية" للينش – طريقة جذرية لالتماس التوجه – جاكوبز (وهو من أشد المعجبين بعمله) للإشارة في The Death and Life of Great American Cities (١٩٦١) إلى أن "التعقيد وحيوية الاستخدام هي فقط من تعطي لأجزاء من المدينة بنية وشكلًا ملائمين"، وفي الوقت الذي كان فيه كتاب "جماليات المكان" متوفرًا بالانجليزية كان يجري نقاش منسجم تمامًا على جانبي المحيط الأطلسي وهو تيار للتفكير الذي أمكنه أن يستند على حمية باشلار الأدبية الغنية.
وكان الأفق البعيد المقيد مقارنة بذلك المراقب عن كثب والحامي (أو المحمي) متداولًا دائمًا في تصميم المناظر الطبيعية في الماضي، أو الحاضر، وفي الشرق، أو الغرب، ويعكس الأفق المستعار – وهو محوري جدًا لجماليات البستنة الشرقية (Shekkei) أو ما يعرف بـ (المشهد المستعار) – ملاحظة باشلار بأن المسافة تخلق منمنمات في الأفق، ويحذر الإنجليزي الأمريكي جيمس كورنر – أحد أكثر المقتنعين من الكتاب المعاصرين بالمناظر الطبيعية وممارس وأكاديمي معًا – فيRecovering Landscape (١٩٩٩) القراء من التقليل من شأن "قوة فكرة المنظر الطبيعي" في المساحة المادية المعنية إذ أن المنظر الطبيعي "بيئة روحية وصورة ثقافية" معًا، ويرى كورنر أن ذلك الدمج المحدد بين الإحساس المكاني، والموقع الروحاني يميز تصميم المنظر الطبيعي تمامًا عن الهندسة المعمارية والطلاء.
وقد يجادل تفكير باشلار المتكيف بمهارة مع المجتمعية لهذه الأغراض لإعادة فحص مكثف لنسيج المدينة، ويقدم النمط التاريخي للمدن العظيمة بصورها الأكثر تعقيدًا والمتعددة الطبقات نماذج مثالية، والآن اكتمل تقريبًا متنزه هاي لاين في نيويورك والذي لعب فيه كورنر دورًا مهمًا من التحفيز إلى التنفيذ حيث يصل Hudson Yards بمحطة Penn، متنزه طولي مرتفع فاصل بين الشمال والجنوب، عبر طبقات المدينة الحالية – كما يفعل سابقه التسعيني في باريس من باستيل إلى أوسترليتز – يكشف ويذكر ويؤكد الدور الذي قد يلعبه المكتشف في المدينة بينما تدوم الذكريات وتبقى شذرات الغموض.
وأحد قراء كتاب "جماليات المكان" المتفتحين هي الناحتة البريطانية راشيل وايتريد وعملها دائمًا ما يكون محصورًا بين قطبي الغياب والحضور، فتفاصيل البيئة الداخلية المثارة في(Untitled (Paperbacks (١٩٩٧) استكشاف متقن للمساحة السلبية لكنه قبل كل شيء يبلغ ذروته في تحفتها المنحوتة House (١٩٩٣) منذ فترة طويلة: نقلت الخُرسانة المصبوبة لمنزل مدرج كليًا في انحناء غير عصري والذي مُنح فترة وقف تنفيذ قصيرة (فنيًا) قبل تقويضه معان متعددة.
كما يكتب العالم البريطاني جو موران بالنظر عن بعد ربما تبدو كمنحوتة رائدة لكن "النظر بتمعن يكشف بثورًا وعيوبًا في الواجهة البسيطة أي علامات الحياة اليومية في المنزل: المداخن المسودة بالسخام، ونهايات الجائز المكشوفة، والمتعفنة بعض الشيء من الرطوبة والفجوات التي تُخلّفها مفاتيح الإضاءة والمقابس الكهربائية العتيقة ومزاليج الباب"، وقد ترجمت وايتريد في ذلك التركيب الاستثنائي حرفياًا شيئًا من باشلار إلى الشوارع الحقيقية في شرق لندن ومن هناك نقلت House إلى الذاكرة إلا أنه سُجل وحُفظ على نطاق واسع.