السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:47 صباحاً
حقيقة أم خيال؟
البحث عن المواقع الحقيقية الكامنة وراء الأساطير اليونانية
لماذا لم يقتصر أمر أساطير اليونان القديمة على دوام سردها فحسب، وإنما استمرت ليكون لها أثر عميق ودائم على سامعيها وعلى العالم أجمع حتى يومنا هذا؟ فالألعاب الأوليمبية، لا تزال أعظم حدث رياضي على وجه الأرض، يُقال إن من أقامها في الأصل هو هرقل تكريمًا لزيوس، بينما لا تزال الوحوش الأسطورية مثل: سايكلوبس، ومخلوقات الهيبوغريف، والكراكن تقبع في أفلام العصر الحديث كما هو حالها بأذهان رواة القصص اليونانية، فعندما يتعلق الأمر بالأساطير اليونانية يبدو أننا لا نزال مفتونين بها كما كنا دائمًا.
لا يُعتقد أن كل الأساطير ضربٌ من الخيال ولكن، يُعزى بأن لدى بعض منها جذورًا حقيقية ذات صلة بأحداث تاريخية التي أصبحت مُحرّفة واقتُبست مع مرور الزمن. إذ يعثر علماء الآثار باستمرار على مثل تلك المواقع، فكما تستطيع زيارة مدرج الكولوسيوم بروما، وأطلال مدينة إسبرتة، فبالتالي يمكن لقدميك أن تطأ الأماكن التي وُلدت بها أكثر حكايات الأساطير شهرة.
السير على درب الآلهة:
تبدأ رحلتنا بجزيرة كريت عند سفح أحد أكثر جبالها طولًا، وهو جبل إيدا. فهذا التكوين البسيط، والمستتر عميقًا في مركز الجزيرة الجبلي، يُشكل البقعة المثالية لمشاهدة بعض من معالم المدينة، أو التنزه أو إخفاء ملك الآلهة المستقبلي عن أبيه المفرط حماسة والمذعور. فقد حاول كرونوس، وهو أحد التيتانيين الأصليين في الأساطير اليونانية، أن يقضي على كافة أبنائه لمنع تحقق النبوءة التي توقعت أن يكون سقوطه على يد أحد أبنائه. فقام بابتلاعهم واحدًا تلو الآخر، ما عدا عندما حاول ابتلاع زيوس، الذي تمكنت ريا، وهي والدته، من إخفائه في كهف بعيد عن يد كرونوس. إذ يعتقد اليونانيون أن هذا الكهف يقع في أسفل جبل إيدا بجزيرة كريت، فقد كان لعدة سنوات موقعًا للعبادة والرحلات المقدسة. فالكهف الآن مفتوح للمشاهدة العامة، ويمكن الوصول إليه بعد تسلق قمة التل لمدة ٢٠ دقيقة وبعد المشي حوالي ٢٠٠ خطوة بداخل الكهف نفسه،سوف تتجول عبر الردهات التي يُقال إن زيوس، والذي يمكن القول بأنه أكثر شخصية شهيرة في كل الأساطير اليونانية، قضى فيها السنوات الأولى من حياته.
وحش أم حيوان من الثدييات؟
إن جزيرة كريت ليست مجرد منزل طفولة زيوس ولكنها، تُعرف كذلك بكونها مسقط رأس أحد أكثر المخلوقات الأسطورية شراسة: وهو سايكلوبس الأعور المتوحش. فقد عُثر على أمثلة للجماجم في جميع أنحاء الجزيرة، بالإضافة إلى كثير من الأماكن الأخرى باليونان، فهذه الجماجم يعود مصدرها لكائن ذي محجر كبير واحد للعين، ولديه صفان عملاقان من الأسنان وفي بعض الأحيان أنياب ذات مظهر طويل وقوي. ففي ذلك الوقت، لم يكن لدى اليونانيين أي معرفة عن مخلوق يبدو أي شيء مثل الجمجمة التي صادفتهم، ولهذا وُلدت أسطورة سايكلوبس. فنحن نعلم اليوم أن هذه الجماجم تعود في الحقيقة إلى الدينوتير العملاق، وهو من فصيلة الفيلة من عصر ما قبل التاريخ، وأن تجويف العين الضخم الوحيد ذاك في الحقيقة لم يكن ليحمل عيناً أبدًا، بل هو مخصص لخرطومه الضخم. وقد يكون مفزعًا كما هي الفيلة في بعض الأحيان، أعتقد أننا نتفق جميعًا على أن سايكلوبس مُلهم لقصةً مثيرة أكثر بكثير وراء وجود تلك الأحافير الغامضة.
من الغنى إلى الفقر:
ما يزال نهر باكتوليس بجنوب تركيا جزءًا مهمًا من التراث اليوناني الأسطوري، على الرغم من أنه لا يُعتبر كذلك في اليونان الحديثة. فهذا هو المكان على ضفاف الأنهار الذي يُقال إن الملك ميداس، صاحب اللمسة الذهبية، قام فيها بالتخلص من قواه بعد كفاحه لكي يأكل ويشرب وذلك بأن قام بإلقائها في مياه النهر. على الرغم من أنها قصة ذات مغزى عن الجشع والرغبة، فعلى الأرجح أن الأسطورة وُلدت تفسيرًا لسبب وفرة النهر بتراب الذهب خلال تلك الفترة. وكان يطفو بمحاذاة قاع النهر بين الرمال، إذ اُستخدم الذهب لإعمار بعض من أغنى الحضارات في تاريخ البلاد. فنحن نعلم الآن أن الذهب وصل إلى عمق المياه من الجبال القريبة، إلا أنه على ضفاف هذا النهر تحولت الخرافة من قصة إلى أسطورة.
الإبحار بعلم الآثار إلى أعماق جديدة:
بالإضافة إلى المفهوم الحديث عن الجحيم الآتي من الديانة المسيحية، فليس هناك تجارب أخرى عن الحياة الآخرة في الثقافة الغربية غير العالم السفلي الأسطوري في علم الأساطير اليونانية. فعدد قليل فقط من الأبطال قاموا برحلة إلى ذلك العالم المظلم والمُقلق بمحض إرادتهم، لكن هذا هو بالتحديد ما يعتقد علماء الآثار أنهم كانوا يفعلونه طيلة السنوات الـ٦٠ الماضية. ففي الخمسينيات، وجد رجلٌ ينزه كلبه على طول شاطئ ما بخليج ديوس على الساحل اليوناني الجنوبي مدخلًا صغيرًا إلى منظومة كهف هائلة، والتي لم تُكتشف لآلاف السنين.
فبداخل ذلك الكهف، عُثِرَ على أثر لحضارة يعود تاريخها إلى ٩٠٠٠ سنة ويعتقد علماء الآثار أنهم وجدوا واحدًا من أروع الأمثلة على وجود موقع دفن من عصر ما قبل التاريخ في العالم. إلا أن مظهر الكهف وجوّه هما على ما يبدو مصدر إلهام الأسطورة. فجدران الكهف ذات لون أحمر قاتم، مكسوة بالصخور والرواسب الكلسية الحادة إضافةً إلى بحيرة سوداء تفصل بين جانبي الكهف. هل يبدو هذا مألوفًا؟ أضف إلى ذلك حقيقة أن الكهف لم يكن له وجود في التاريخ قبل الآلاف من السنين عندما انهار مدخله، مُحتجزًا بداخله الآلاف من الأرواح النائحة، وبهذا يكون لديك الموقع المثالي للجحيم على الأرض.
الانغماس في علم الأساطير:
بعد رحلتنا إلى البر الرئيس الأوروبي، سنعود إلى جزيرة كريت الجميلة لنذهب في رحلة أخرى عبر الأساطير اليونانية. فقد يكون مثيرًا للدهشة أنه حدث الكثير على هذه الجزيرة بعيدًا جدًا عن الساحل اليوناني، ولكن خلال عصر اليونانيين القدماء، فقد كانت مركزًا رئيسًا للنشاط وتعج بالحياة، وهي تأتي في المرتبة الثانية بعد مدينة أثينا. فهنا على شواطئ الجزيرة الجنوبية، ستجد الموقع الأثري لميناء كوموز، الراقد على الهضاب الرائعة والريفية في الجزيرة. وأنت تتعمق في أطلال شوارع المدينة القديمة، فستجد نفسك قريبًا من متاهة حقيقية ذات مسارات، وأروقة وممرات ضيقة. عبارة عن قصر تيه داخل المدينة. وعلى نحوٍ مماثل، عثرَ علماء الآثار على سلسلة أخرى من القنوات والممرات التي تُشكل بناءً شبيهًا بقصر التيه بالقرب منها، وهذه المرة يقع في باطن الأرض في كهف خارج موقع جورتين. إذ يُعتقد أن الملك مينوس، الذي عُرفَ عنه أنه كان يُطعم أعداءه للمينوتور الشرس، عاش في هذه المنطقة وحكم منها. وحتى أن علماء الآثار يعتقدون بأنهم عثروا على غرفة العرش الخاصة به في أطلال كوموز. فمن الممكن إذن، أن أسطورة المينوتور وُلدت من قصور التيه المنشودة هذه. أو من المحتمل أن الحكايات صحيحة، وأن الوحش ما زال يتربصُ بممراتها. فنحن نعتقد أنه من الأفضل أن تزور جزيرة كريت وتكتشف ذلك بنفسك.
أبحر عبر البحر الأبيض المتوسط اليوناني مع القبطان كليف بلايوك واكتشف المواقع الأسطورية والتاريخية في جميع أنحاء الجزر اليونانية.