الخميس , 03 أكتوبر 2024 - 29 ربيع الأول 1446 هـ 4:07 مساءً
كيف لعلم النفس التحليلي وأبحاث الدماغ وفيزياء الكم والنظم العلمية أن تقود إلى علم نظام الكائن البشري المتطور بالطبيعة وعلم النفس العميق؟
(إن محاولة العيش وفقا للمفهوم القائل باستقلالية الذرات وعدم ترابطها أدى إلى تعاظم سلسلة من الأزمات العاجلة التي نواجهها اليوم)
- ديفيد بوم (فيزياء الكم).
يتمنى المحلل والطبيب النفسي سي جي يونج (1961-1875م) مثل بقية العلماء الألمان في وقته، أن يؤسس علم النفس كمجال علمي، فقد وضع في اعتباره إحداث فكرة حول "وصف العلاقة بين الطبيعة والنفس" (مير2001م. ص 176)، إلأ أن عليه حل الازدواجية بين العقول غير قابلة للإدراك وبين الأمور المقاسة فهذه المشكلة مازالت تحد علم الطبيعة وعلم النفس من إحداث نقلة نوعية جديدة وتُقيد من تفسيراتنا للنفس وتجعلها في قالبٍ من الوظائف البيولوجية، وسنرى فيما يلي "البانسيستيمولوجي" أو "علم نظام الكائن البشري المتطوَر بالطبيعة" الذي يقدم حلاً لهذه المشكلة.
وفقًا للفيزيائي الأمريكي وفيلسوف العلوم تي . أس كون فإنه لم يوضع تعريف نهائي ودقيق لعلم نفس الغيبيات وذلك لإطاره العلمي ونظريته العامة (أشار إليه إيزنك 2009م . ص 10)، فلا يمكن قياس النفس مباشرة لأنها غير واضحة المعالم أثناء دراستها، وإن الغيبيات على أية حال لا تُقصي العلم ولا تحتمل زيفه، بل هي على العكس من ذلك تماما، فعلم النفس يعتمد على العلم ويُبقي الباب مفتوحا على مصراعيه لكل الرؤى الجديدة التي قد تنشأ من نتائج الأمثلة العلمية المعاصرة، ويتميز بمرونة التبادل مع العديد من العلوم الأخرى مثل: علم الأحياء وعلم الأعصاب وعلم الاجتماع وعلم النظم على وجه الخصوص، وهذا يُفسر سبب نقاش لودويغ فون بيرتالانفي (1965م) مؤسس نظرية النظم العامَة حول قدرة علم النُظم على معالجة المشاكل التي سلط علم النفس الضوء عليها، كما هي فلسفة "ميكانيكا الكون" فإن العلوم أيضا تميل إلى تهميش الأسس الكونية، والإطار العام لها، والأهداف المحددة، وترتيب الكون الهرمي، والكمال المطلق" (ص3).
الجدير بالذكر أن رحابة علم النفس تُعد أحد الأسباب التي دفعت جونغ لدعوة اينشتاين في منزله على الغداء باستمرار مابين 1909 وحتى 1913م، فقد ناقشه اينشتاين لإيجاد صيغة تدمج حقيقة النفس في نموذج علمي، ويرى فولفغانغ باولي فيزيائي الكم المعروف وصاحب نظرية النيوترينوات أن جونغ قام بتلك المقابلات دوما بدءا من عام 1932 وحتى عام 1958م (مير 2001م)، ويميل باولي إلى صاحبه فيزيائي الكم ويليام هايزنبيرغ، وعلى حد تعبير باولي فإنهم حاولوا" العثور على لغة جديدة تجعل الأبعاد الخفية في الطبيعة متاحة للإدراك ... حياد يحترم الاختلاف بين النفس والمادة" (ص.Xli) ولكنهم لم ينجحوا في ذلك.
ويرجع السبب الرئيس لهذا الفشل هو استجابة النموذج التحليلي الأحادي، في قبول العالم المادي، بصفته جزءًا وتعبيرا فقط عن مساحة أوسع للنفس، وليس شيئا آخر، ومع ذلك فإن هذا التغيير يعود إلى الفرضية التي خلفها تأثير اينشتاين و ديفيد يوم (1980م) بأن الكم ينظّمه نظامٌ مخفي. ولم تؤدِّ هذه الفرضية ببوم لإعادة كتابة الفيزياء الكمية فحسب وإنما ساعدت الباحثين الآخرين على اكتشاف دليلٍ مادي يدعمها وذلك في عام 2005م (ين و جاو 2015).
وقد أدت العديد من الظواهر الكمية المجهرية إلى قبول فرضية بوم قبولا علميا تاما، واستطاع الكيميائيون أخيرا تجسيد مناوراتهم في المعرفة النفسية العالمية، فهم يرون المادة كمنتج نفسي خاضع للوقت والفراغ وليس العكس، فهناك نموذج مشابه سمح لجونغ بالتصريح بأن كل شيء هو النفس، ولأينشتاين القول بأن كل شيء هو الطاقة، فيما يرى بوم أن النظام المخفي ونوع المجال هما من يُنظِمان المادة، وهذا التوجه جديرٌ بالبحث والاهتمام.
وهكذا فإن النظام المخفي هو كمخطط داعم للطبيعة ولغة عالمية لها، فإطاره الداخلي محفور من قبل تنظيم البُنى الفيزيائية؛ مثل العقل البشري ليسمح بتعبير الوظائف الدقيقة، ولأن الأفراد يتشاركون في نفس التنظيم العقلي فإن ماينتجونه يعكس هذا الإطار والنظام المخفيين وقوانينهما، ويمكن إثبات ذلك على ثلاث مراحل: أولا: علينا أن نجد نموذجا ًيلائم وصف النظام المخفي وهذا هو النموذج الطاوي، ثانيا: علينا أن نرى إن كان ملائما لوظائف وهياكل العقل البشري، وموافقا لمراحل نموهما ونضجهما لكلا الجنسين، وأن علم نظام الكائن البشري المتطوّر بالطبيعة يمكنه تطوير العناصر الخمسة المتأصلة في الكائن كنموذج حياة في توافق تام مع العقل. وأخيرا، علينا إيجاد إطار لهذا النموذج في الفن والنصوص المقدسة حول العالم، وحري بالذكر القول بأن هذا النموذج قد ذُكِرَ في أسفار موسى الخمسة والأديان المرتبطة بها، وفي الطاوية، وموجودٌ أيضا في مفهوم الآلهة المصرية ماعت القديمة وفي الخيمياء والأساطير والفن.
إن كلمة بانسيستيمولوجي تتكون من شقين، الأول (بان) وهي كلمة تعني النموذج العالمي و(سيستيمولوجي) التي تدل على علم النُظم، ومن ثم فإن البانسيستيمولوجي هو علم يدرس نظام الكائن البشري المتطور والمرتبط بالطبيعة، والمحتوي على عوالم مختلفة من التعابير الإنسانية: الفيزيائية والعاطفية والمفاهيمية والاجتماعية، وفي عام 2015م قدّم هذا النظام في جامعة تينتو أثناء المؤتمر الأول الذي أقرته اليونسكو بشأن التوقع (علم النظم).
وبالتناسق مع الطاوية والتقاليد الأخرى والتوافق كذلك مع نتائج الأبحاث العقلية فإن علم نظام الكائن البشري المتطور بالطبيعة يعرض دراسة وتطبيق نموذج الحياة ، وهي التعبير الفيزيائي والنفسي لمخطط بوم .ويمكننا القول أن الطبيعة والإنسان بما فيهما من ميزات فيزيائية هما انعكاسان كُسيريان لنظام بوم المخفي -المخطط الأساسي - وهذا الكُسيري لايتضمن فقط فكرة الأنماط التفصيلية وإنما يشمل أيضا تكرار الوظائف الداخلية لنفسها، لذا، فالطبيعة هي صورة لهذا النظام بصفات كامنة أو ظاهرة يتماشى هذا مع الجنس البشري بالتزامن مع فكرة جونغ (1954م) حول صورة الخالق في الأشخاص، ويُعبر العقل البشري لا إرديا عن هذا النموذج.
ومن ثم فإن غالبية العلماء الإيجابيون غاضبون من فكرة Unus Mundus وهي كلمة لاتينية تعني "العالم الواحد"، والتي طرحها جونغ عن الواقع الذي تكون فيه المادية نتيجة لواقع بدائي مخفي(غوت2011م) أو تركيب مرتب (بوم1980م) , فهم يرون هذا محاولة لإحياء المذهب الحيوي مع أنه ليس محور الحديث هنا، فقد كان الهم الأساسي للمذهب الحيوي: التفريق بين الأحياء وغير الأحياء إلا أنه فشل في تعريفهما، لذا من الأفضل مواكبة العلوم الحيوية حتى تفهم ماهو قابل للقياس.
فيما يؤكد عالم الأحياء النظرية روبيرت روزن(1991م) أن العمليات الحيوية ليست قابلة للتفسير في ضوء القوانين الفيزيائية والكيميائية الحالية، فإن الداروينية وتحديد الحمض النووي تعدان ضربة قاضية لمنهج الحياة الشامل( ويليام ,2003م)، وتميل التطورات الجديدة في علم التخلق(ليبتون,2015م) فضلا عن بحوث فيزياء الكم وعلم أعصاب الدماغ إلى إمكانية مبدأ الاستنجاز(دريش,1912م) لعنصر مفاجيء ومجال وقوانين غير تلك الكيميائية أو الميكانيكية التي توجه الحياة والنمو، لذا يمكننا القول أن أفكار الأحيائي الفرنسي جان باتيست لامارك الذي سبق دارون بخمسين سنة تبدو الآن أكثر منطقية حيث يرى التطور في عناصره الحركية والتعاونية، وفي الواقع فإن الفكرة القائلة بأننا تحت رحمة جيناتنا الوراثية خاطئة، فوفقا لـ(ليبتون,2015م) فإن 2% فقط من الأمراض سببها جين واحد، فعلم التخلق بملامحه البيئية والنفسية الآن هو الآفاق الجديدة (غوت,2014م).
وبالإشارة إلى نظام بوم المخفي فإن التطور هو حركة في الطبيعة تميل نحو الانعكاس المثالي والتعبير عن هذا النظام البدائي تحت قيود الزمان والمكان، وينبغي أن يُعتبر هذا النظام قاعدة أساسية لعلم التخلق حتى لو كان هذا نظريا، والجدير بالذكر أن بوم (1980م) عرّف عالم التجلي بأنه نظام مخفي، فقد قطع شوطا في هذا الميدان وذلك بالعمل مع طبيب الأعصاب كارل برابرام على وصف العقول الكمية، وهذه الفرضية تفتح المجال أمام مفاهيم مختلفة عن ماهية النفس.
وقد ركزت الدراسات العصبية الحديثة على ذبذبات الدماغ وقدرتها على تشغيل وإيقاف الجينات المختلفة (جو و سباتزر ,1995م)، وتُظهر أبحاث ممارسة التأمل أنه يمكننا تعديل الذبذبات التي تبديها أدمغتنا، ويستطيع مستخدمي الكوكايين إيقاف إشاراته وذلك وفقا للأبحاث ( فولكو وآخرون ,2010م)، واستنادا للمبدأ العلمي العام فمن المستحيل أن تعود الأدمغة المصابة بالزهايمر أو السكتة الدماغية أواستسقاء الرأس للعمل طبيعيا، ومع ذلك فإن النشرات العلمية تعج بالحالات التي تثبت العكس، فيقول مورتيمور (1997م، ذُكِر في بياليستوك وآخرون2007م) على سبيل المثال أنه وجد أضرارا واضحة تتجاوز معايير مرض الزهايمر في 10% إلى 40% من تشريح أدمغة مرضى لم تظهر عليهم أي علامات ضعف إدراكي قبل وفاتهم، وفي السياق نفسه اتبع 636 مشاركا الاختبار الإدراكي، الاختبار قبل وفاتهم بانتظام، وأظهر تحليل تشريح أدمغة المتوفين أن 12% من أعراض الزهايمر أو صفاته البارزة تنتمي لمشاركين ذوو صحة إدراكية جيدة (تياس، سنودون، ديسروزيرز، رايلي، وماركسبيري، 2007م)، هذا إذا نظرنا للنفس على أنها نتاج وحيد لعمليات هياكل الدماغ وهذا الأمر مستحيل.
ومن المثير للاهتمام أن الأفكار كامنة حتى في حالات المرضى المتوفين سريريا وهذا ما أظهرته دراسة حديثة للدماغ (بارنيا وآخرون، 2014م)، فعند المرض تقوم الوظائف باستخدام هياكل لاتنتمي لها (غولدبيرغ، 2009م)، وهناك مبدأ أساسي في علم الأحياء ينص على أن الهيكل هو من يحدد الوظيفة وليس العكس، وتوضح هذه الحالات وغيرها أن هياكل الدماغ المتضررة لاتمنع دائما التعبير عن الوظائف (لوربر، 1970م تياس وآخرون، 2007م)، إن تعريف جونغ(1952م) للدماغ هو من جاء بهذه الملاحظات، فقد اعتبرها " مفكك للرموز لديه الوظائف اللازمة لتحويل التوتر أوالكثافة المُطلقة النسبية لنفوسنا -العالم النموذجي- إلى ترددات مُدركة" (ص 97).
وقد اقترح أنشتاين (1920م) في نموذجه الذي يستبعد الحيوية ويقبل الإيثر وهو سائل فيزيائي منوم وحامل العنصر الحيوي الخامس والمعروف بـ(كا) عند المصريين القدماء و(تشي) عند الصينيين وهو المسمى بـ(النفس) لدى المسيحيين، فنموذجه في الواقع ينُص على أن للفراغ بين الذرات خصائص فيزيائية، وقد أضاف أيضا أن " النظرية النسبية الخاصة لاتجبرنا على إنكار الإيثر"(ص9)، وأشار إلى أن "ميكانيكا نيوتن قد حركتها التجارب بالأشعة السينية وأشعة الكاثود السريعة" (ص7).
فيما برهن الفيلسوف عالم المنطق والرياضيات كورت غودل (1931م) والحاصل على جائزة ألبرت أينشتاين عام 1951م على أن أي نظام بديهي دقيق يُنتج بعض الحقائق الحسابية والتي تكون غير قابلة للإثبات وهذا أمرٌ جُزئي، فلا يمكن للمنطق البديهي الأساسي تقديم المعرفة الكاملة بجوهرها ولاعرض الواقع كله - وهذا ما نربطه خطأ بالعلم-، وتتضح هذه الملاحظة في الحجة النظرية لعالم الأحياء روبرت روزن، فكما قال روزن (1991م) لايمكن لنموذج الحوسبة أن يصف أنظمة الحياة المعقدة، لذا فإننا بحاجة لنموذج أوسع حتى نفهم الحياة والنفس بطريقة أفضل دون رفض النموذج المستخدم للأمور المقاسه.
وعلينا الاعتراف بأن وجهة النظر التحليلية -على الرغم من عدم اكتمالها- إلا أنها ساهمت بتقدم مذهل في التكنلوجيا وحسنت الظروف المعيشية للكثيرين، وللأسف فإنه تم تجاهل الواقع النفسي العميق للبشر بعد التطور السريع للمادية مما سبب زيادة في المشاكل بدءا من تدهور البيئة إلى انتشار الأمراض العقلية، وفي السنوات القليلة المقبلة سيعاني مايقارب 18.8 مليون أمريكي ممن هم فوق 18 سنه من الاكتئاب أي حوالي 10% من السكان، وسيشخّص نصفهم باكتئاب حاد، وسيصاب به امرأتان مقابل رجل واحد وفقاً لـ(المعهد الوطني للصحة العقلية، 1998م).
يُذكر أن أعراض الاكتئاب تظهر في وقت مبكر، فمتوسط عمر الإصابه به كان 29 سنه في عام 1996م، إلا أن الإحصائيات الأخيرة تُشير إلى أنه يصيب من أعمارهم 14.5 عامًا (كليرمان، ويسمان، 1998؛ نيمه، 2011م)، فواحد من أصل خمسة بالغين يعاني من اضطراب وجداني ( ريجر دي ايه , نارو دبليو اي , راي دي اس . وآخرون 1993م)، وقد ارتفعت نسبة الاكتئاب الرئيس عالميا لـ 37 % مابين 1990و2010م (موراي وآخرون، 2012م).
إن الأداة البحثية محصورة في القبول والفهم كالواقع الذي ينظمه الوقت والفراغ، لذا يعيش الفرد ضمن هذا النطاق في عالمٍ مادي مُصمت، فهو مجرد كائن تحت رحمة الأجسام الأخرى، وهذا مادفع هيزنبرغ (1974م) للقول "عندما تنعدم المفاهيم التي تُرشدنا على الطريق, فإن مقياس القيم يختفي وتتلاشى معه معاني أعمالنا ومعاناتنا، وفي النهاية نعتمد على اليأس والنفي، وهذا يقودنا لاعتماد الدين كأساس للأخلاق التي هي من مُسلمات الحياة " (ص219)، فلدى كل من علم النفس وعلم نظام الكائن البشري المتطور بالطبيعة القدرة لتسليط الضوء على الدين.
إن العلم كمنهج معتمد على المنطق والتحليل يرفض النفس لغموضها واقتصارها على العواطف، غير أن أبحاث الدماغ الجديدة تؤكد أن الإدراك محاط ومتأثر لاإراديا بالعاطفة (داماسيو، 1995م)، فالموضوعية التامة مستحيلة، ويقول جونع(1963م) أننا نتصور" أن الفكر له القدرة على التفكير والتجلي خارجيا " وبفضل هذا فإننا نتظاهر بوضع نقطة أرخميدس هدف خارج الأرض، والتي من خلالها يكون للفكر القدرة على أن يكون نفسه " (ص31) . ]من ترجمة الكاتب عن الفرنسيه[.
وعادة مايتجاهل الطلاب والعامة وجهة النظر العلمية للواقع، التي هي مادة نظرية متطورة دائما، وهذا مايدفعنا للإيمان بأن مايقبله العلم السائد هو الحقيقة.
ويرفضان فون برتالانفي وجونغ نظرة السلوكيين التي تعتبر التصرفات البشرية بدوافعها ومحركاتها طبيعة حيوانية، وبالطبع فإننا قد نحد من قدرات الناس وذلك بسوء المعاملة وطرق التعليم والاستهلاك وهذا ما يجعلهم ضحايا لغرائزهم و يُقلل تطورهم النفسي الطبيعي ويُعيقهم عن تحقيق كامل قدراتهم ، وهو رأي ذو وجهين .
ويرى فون برتالانفي كما هو الحال أيضا لجونغ وآخرون أن للطبيعة البشرية سمات غير موجودة في فئران التجارب، ويُرجع ذلك لنزعة السلوكيين في تصوير الآلهة على شكل حيوانات أو صفاتها وهو مايُدعى بالزوموروفيزم، ويرى أيضا طريقة فرويد للتحليل النفسي تحت نفس المنظور، فالبشر مدفوعون بالرموز التي طورها، ويشهد على ذلك عالم الشهرة، وكان لعالمة النفس التنموي شارلوت بوهل والتي تعرف فون برتالانفي وعلى اطلاع أيضا على أعمال سي جي يونغ الرأي نفسه حول أهمية عالم الرموز للبشر، فقد طورت هي وجونغ وآخرون نظرية المرحلة، حيث يتبع النمو الجسدي والنفسي للبشر تسلسل معين من المراحل، وقد ساعد علم نظام الكائن البشري المتطور بالطبيعة عالم الأعصاب بول دي ماكليان(1998م) بتحويل الدماغ الثلاثي التطوري إلى دماغ البنتان المتكون من خمس مراحل تطورية بمساعدة الحياة والمستوحى من النموذج الطاوي.
وتكمن الفروقات مابين جونغ وفرويد في تضارب أفكارهم حول أفضل الطرق لتخليص الناس من قيودهم النفسية، فـجونغ يرى أن الرمزية ضرورية للتفرد فيما لايعير فرويد هذا المفهوم أي انتباه، ففي رأي فرويد: كل مايخرج من الإنسان أساسه الرغبة الجنسية، وهو ما يُعارضه جونغ(1931م) بشدة، ويعتقد فرويد بوجود حاجة لشرح هذا المفهوم والتركيز عليه وجلب الانتباه له، فيما يعتقد جونغ أنه يجب على المريض أن يكون على اتصال مع الرمزية والهوية.
ويشير نموذج الحياة من خلال التنظيم والتثبيط إلى أن الناس وبتأثير من نظريات فرويد يبقون في عالم تحليلي له صفات دماغ الزواحف مع احتمالية ضئيلة لكسر تلك القيود، فالمجال مفتوح بالكامل لـجونغ وهناك فرصة لتمييز الواقع ولعالمية الذات التي تؤدي لتماسك الشخصية ككل، فالضفدغ قد يصبح أميرا وهذا ماتؤكده أبحاث الدماغ من خلال منظمين اثنين للدماغ البشري أحدهما يعمل دون وعينا وهو مرتبط بوسط قشرة الفص الجبهي وبالعالم الرمزي، أما الآخر فيرتبط بجوانب وظهر القشرة الأمامية ويعمل بوعينا، فمنظمة اللاوعي هي أول هيئة رقابية رئيسية (بيشارا إت آل.، 1997، 2000م) والتي تسمح باتخاذ القرارات (بيشارا وآخرون، 2000م) واختيار العمل واستقلال الجمعيات المستحقة لتعزيز الحوافز الأمامية (رولز وآخرون، 1994؛ رولز، 1996، 2004م).
وهو يشبه الحاسوب بتطبيقه الفوري لصدى الأنماط من اللاوعي، ويفترض توسيط الظاهريات-الفينومينولوجيات- المسمى بـ"الشعور بالصواب" والذي يسمح بالتقدير الفوري لمدى ملائمة دقة المعلومات أو الاستجابة أو العمل (جيلبوا & موسكوفيتش، 2002؛ موسكوفيتش & وينوكور، 2002م)، وهذا الشعور يسبق الوعي وهو تحقيق إدراكي دقيق للفص الجبهي للقشرة والظهري الجانبي لها وهو المنظم الثاني وكخطوة أولى فالتأثيرات المعتادة لا تنفذ (ص 2013، 2014م) ومن خلال المنظم الأول نستطيع مساعدة أو تعطيل الطبيعة في بحثها عن إيجاد نموذج بدائي كامل، فللبشر القدرة على الوصول لعالم المعلومات وذلك بالرموز والأحلام، وكما قال جونغ أنها تستند على عالم مثالي ولا وعي مشترك.
وإذا ماتتبعنا خبراتنا وحلولنا فإن الأحلام قد تعبر عن الحياة العامة أو الخاصة، وإني قد تلقيت معلومات حول فهمي للمخطط وذلك عندما واجهتني كلمة songe "سونج "وهي كلمة فرنسية تشير للأحلام التي تحمل رسالة قد توجه الشخص في الوقت الحاضر أو تلمح له عن حدث في المستقبل لتدلهُ على الطريق، وتأكيدًا لهذه الفرضية فإن هياكل الدماغ النشطة أثناء النوم غالبا ماتشمل وسط قشرة الفص الجبهي(كريجر، 2011م) المرتبطة بالمنظم الأول اللاواعي الأكثر شمولية، فيما ترتبط القشرة الأمامية الظهرانية الجانبية التي تكون صامتة أثناء النوم بالمنظم الثاني (مزور، باس-شكوت، & هوبسون، 2002م).
ومن خلال التعرض لعوالم الأمثلة والرموز والهوية فإن جونغ قد فتح المجال للتركيب النفسي، والذي أسسه روبرتو أساجيولي العضو في مجموعة زيورخ فرويد والتي تضم مجموعة من رواد التحليل النفسي المبكر، فقد كان تركيزه الأساسي على سعي الكائنات الحية نحو الكمال وعلى الإمكانات البشرية والتوسع في النمو، ومن خلال الفرضية القائلة بأن التركيب النفسي هو نتيجة للتكامل الصحي فإن فرويد قد استنتج بطريقة غير مباشرة أن التركيب النفسي ينبغي أن يكون هدفا للتحليل النفسي (فرويد، 1919م).
ويرتكز هيكل هذا النموذج الضمني على كل التقاليد العظيمة فأكثرها وصولا لنا النموذج الصيني الطاوي للعناصر الخمسة ونموذج ايورفيدا الهندي، واللتان أكدتهما تجربة الطبية والملاحظة على مدى 2000 عام، ووفقا للطاوية يقول جونغ:
"إنكم تدركون بالطبع أن الطاوية وضعت مبادئ نفسية عالمية، وهي تقبل الكل بغض النظر عن خلفياتهم لذا يمكن تطبيقها على كل البشر أينما كانوا "
(في إلنبرجر، 1975م، ص 559-560).
وإني شاهدت التطبيق الطبي الحيوي في علم التحكم الآلي لهذا النموذج المستمد من الطاوية من 1989 إلى 2004م على 10000 مريض تقريبا، ورأيت كيف يمكن أن يساعد الأفراد على استعادة توازنهم الجسدي والنفسي أيضا، وقد احتوت كتبي الثلاثة الأخيرة على نقاش الفرضيات والنتائج و والتطورات الأولية لهذا المنهج في علم النفس: علم النظام العام، فهذا النموذج هو اللغة التي سعى لها كل من باولي وجونغ، فالعلم المهتم أساسا بعالم منظم الدماغ الثاني والذي هو أداة لفهم الماهية والكيفية، لا يمكن أن يشمل النفس التي موضوعها "من" و"ماذا"، فهذه من وظائف علم النفس والمنظم الأول للدماغ.
وإذا كان علم النفس العميق يهدف لدراسة هذا النموذج وتطويره فإني على يقين بأن حلم جونغ في تجسير وربط علم النفس وعالم الرمزية بعالم مادي لواقع شامل ومتماسك سيتحقق بالتأكيد، وعندها ستتضح الرؤية الضبابية للعقل للوصول إلى الحرية ، فكما قضى الطب على الآفات الجسدية المزمنة يمكننا الاعتماد على الصحة العاطفية للقضاء على الاضطرابات الوجدانية أيضا، وعندها سنكون أقرب لمعرفة أنفسنا وأقرب للإنسانية الكاملة التي سماها جونغ بـ"هومو توتس" .