الخميس , 30 نوفمبر 2023 - 17 جمادي الأول 1445 هـ 6:41 صباحاً
أوقفوا الجنون
هناك علاج جديد فعّال ويقضي على الفصام ومن شأنه أن يغير طريقة معالجتنا للأمراض العقلية، وهناك الأسباب الفظيعة التي أعاقت معظم مهني الطب عن السماع عنه.
كان غلين فخوراً بالإنسان الآلي الذي يملكه وبطريقته الهادئة والمتواضعة، ففي عام ١٩٧٤م في معرض علمي لمدرسة ثانوية محلية في بوكا راتون بفلوريدا، قضى غلين - طالب في السنة الثانية والبالغ عمره ١٥ عاماً- شهوراً يركب كومة أسلاك ودارات على عجلات ذات ثلاثة أذرع تحوي كل منها لوحاً حساساً للضوء، سماه "الرجل الآلي قاهر المتاهات ومتحسس الضوء"، وتدور الأداة المبتكرة داخل صندوق حتى يكتشف أحد الأذرع ضوءاً على صورة مصباح وضعه غلين في مواضع مختلفة، ثم تتحرك باتجاه الضوء، متحايلة على العقبات التي وضعها غلين في طريقها.
وفي أحد الأيام وضح غلين للحكام بأن هذا النوع من التقنية يمكن استخدامه لجز الأعشاب، بل لنقل المعدات على سطح القمر في مهمة فضائية في المستقبل، وقد ربح هذا الإنسان الآلي جوائز عدة، وفي السنة التالية طور غلين المشروع وربح جوائز أكثر في كولورادو حيث انتقلت أسرته، وقد كتب أحد الحكام رسالة إلى غلين لإعجابه به حاثاً إياه على أن يتخذ الإلكترونيات مهنة له، وفي صورة ظهرت في الصحيفة المحلية كان غلين مرتدياً قميصاً ذا ياقة بأزرار سفلية مكوي بعناية, مرخياً إحدى يديه على الرجل الآلي الذي صنعه، وتبدو على زاوية فمه ابتسامة خفيفة.
لم تكن تمارا الأخت الصغرى لغلين مندهشة من نجاحه، فقد امتدت مواهب أخيها إلى الرياضيات والعلوم، فتعلم الروسية في المدرسة الثانوية حيث كان شغوفاً باللغة، وميالاً للفن، فكان يرسم رسوماً متحركة وصوراً ومناظراً طبيعية، تمكن من بيع القليل منها، وقد كتب أحد الأساتذة في التقييم "غلين موهبة رائعة بلا شك، فمن الجيد أن ترى شاباً يطور أسلوباً شخصياً", ولم يكن دائماً مرتاحاً مع الأطفال الآخرين مما جعل انتقالات الأسرة من كولورادو إلى فلوريدا وعودتها مرة أخرى، صعباً عليه، إلا أنه كان أنيساً وذا حس فكاهي شيطاني مع تمارا ووالديه إيرل وباربارا، فكان يمازح أخته ويشاركها طرائف من مجلة "Mad" التي يلتهمها فور وصولها إلى البريد.
غلين في المدرسة الثانوية, يعمل على مشروع معرض علمي, الصور هدية من أسرته.
وعندما أصبح عمر غلين ١٧ عاماً تقريباً بدأ فجأة يقضي ساعات طويلة في غرفته، وقد أقل من الحديث حتى مع أسرته، وفي أحد الأيام تذكرت تمارا بأن غلين ذهب إلى غرفته وأمضى ساعات يتلف أشياءه ومن ضمنها مجموعته الثمينة من ألبومات بيتلز جميعها، وفي ليلة أخرى عادت باربارا إلى المنزل لتجد غلين في غرفة الطعام جالساً على الأرض، وقد نحت بالسكين صليباً على الجدار ولم يرد عندما تحدثت إليه، فطلب والدا غلين المساعدة من طبيب أسرتهم وعدداً من الأطباء النفسيين والأخصائيين الاجتماعيين، في البداية اعتقد الأطباء أن لديه اضطراباً ثنائي القطب واكتئاباً، ولكن بعد بضعة أشهر وصل أحد الأطباء النفسيين إلى التشخيص السليم: لدى غلين فصام.
وفي السنوات القليلة التالية تردد على المستشفيات ذهاباً وإياباً بينما كان والداه يبحثان بجدية عن أطباء وعلاجات قد تساعده، وأحياناً في منتصف الليل يبدأ في الصراخ بلا سبب واضح أو يشرع في التحدث بحماس عن الملائكة والجن الذين يعتقد بأنهم كانوا يتواصلون معه ربما عبر أجهزة إليكترونية، وقد وصف طبيبه أدوية تساعد أحياناً في إيقاف الوساوس إلا أن لها تأثيرات جانبية بالغة, كما حاول المعالجون والاستشاريون بدرجات حماس متفاوتة أن يعلموه التمييز بين الخيال والحقيقة، إلا أن الرسالة الشائعة فعلاً لكل من عمل مع غلين هي أن حياته أساساً انتهت، فلن يصبح مهندساً مشهوراً عالمياً ولن يسافر إلى القمر، بل إنه لن ينهي دراسته الثانوية.
وقد سارت الأمور كذلك، ففي إحدى فترات الصحو عندما كانت الأدوية تجمح بعضاً من ذهان غلين، تمكن من الحصول على اختبار تطوير التعليم العام، لكنه لم يلتحق بالكلية أبداً ولم يتولَ وظيفة قط، وإنما عوضاً عن ذلك عاش على فحوصات الإعاقة بينما يتردد بين السكن المدعوم والمساكن الجماعية للمرضى النفسانيين، وقد كانت وساوسه تأتي وتذهب بناء على تناوله لأدويته وعدمها، وأصبح يدخن كثيراً، كما أصبح مهووساً جداً ببعض الأفكار المستهلكة والمتكررة كثيراً في الإنجيل بأنه لن يغتسل بل سيدع بيئته متسخة ولن يأكل، ولولا أمه التي ظلت تعتني به لآل به الأمر في الشوارع.
وخلال ذلك كله اتخذت تمارا سيل التي تصغر غلين بثلاث سنوات دور الأخت المتزنة دون كلل، (وقد طلبت منا تمارا ألا نستخدم الاسم الأخير لغلين في هذه القصة)، عندما كانت النوبات الزورانية تباغت أخاها المبدع والمضحك واللطيف كانت تحاول تهدئته دون أن تظهر خوفها، وقد أصبحت مرتابة بشدة من مهني الصحة العقلية الذين أخبروا غلين خلال مراحل مختلفة بأنه يتوجب عليه ألا يحاول الحصول على وظيفة وحثوا الأسرة على التوقف عن دعمه مادياً (النصيحة التي تجاهلها والديه)، وشعرت تمارا بذنب الناجي حيث قطعت أشواطاً بينما لن يخوض أخوها أبداً تجربة: إتمام الدراسة والزواج والحصول على وظيفة، وقد قالت "كان الذهان زلزالاً في واقعنا، تماماً كزلزال كبير حيث تجد نفسك غير واثق بالأرض التي تسير عليها، والشيء نفسه ينطبق على الذهان، سواء للشخص الذي يعاني منه أو المقربين منه."
استقرت تمارا أخيراً في ضواحي بورتلاند في ولاية أوريغون حيث عملت لدى وكالة محلية للصحة العقلية، ومن خلال عملها في أوائل الألفين سمعت عن طريقة جديدة جذرياً للفصام والتي طورها باحثون في أستراليا، وقد ذُهلت تمارا حين اكتشفت بأن هذا البرنامج يتخذ موقفاً تجاه الفصام مختلفاً جداً عن كل من عالج أخاها تقريباً، حيث أُخبرت تمارا وأسرتها مراراً وتكراراً بأن الفصام حالة مرضية ميؤوس منها، وفي المقابل كان هؤلاء الباحثون الإستراليون مقتنعين بأن الكثير ممن يعانون يمكنهم أن يعيشوا حياة طبيعية إذا حصلوا على نوع العلاج الصحيح في الوقت المناسب.
اعتمدت طريقة العلاج هذه على سؤال بسيط قلب كل ما اعتقد العلماء يوماً بأنهم يعرفونه عن الفصام: ماذا لو أمكن بالفعل منع أشد أعراضه تدميراً تلك التي ابتلعت شخصية غلين؟ في دول أخرى تغير هذه الطريقة حياة الناس بصور لم يتخيل الأطباء النفسيون أبداً بأنها ممكنة، ولكن في الولايات المتحدة بالكاد اتسعت إلى بضعة مراكز أكاديمية ومتخصصة، بل يبدو أن قلة يدركون وجود هذه الطريقة الانتقالية المحتملة لهذا المرض المخيف حتى الأطباء مهني الصحة العقلية نفسهم.
كلفنا غلين براون – فنان لديه فصام – بأن يوضح كيف تبدو مراحل الذهان,
الصورة الأولى: "أنا هادئ لكني أعلم بأن شيئاً غريباً يدور في دماغي."
الصورة الثانية: "أشعر بأني غريب ويقظ, أعلم أن هناك خطأ ما لكني لا أستطيع إصلاحه, همسات خافتة."
لا يدرج كثير من الناس الفصام في قائمة الأمراض الخطيرة التي ترهق المجتمع الأمريكي إلا أنه كذلك، حيث يؤثر الفصام على حوالي ١٪ من السكان أي ما يقارب ثلاثة أضعاف عدد الأمريكيين الذين يعانون من مرض الباركنسون، ولأن المرض يظهر عادة عند المراهقة أو البلوغ المبكر فإنه يستلزم سنوات من الحياة الصحية أكثر من حالات أخرى كاللوكيميا وفيروس الإيدز، كما أن المصابين به يموتون مبكراً، قبل الأمريكيين السليمين بحوالي ١٢ عاماً، ويقول الاقتصاديون أن الفصام يكلف الولايات المتحدة ٦٠ بليون دولار على الأقل في السنة أو ربما أكثر بكثير، حيث ننفق على أشكال الدعم الكثيرة التي يحتاجها المصابون بالمرض وننفق على ما يحدث عندما لا يتلقون الدعم الذي يحتاجونه، وينتهي الأمر بأكثر من ٤٠ بالمائة من المصابين بالفصام في السكن الجماعي المراقب أو دور الرعاية أو المستشفيات، وينتهي الأمر ب ٦% آخرين في السجن لأجل جنحات أو جرائم بسيطة، بينما ينتهي الأمر بنسبة مماثلة في الشوارع.
وقد عرف الفصام طويلاً بين الباحثين بمقبرة البحث النفسي، وفي عام ١٨٩٠ عندما بدأ الطبيب النفسي الألماني إيمييل كرابلين بتصنيف الأمراض العقلية وضع تشخيصاً واحداً لجنون غريب يبدو أنه ظهر في أواخر العشرات وأوائل العشرينات وهو مزيج من الوساوس والهلوسة وخلل إدراكي كبير، ومن ثم عرف "بالخرف المبتسر" أي حرفياً "الخرف المبكر" والذي كان متوافقاً مع تفسير كرابلين للعقل المتفكك والمتعذر رجوعه، وبعد عشر سنوات أعطى الطبيب السويسري أويغن بلولير المرض اسماً حيث شكّل الكلمة من الجذور الإغريقية "schizein" وتعني انقسام و “phren” وتعني عقل، وحدد بلولير أربعة أصناف للأعراض والتي مازال الأطباء النفسيون يستخدمونها اليوم وهي اضطراب العلاقات, والتفكير والسلوك الذاتوي، وشذوذ في العواطف، والتناقض الوجداني، إلا أن هذه الأفكار لم تؤدِ إلى أي تقدم كبير في العلاج، وقد جرب بلولير والكثير من معاصريه -جميع تلاميذ فرويد- المعالجة النفسية وجرب آخرون الجراحة الفصية وتحفيز النوبات في محاولة ل"تنفير" الفصام خارج الجسم، وبغض النظر عن الطريقة فإن النتيجة النهائية كانت السجن الدائم في مصحة ما.
لم يبدأ العلماء في فهم الأساس البيولوجي للفصام إلا بعد الحرب العالمية الثانية، فانكبوا على الدوبامين وهو المادة الكيميائية التي تحمل الإشارات في الدماغ والتي تؤثر على الحركة والعواطف، وتوقف هذه العقاقير التي تعيق بعض مستقبلات الدوبامين في الدماغ الوساوس والهلوسة لتقلل بل وتزيل أحياناً إشارات الجنون الخارجية، كما أن استحداث الكلوربرومازين والمسوق باسم "الثورازين" أوقد المطالبات أخيراً بإخراج المصابين من المصحات حيث أن العقار مكّن المصابين بالفصام من الانضمام مجدداً إلى مجتمعاتهم دون الانخراط الواضح في سلوك نفسي.
لكن هذه الثورة ذهبت بعيداً، حيث سببت مضادات الذهان (تشمل الإصدارات الجديدة والجيل الثاني) تأثيرات جانبية خطيرة ابتداءً بالاضطرابات العضلية والحركية وانتهاء بزيادة الوزن، وكان هذا أحد الأسباب الرئيسة لتوقف ٤٠٪ من المصابين بالفصام عن تناول أدويتهم خلال ١٨ شهراً، وبينما تعزز مضادات الذهان الأعراض "الإيجابية" للفصام كالوساوس إلا أن لها تأثيراً أدنى على الأعراض "السلبية" والتي ربما تعد أكثر تدميراً، فقد يفقد المصابون بالفصام القدرة على التركيز أو تحمل الجهد أو الاستمرار في محادثة ما أو التواصل البصري، فيصبحون تدريجياً بمعزل عن الحياة الطبيعية، وحيث أنهم يفقدون جوهر شخصيتهم فإنهم غالباً ما ينفرون ممن يعتنون بهم، لكن ذلك لا يحدث بالطريقة نفسها للجميع، حيث يتعافى البعض تماماً بمفردهم ولأسباب لا يعرفها الباحثون بعد ولكن خلال الثمانينات كانت النظرة السائدة لدى مهني الصحة العقلية أن الغالبية العظمى من المصابين بالفصام لن يعيشوا حياة مستقلة أبداً.
إلا أنها ظهرت مصادفة كما يحدث غالباً في الطب الاكتشافات التي تتحدى هذا المفهوم، وقد وجد الباحثون عبر السنين بأن الأجزاء المهمة من الدماغ لدى المصابين بالفصام أكبر من المعتاد بما في ذلك قشرة الفص الجبهي الذي يتحكم في صناعة القرار، أما المادة السنجابية – الاتصالات العصبية التي تنقل الإشارات الكهربائية لتشكل الأفكار والعواطف – فتكون أرق، لكن الباحثين الذين اكتشفوا ذلك كانوا في الغالب يراقبون من عانوا من المرض لمدة، ولهذا فإنهم لا يعرفون ما إذا كانت هذه الاختلافات في الدماغ نتجت عن المرض أو العلاج أو كليهما معاً.
وعندما بدأوا بدراسة من ظهرت عليهم الأعراض مؤخراً وجدوا بأن التغييرات في قشرة الفص الجبهي والمادة السنجابية أقل وضوحاً بكثير، وكان المرضى أكثر حساسية للعلاج وهذا يعني بأن الجرعات العالية المعيارية تسبب تأثيرات جانبية أكثر إنهاكاً- في حين أن الجرعات المخفضة ملائمة أكثر للتحكم بالهلوسة والوساوس، كما أن المرضى الذين شخصت حالتهم أخيرا استجابوا بصورة أفضل للمعالجة المعرفية لمساعدتهم على التعامل مع الأفكار الشاذة، وفي النهاية اتجه الباحثون إلى متغير أساسي: مدة الذهان غير المعالج، وقد افترضوا بأنه كلما كانت الفترة بين ظهور الأعراض للمرة الأولى وحصول الشخص على العلاج أقصر كلما كانت الفرصة أكبر لنوع من التعافي المجدي.
وقالت تمارا: "كان الذهان زلزالاً في واقعنا، تماماً كزلزال كبير
حيث تجد نفسك غير واثق بالأرض التي تسير عليها"
من أول الأطباء النفسيين الذين حولوا هذه الأفكار إلى ممارسة هو باتريك ماكوري أسترالي اجتماعي، والذي كان يعمل في مستشفى بحثي في ملبورن وكان فزعاً مما حدث لمرضى الفصام هناك، فقد وصفها بالفظاعة، كانوا يُعطون العلاج الذي يحتاجونه ١٠ مرات ثم لا يعطون شيئاً آخراً وإنما يقذفون فقط مرة أخرى في المجتمع، قد تتحكم العقاقير المضادة للذهان في بعض الأفكار الشاذة لكن حياتهم أصبحت خربة" وفي نهاية الثمانينات قرر ماكوري أن يجرب ويقلل الفجوة بين ظهور الأعراض والعلاج، وهذا يعني أولاً تشخيص المرض مبكراً قدر الإمكان، وأولى العلامات البارزة الأوهام أو الهلوسة، وبعد مرور الوقت -أسابيع أو شهور أو بضع سنوات- يفقد المصابون بالفصام "الاستبصار"، أي أنهم لا يعودون يدركون بأن الأصوات الغريبة والتخيلات التي يواجهونها ليست حقيقية.
وأخيراً يبدؤون بالحصول على فترات انتكاسة ذهانية – مدة ممتدة من الزمن يفقدون فيها الاستبصار بطرق تجعل الأداء الطبيعي مستحيلاً، وفي هذا الوقت لم يتلقَ الغالبية العظمى من الناس أي علاج حتى نهاية فترة الانتكاسة الأولى على الأقل.
طور ماكوري وزملاؤه مؤخراً استفتاءً طويلاً يمكن أن يستخدمه الأطباء لفحص الإشارات التحذيرية للذهان، فعندما شُخّص المتوقع إصابتهم بالمرض لم يكن العلاج الذي قدمه لهم طبيبهم "اختراع صاروخ" كما يحب ماكوري أن يسميه، حيث دُمجت جرعات منخفضة من العلاج لأولئك الذين طلبوه مع مجموعة من الخدمات أكثر شمولاً وتنوعاً مما يقدمه الطب النفسي تقليدياً، وهذا يشمل معالجة وتقنيات ملائمة لمساعدة مرضى الفصام على إكمال الدراسة أو الاستمرار في وظائفهم – تدخلات يراد بها إيقاف الانتكاس والذي لا يتعافى منه كثير من الناس أبداً.
كانت هذه الخطة التي سماها ماكوري وغيره "التدخل المبكر" نقطة فاصلة في عالم الصحة العقلية، بل نجح المنطق نفسه بالفعل حيث استخدمه الأطباء لعقود لتقليل حدوث الأمراض البدنية الخطيرة، فلمحاربة مرض القلب مثلاً يفحص الأطباء ضغط الدم المرتفع ويصفون علاجاً للسيطرة عليه، بل أيضاً يرشدون الناس إلى كيفية تجنب زيادة الوزن عن طريق نظام غذائي وتمارين، ومنذ عام ١٩٧٢ انخفض معدل الوفاة من مرض القلب التاجي إلى النصف تقريباً – ويعتقد الباحثون بأن للرعاية الوقائية الأساسية نصيباً في تحقيق هذا الانخفاض كنصيب التقدم في الجراحة.
لكن الفكرة لم تطبق إلا أخيرا في الطب النفسي، فتاريخياً عولجت الأمراض العقلية الخطيرة إجمالاً في مراحلها المتقدمة فقط عن طريق مهاجمتها بجرعات كبيرة من العقاقير مصحوبة بالمعالجة، مفترضين بأنه لم يعد هناك المزيد لعمله.
وقد قاس ماكوري أخيرا التشابه بين الفصام والسرطان، حيث يعتقد الأطباء أن للسرطان مراحل ملحوظة – من المرحلة ١ حيث يمكن للكشف المبكر أن يحدث فرقاً هائلاً في معدلات البقاء على قيد الحياة إلى المرحلة ٤ حيث ينتشر السرطان ويتحول التركيز عادة إلى الإشراف على تدهور المريض الحتمي، وفي فكرة ماكوري: يمر الفصام بمرحلة "بادرة" حيث تظهر الأعراض تدريجياً ومرحلة "النوبة الأولى" والتي تشمل في المتوسط السنتين الأولى الأول التي تسبق فترة الانتكاسة الأولى وأخيراً المرحلة "المزمنة" حيث يسبب المرض انتكاساً ثابتاً في مرضى كثر- والتي يصعب إن لم يستحيل تبديلها، ويعتقد ماكوري بأنه عن طريق تدارك الناس في المرحلتين الأولى أو الثانية قد يتمكن الأطباء النفسيون من منع المرض من الوصول إلى شكله الأكثر تدميراً، ويقول كين دكوورث – طبيب نفسي ومدير طبي للتحالف الوطني للأمراض العقلية: "كان كل ما رأيناه في الثمانينات هو تطابق الفصام في المرحلة ٤، وكأنك اختصاصي أورام وكل ما تراه هو أشخاص لديهم سرطان ثدي نقيلي".
وفي ١٩٩٦ نشر ماكوري وزملاؤه بعض النتائج المبكرة في إحدى مقالات ١٩٩٦ لدى صحيفة Schizophrenia Bulletin ، فمقارنة بمرضى الفصام إجمالاً قال باحثون أستراليون بأن الذين جربوا عيادة ملبورن قضوا حوالي نصف الأيام في المستشفى، كما أنهم حصلوا على نتائج أفضل في بعض (إلا أنها ليست كل) اختبارات التقييم النفسي المعيارية وأظهروا علاقات أفضل مع الأسرة والأصدقاء واستعادوا بعض الصفات مثل الحافز والتعاطف، وفي الوقت نفسه تقريباً توصل الباحثون حول العالم في الدنمارك والمملكة المتحدة والولايات المتحدة إلى نتائج مشجعة بالطريقة نفسها، وقد قالت لي ديانا بيركنز1 – طبيبة نفسية أجرت برنامج تدخل مبكر في جامعة نورث كارولينا لمدة ١٠ سنوات تقريباً اعتدت أن أعالج الفصام السريري ولم أكن أتوقع أن يتحسن الناس هكذا، فلم يحدث ذلك مع هذا النوع من الذهان."
1 من الأمريكيين الذين لعبوا دوراً رئيساً في هذا البحث: جون كين من مستشفى Zucker Hillside, جيفري ليبرمان من كولومبيا, توماس مقلاشن من Yale, ووليام ماكفارلين الذي أنشأ برنامج تدخل مبكر في Maine
الصورة الأولى: "يبدأ التعرق, تصبح الهمسات أعلى, تظهر الهلوسة, وأصبح انطوائي"
الصورة الثانية: "تعلو الهمسات, يبدأ الخوف والغضب, والشعور بأن الجميع ضدي ويريد أن يؤذيني بأسوأ طريقة."
كانت الأصوات خافتة في البداية، اشششش، اششششش، إلا أنها قريباً تعالت وأصبحت أكثر إلحاحاً وأكثر إنذاراً، أنتِ قبيحة، أنتِ بشعة، أنتِ فاسدة، أنتِ كريهة.
في عام ٢٠١٢ كانت مار جي (التي طلبت مني عدم استخدام اسمها الحقيقي في هذه القصة) تبلغ من العمر ٢١ عاماً وتعيش في نيويورك مع والدتها، ولم تكن حياتها سهلة، فقد نشأت في مشروع إسكان في أسرة كبيرة وكان يتحرش بها قريب لها، إلا أنها تجاوزت ذلك في الثانوية وكانت في السنة الثانية من الكلية تدرس العدالة الجنائية، ومازالت تتذكر اليوم الذي بدأت فيه بسماع الأصوات، فقالت ببساطة "لقد هاجمتني، هكذا كانت تبدو" كانت تبدو الأصوات أحياناً أصوات قبلات أو آهات كما لو كانوا يمارسون الجنس، وأحياناً يتجادلون معاً بشأن ما إذا كان فستانها الذي ترتديه جميلاً، وأخيراً أصبحت محادثة مستمرة بداخل رأسها يستحيل معها حتى إكمال فكرة.
قرر طبيب نفسي بأن مار جي لديها فصام وأعطاها مقالاً عن المرض ووصفة لمضادات الذهان، وقالت بأن الأقراص حولتها إلى "زومبي" – فقد نامت لمدة يومين متواصلين ويسيل لعابها لا إرادياً وأصبحت ساقها خدرة جداً وبدأت تعرج أثناء السير عرجاً واضحاً، وبعد أن توقف تأمين مار جي عن الدفع لعلاجها توقفت عن تناول أدويتها؛ وهنا حدثت انتكاستها الذهانية الأولى.
وذات ليلة في عام ٢٠١٣ أصبحت مقتنعة بأن أصدقاءها وزملاءها في الصف كانوا يتآمرون لإيذائها في المدرسة، فقادت سيارتها إلى العديد من منازلهم ثم خرجت وبدأت بالصراخ: "أنتم سحرة أشرار! أنا أعرف ما تنوون فعله!" وعند أحد المنازل خرج رجل وأمرها أن تسكت وأخيراً لكمها على وجهها، وقد حاولت أن تدهسه فاصطدمت بسيارتين مركونتين متلفة سيارتها بشدة أثناء ذلك، وعندما وصلت إلى المنزل وهي مازالت تعاني جداً من الذهان اتصلت والدتها بالشرطة الذين أخذوها إلى مستشفى عقلي.
وهناك حصلت مار جي على جرعات عالية من الدواء وحولت إلى عيادة خارجية حيث تقول بأن العاملين لم يقدموا لها سوى المزيد من الأدوية، ولم يذكر لها أحدٌ إمكانية العودة إلى دراستها، وخلال أسابيع قليلة كانت تسمع الأصوات مرة أخرى وتكتب آيات من الإنجيل على جدران منزل والدتها "لتطرد الشياطين" وقد انتهى بها المطاف مجدداً في المستشفى لكن الذهاب إلى العيادة الخارجية لم يزعجها هذه المرة.
من كل دولار تنفقه الحكومة على الأبحاث الطبية -من خلال المؤسسات الوطنية الصحية- يذهب أقل من ٤ سنت لجميع الأمراض العقلية.
أخذت سيارتها وسارت من ذا برونكس إلى كوينز لتنام ليالٍ عدة في مواقف سيارات مركز تسوق، بحثت عن وظائف في مطاعم الخدمة السريعة واستخدمت دورات المياه فيها للاغتسال، وعندما كانت تعلو الأصوات جداً كانت تقود سيارتها مرة أخرى، وفي الليلة الخامسة تقريباً (لا تتذكر مار جي التفاصيل جميعها) قادت سيارتها في مانهاتن إلى شارع ١٦٨ في ويست سايد، وعندما أمعنت النظر في السيارات الأخرى كان السائقون أشخاصاً تعرفهم، وكانت متأكدة بأن بعضهم كان يتبعها.
أخيراً انعطفت مار جي إلى اليمين انعطافا مخالفاً أمام ضابط شرطة فأوقفها واكتشف بأن والدتها قد أبلغت عن سرقة السيارة، ولكن بدلاً من القبض عليها اتصل الضابط بوالديها اللذين أدخلاها إلى معهد الطب النفسي في نيويورك، وفي هذه المرة تم تحويلها إلى برنامج تدخل مبكر يسمى OnTrackNY.
أولاً أكد أحد العاملين بأن مار جي كانت تحت سن الثلاثين وحدثت أول انتكاسة ذهانية لها خلال السنتين الماضيتين، ثم بدأت بحضور جلسات مرتين في الأسبوع مع موظفين يعملون معها مباشرة لإيجاد خطة علاج، وهذا مبدأ جوهري للتدخل المبكر يعرف ب "اتخاذ قرار مشترك" ويهدف إلى مساعدة المرضى على الشعور بأنهم مشاركين في رعايتهم، وقد حولها طبيب نفسي متفانٍ إلى العلاج بجرعات أقل ذات تأثيرات جانبية أقل، وساعدها أحد المعالجين على تطوير خطط للتصدي لأوهامها، ورافقها بعض العاملين إلى المحكمة لتسوية المخالفات المرورية لتلك الليلة، التي سارت فيها حول مانهاتن وتواصلوا مع مدرستها لوضع ترتيبات خاصة لمرضها، وعملت مع مستشار توظيفي كان يعد المقابلات الشخصية للوظائف وساعدها للاستعداد لها، فأحياناً يذهبان لشرب القهوة في Panera Bread ويتحدثان عما تريد أن تفعله بعد تخرجها في الكلية.
ستكمل مار جي برنامج السنتين قريباً إلا أن العاملين يظلون متاحين بعد ذلك عبر الاتصالات الهاتفية والاستشارات، وفي المستقبل سيعتمد شفاؤها إلى حد كبير على عزيمتها على المحافظة على نظامها العلاجي وطلب المساعدة عندما تحتاجها، وقد أخبرني من يعملون مع مار جي بأنها لم تتخلف غالباً عن أي موعد بالرغم من أن رحلتها تستغرق أكثر من ساعتين في رحلات الباص أو القطار لكل اتجاه، وتقول نانان ليو – معالجة مار جي – "رأينا مرضى يتحسنون أكثر وأكثر، لم أُتعلم بتلك الطريقة فقد كان هذا شيئاً تمكنا من عمله على أساس منتظم"
عندما التقيت بمار جي للمرة الأولى في يونيو في مكاتب OnTrackNYفيthe Upper West Side كانت ترتدي بعناية بنطلوناً قصيراً وقميصاً ذا أزرار مع شعر مجعد مسدول بنعومة فوق أذنيها، كانت تنظر إلي مباشرة عندما نتحدث، مبتسمة مراراً وجالسة غالباً بانتصاب شديد، وفي السنة الماضية حصلت على أ في جميع المقررات تقريباً، وفي هذا الفصل تدرس خمسة مقررات بدلاً من الثلاثة المعتادة لتعوض الوقت الذي فاتها بسبب المرض، وقبل أن نلتقي ببضعة أشهر حازت على دور متحدث رئيسي في مسرحية لشركة مسرح صغيرة (وقد حضرت معالجتها ليلة الافتتاح) وقالت مار جي أنها تحب العمل في القانون وأيضاً في إنشاء موقعها الإلكتروني لمساعدة من لديهم فصام، وقد أخبرتني بأنها لا زالت تسمع الأصوات ولكن بمساعدة معالجتها تعلمت أن تتجاهلها، وقالت: "تأتي الأفكار في موجة، فلا تستطيع إيقافها، وإنما عليك فقط أن تدع الموجة تتدفق، عليك فقط أن تدعها تذهب، 'أوه هناك فكرة قادمة دعها تذهب' وكأنها شهقة أو تجشؤ".
وعند الاستماع لمار جي أدهشني التشابه الكبير بينها وبين غلين، فقد كان كلاهما شابين ذكيين باغتهما مرض مخيف، ولكن بينما لم يتعافَ غلين مطلقاً يبدو أنه من الممكن جداً أن تعيش مار جي مع المرض بينما لا تزال تستعيد نفسها.
وفي يوليو سافرت إلى أوريغون لألتقي بتمارا أخت غلين التي أصبحت الآن مديرة لمبادرة التدخل المبكر في الولاية – تحالف الدعم والتقييم المبكر، جلسنا في مكتبها في بورتلاند المطل على أفق وسط المدينة وجبال الكاسكيد تملأ النوافذ الكبيرة، ولتمارا ملامح وجه دائري؛ وتومئ برأسها كثيراً عند الاستماع وتتحدث بصوت هادئ، وقالت: "كنت أحاول جاهدة أن أفهم ما الذي قد يساعد غلين لعدة عدة سنوات– بل طيلة فترة شبابي" وحيث تعلمت الكثير عن التدخل المبكر قالت: "أدركت أنه كان يحول القصة البديلة التي كتبتها في رأسي إلى حقيقة – ما الذي كان سيحدث في حياتنا".
غلين وتمارا مع والدهما إيرل
وتعد EASA واحدة من أقدم مبادرات التدخل المبكر في الدولة، ونظامها العلاجي مشابه جداً لنظام OnTrackNY إلا أنها تبذل جهداً خاصاً للوصول إلى الناس قبل أن تحدث لهم انتكاسة ذهانية، ويوعي العاملون مدرسي المدارس ومدربي كليات المجتمع ومزودي الرعاية الصحية ومهني تنفيذ القوانين بالعلامات التحذيرية للذهان، مثل: الانطواء المفاجئ وإهمال العمل أو المدرسة أو الثورات الشعبية الطائشة، (وتعد الحلقة المقدسة الحالية في أبحاث الطب النفسي هي تطوير اختبار دم أو أي طريقة أخرى لتشخيص المتوقع إصابتهم بالفصام، إلا أن بعض الخبراء والمتحمسين قلقين من التشخيص والعلاج المبالغ فيهما والآثار السلبية الأخرى لاكتشاف المرض وربما معالجته قبل ظهور الأعراض).
وفي مكتب أوجين في EASA والذي تديره المجموعة الطبية الصحية للسلام التقيت باختصاصي مؤثر لدعم الزملاء ويبلغ ٢٥ عاماً وقد طلب أن يشار إليه بآرشر، وقد خضع للبرنامج بنفسه بعد إصابته بالفصام قبل ستة أعوام، ويقول: "إن البرنامج غير حياتي كلياً من شخص لا أستطيع مفارقة سرداب أمي، حيث اعتقدت بأني سأبقى هناك للأبد" وكانت تجربته قد منحته بصيرة مختلفة لكيفية الوصول إلى المرضى الذين لديهم مشاكل في التواصل في الأماكن الرسمية، ويحب آرشر العزف بالجيتار مع أولئك المهتمين بالموسيقى وقد لاحظ أن من يعانون من الذهان يجدون التحدث في جولات السيارة الطويلة سهلاً، حيث يقول: " هناك شيء ما بشأن النظر من خلال النافذة الأمامية للسيارة والتحدث إلى من بجانبك دون المواجهة"
وبعد عقد تقريباً من نشر ماكوري وفريقه لنتائجهم الأولية صار هناك الآن أساساً صلباً من الأبحاث العلمية، التي تدعم أهمية التدخل المبكر، وللتو في هذا الصيف أظهرت دراسة مفاجئة من باحثين في Yale بأن التدخل المبكر يوفر المال فعلاً حيث أن من يحصلون على الخدمات يصبحون أقل حاجة للاستشفاء المكلف إلى حد ما، ففي برنامج EASAانخفض معدل استشفاء المرضى من نصف المشاركين في الثلاثة الأشهر الأول إلى نحو خمسة بالمائة بعد ١٨ شهراً، وتنبه ليزا ديكسون الطبيبة النفسية بجامعة كولومبيا التي صممت ONTrackNY وتديره إلى أن التدخل المبكر مازال جديدا نسبياً فهناك قلة في البيانات المتاحة عن كيفية تسيير حياتهم لاحقا،ً وكيف يتسنى لهم دعم أفضل على المدى الطويل، إلا أن النتائج مبشرة بشكلٍ كافٍ مما جعل أنظمة الرعاية الصحية الوطنية في المملكة المتحدة وأستراليا توفر خدمات التدخل المبكر الشاملة، ومتوافرة بشكل واسع في أنحاء أوروبا وفي كندا.
أما هنا في الولايات المتحدة فقصة مختلفة، فقد أشار روبرت هينسن وهو موظف بارز في المؤسسات الوطنية للصحة العقلية إلى أنه بالرغم من أن الباحثين الأمريكيين لعبوا أدواراً محورية في البحث وتطور التدخل المبكر إلا أن قلة من البرامج فقط وفرت الخدمات العلاجية فعلاً، ففي يناير ٢٠١٤ بعد مجزرة المدرسة المتوسطة Sandy Hook في نيوتاون بولاية كونيتيكت تواصل عدد من النواب مع المؤسسات الوطنية للصحة العقلية والتحالف الوطني للأمراض العقلية للحصول على نصائح عن كيفية تطوير معالجة ذوي الاضطرابات العقلية، وقد أوصى الخبراء2 بإنفاق أموال أكثر على التدخل المبكر، وقد رصد الكونغرس ٢٥ مليون دولاراً من الأموال المناظرة للولايات التي بدأت برامجها الخاصة بها، ولكن حتى ولو أخذت كل ولاية حصتها من المال فسيكفي هذا فقط لإنشاء ما يقرب من ١٠٠ برنامج تدخل مبكر في أرجاء الدولة كلها.
2 افترض بعض الخبراء بأن مطلق النار آدم لانزا لديه حالة فصام لم تشخص
ولا عجب في أن يكون أحد أسباب تخلف الولايات المتحدة -أشد من بقية العالم- هو نظامها المختل اختلالا وظيفياً شديداً- لتمويل الرعاية الصحية عامة والرعاية الصحية العقلية خاصة، فلأنظمة الرعاية الصحية الوطنية في الدول الأخرى سلطة واسعة لوضع الأولويات والميزانيات، ويستطيع الموظفون الرد سريعاً على الأبحاث الصادرة وتكوين فكرة طويلة المدى عن الاستثمارات الاجتماعية لأنهم – وبعكس شركات التأمين – ليس لديهم شركاء لإرضائهم.
منح قانون الرعاية -ميسورة التكلفة –كثيرا من الأمريكيين حق الحصول على تأمين، 3 لكن شركات التأمين الخاص في الولايات المتحدة غير مجهزة لعلاج الأمراض النفسية الخطيرة، وقريباً سيتجنبون الاضطرار لفعل ذلك، فقد كفوا يد الرعاية الصحية العقلية لمنشآت "مجتزأة" تميل للزج بالعلاجات البسيطة والرخيصة كالأدوية وتقتر على العلاجات كثيفة العمل والأكثر فاعلية كالمعالجة والدعم، حتى وإن كانت هذه الطرق توفر مالاً أكثر مع الوقت، وحتى ولو كان من المفترض أن تشمل المؤمّنين جميع خدمات الصحة العقلية والتي تعد "ضرورية طبياً" فللشركات حظ وافر من حرية تحديد المؤهلات، فالخدمات التي يعتقد الآن كثير من الباحثين أنها ضرورية؛ كالمساعدة على البقاء في المدرسة أو الحفاظ على الوظيفة قد لا تكون مستحقة للتعويض، ويقول بيركنز الطبيب النفسي بجامعة نورث كارولينا: "عندما تدفع لشيء ما فلابد أن يكون لديك شفرة لكل شيء، إلا أنك لا تستطيع ذلك مع بعض الأشياء كالخدمات المهنية"
3 ذكر هاوارد قولدمان, طبيب نفسي وخبير في الصحة العامة في جامعة ماريلاند ميزة أخرى لقانون الرعاية ميسورة التكلفة, فبالسماح للبالغين الصغار بالبقاء على تأمين والديهم يحفظ القانون الحصول على حق الرعاية النفسية في اللحظة التي يحدث فيها الذهان للبعض للمرة الأولى.
هناك أيضاً مشكلة أعمق في العمل، فالكثير من الناس وبعض مهني الصحة العقلية يعتقدون بأن المرض النفسي شيءٌ مختلف أساساً عن المرض البدني، ولكن كلما تعلمنا أكثر عن المرض العقلي قل ظهور هذا الفارق، ويعتقد ماكوري الآن بأن نموذج الفحص والرعاية الوقائية، والمعالجة المبكرة الاستفزازية: يمكن أن تستخدم لا لتقليل حدوث الفصام فحسب بل والأمراض العقلية الأخرى كالاكتئاب ومرض ثنائي القطب، وقد أزمعت مبادرة ممولة حكومياً إنشاء مراكز "Headspace" في جميع أنحاء عيادات أستراليا المفتوحة والتي يمكن أن يذهب إليها المراهقون والبالغون دون إحالة من الطبيب، للحصول على استشارة مجانية أو معالجة لجميع أنواع الحالات العقلية، ويقول: "إن خمسة وسبعين بالمائة من الاضطرابات العقلية تظهر في عمر الخامسة والعشرين، وحصة كبيرة منها لدى المراهقين أو البالغين".
قد تكون الولايات المتحدة بعيدة جداً عن تقديم أي شيء مستقبلي لكن هناك خطوات متواضعة يمكن لصانعي السياسة اتخاذها الآن والتي ستحدث فرقاً كبيراً، فتحت قانون الرعاية ميسورة التكلفة استطاع منظمو الولاية والاتحاد الفيدرالي إلزام شركات التأمين بتضمين جميع جوانب خدمات التدخل المبكر، ولو ضاعف الكونغرس المال المخصص للتدخل المبكر في ٢٠١٤ مثنى أو حتى ثلاث فسيكلف ذلك أقل من ١٠٠ مليون دولار في السنة – بالكاد ينقص من ميزانية الاتحاد الفيدرالي، كما يمكن أن يدرك صانعو السياسة بأن رسوم الأمراض العقلية في ميزانية الأبحاث تشابه رسوم الأمراض الأخرى الكثيرة، والآن من دولار تنفقه الحكومة الفيدرالية على الأبحاث الطبية -من خلال المؤسسات الوطنية الصحية- يذهب ١٦ سنت لفيروس العوز المناعي البشري/ الإيدز و ١١ سنت للسرطان وأقل من ٤ سنت لجميع الأمراض العقلية.
في محادثاتي مع تمارا كنت أُذكّر غالباً كيف أن خيارات السياسة هذه تشكل حياة الناس مباشرة، فبعد ظهر أحد أيام يوليو ذهبت أنا وتمارا لمقابلة غلين الذي أصبح عمره الآن ٥٧ عاماً في منتزه يحب أن يجلس فيه، فيه أرجوحة ومنطقة تنزه وأشجار طويلة وكثيفة تغطي معظم الأرضيات بالظلال، وكان غلين مرتدياً سترة سباق كحلية قديمة ذات أكمام رخوة ممزقة، ومقلمة أسفل الذراعين المنزوعتين، وبنطلوناً رياضياً ذا خروق كبيرة جداً، وتتلبد كتل من الشعر الناعم على بضعة بقع فوق رأسه الأصلع، وكانت لحيته الكثيفة بيضاء عدا أثر التبغ البرتقالي المحترق حول شفتيه، وعندما كنا نتحدث كان يتجرع مراراً من قارورة بلاستيكية، مملؤة بسائل مصفر وبعض الحبوب في الأسفل – أوراق شاي وحبوب قهوة تساعد في صد الأرواح الشريرة كما يقول.
1 لوحة فنية رسمها غلين قبل مرضه,
2 إحدى مسودات رسمه بعد أن بدأ يتعرض لنوبات ذهانية.
الذهان يأتي ويذهب، فقبل بضعة أعوام كان غلين في نادي لهواة اللاسلكي وكان يتحدث بجدية عن عمله على بعض اختراعاته؛ ولم يكن مظهره أشعثاً في صور عائلية في ذلك الوقت، وعندما توفي والد غلين في عام ٢٠١٣ أصبح يكره السفر, وتعتقد تمارا بأن شعوره بالفقد قد أدى إلى تدهوره الأخير، ويعيش الآن في مسكن جماعي حيث منح رعاية حب واهتمام وتقدّر رغبته طويلة الأمد في تجنب الدواء، وفي معظم الأيام يقضي ساعات يقظته في إطعام الطيور والاستماع إلى آيات من الإنجيل على شريط مسجل والبحث عن اهتماماته الحالية، والتي تشمل احتمالية عودة الأموات للحياة وتقنية تسمى "Voice to Skull" والتي تستخدمها الملائكة والأرواح الشريرة كما يعتقد غلين؛ لإرسال رسائل إلى عقول الناس، حيث أخبرني غلين قائلاً: "قد تكون طريقة للشياطين للتحدث مع الناس والملائكة الكرام أيضاً، فالرسول بول رأى نوراً يسمى عيسى يتحدث إليه، ويقول الإنجيل بأن الرب هو النور، والراديو جزء من الطيف الضوئي، لذا فإن تقنية Voice to Skull قد تكون طريقة لعيسى للتحدث مع الناس" (بالرغم من ثقته إلا أنه ليس متأكداً من أن طلاب الكليات لم يكونوا يستخدمون التقنية للتمثل بالملائكة كمزحة) كان غلين لطيفاً وأنيساً وبالرغم من أنه غالباً ما ينظر إلى الأسفل أو بعيداً في الفراغ حينما يتحدث إلا أنه غالباً ما ينظر إلي نظرة رقيقة بعينيه الخضراوين اللامعتين، وكان يظهر عواطفه قليلاً حتى عندما يخيب أمله في تمارا لأنها لم تخبر لجنة الاتصالات الفيدرالية بvoice to skull كما طلب منها.
وقد أخبرتني تمارا لاحقاً بأنها ترى أخيها ملهماً مع كل معاناته، وتعتقد دائماً بأنه سيتحسن يوماً ما، وتقول: "أقدر بعمق كل لحظة سعادة أو صداقة مر بها وكل محادثة بيننا" إلا أنها أحياناً تجد نفسها تفكر فيما كان سيحدث لو أن أخيها حصل على الرعاية نفسها التي يحصل عليها المرضى الصغار في برنامجها.
"كان ذكياً جداً وعاقلاً جداً، ومهتما بالتعلم، فقد أراد أن يكمل دراسته، وأراد كل الأشياء الأخرى التي يريدها الآخرون، أراد أن يعمل، وأراد أن يصاحب فتاة، أتدري؟"
علّمها عملها أكثر من أي شيء آخر ما الذي يصبح ممكناً عندما يعامل الأطباء ذوي الأمراض العقلية كأشخاص لهم مستقبل.